هي مقالب مرتَّبة بعناية، غرائب وعجائب، مغامرات قادت أصحابَها إلى مَطبّات.. «شغب» وعبث طفولي بريء، شغبُ مراهقة، مواقف طريفة تتميز بالفرادة والاستثناء والجاذبية وتثير الضحك، تستعيد الكثير من ذاكرتنا المشترَكة. هذا ما سنتعرف عليه من خلال حكايات كتاب وفنانين، أبَوا إلا أن يشاركوا بعضهم البعض، ومعهم القارئ، طبعا في هذا البوح الحميمي والجميل، الذي افتقدناه في زمن رسائل «البورطابل» القصيرة وسطوة التلفزيون ووسائل الاتصال الحديثة، ونصوص هذه السلسلة الموسومة ب«شغب قديم»، تصلح سيناريوهات لأفلام روائية قصيرة، لتوفرها على جميع التوابل!... الواقع أن كل ذكريات الطفولة والشباب الأول تتحول في دواخلنا إلى نوستالجيا جميلة وفردوس مفقود كلما تقدم بنا العمر، رغم ما تضمنته من معاناة وأحداث ووقائع حزينة. عندما كنت في المدرسة الابتدائية، كنت أقضي رفقة أبي معظم وقتي الثالث في العرصة المحادية لقصبة بني عمار، المتربعة على حافة عالية خضراء تطل على مساحة كبيرة من شمال المغرب. في أحد الأيام من موسم الجفاف، أوصاني أبي قبل أن يذهب للسوق بأن أقطع بعض أوراق «أضلف» شجر الصبار المنتشر على المنخفض، لتقطيعها في المساء إلى قطع صغيرة وتقديمها وجبة شهية للبقرات كي توفر بعض الحليب. عندما ذهب أبي، ناديت اثنين من أولاد الدرب، ومنحتهم منجلا لكل واحد، وبدأنا مجزرة الصبار بشغف طفولي، حتى أتينا على مساحة كبيرة أصبحت شجيراتها من الصبار شبه عارية، بينما غطت مخلفات المجزرة من «أضلف» الصبار الأرض تماما. كانت بالنسبة لنا مجرد لعبة ممتعة، لا أثر فيها لحسن التدبير أو لاعتبارات من هذا القبيل. لكن عندما عاد أبي رحمه الله، وقف مشدوها أمام منظر مجزرة الصبار، وكان علي أن أداري غضبته وأصبر لضربات حزامه الجلدي الخشن. خلال ذلك الموسم كان منتوج الصبار من «الهندية»، ضعيفا بسبب المجزرة، وفي السنة التالية تحسن المنتوج بشكل كبير، فقال لي أبي إن ما قمنا به من لعب مجنون كان له دور إيجابي في ذلك. في تلك السنة حصلت على الشهادة الابتدائية، وفي السنة الموالية كان علي أن أنتقل إلى مدينة مولاي إدريس لمتابعة دراستي الإعدادية. طلب مني أبي أن أؤجل السفر إلى مولاي إدريس إلى يوم الاثنين من أجل القيام بعملية التسجيل في الإعدادية، لأنه سيذهب إلى سوق السبت، وعلي أن أرعى البقرات خلال ذلك اليوم. ركبت في الصباح حماري الأشهب وسقت البقرات إلى حقلنا الذي يبعد بحوالي ستة كيلومترات عن القرية بمنطقة تسمى «عقيبة الحجر». مر اليوم السبتمبري بشكل طبيعي، لكن في المساء وأنا استعد للعودة إلى البيت من حقلنا البعيد في الجبل، بعدما غافلني النوم إلى حدود الغروب، أفقت مسرعا على صوت الحمار الذي كان ينهق بقوة وهو يرى حمارا غير بعيد عن الحقل يقطع الطريق المحاذية، أفقت مدهوشا وانحنيت متعجلا تحت عنق الحمار لأنزع عنه القيد، فعضني فجأة من كثفي الأيمن، وحين تخلصت منه تعثر فوقي فأصبحت تحته وهو ينهق ويفتح فمه الكبير في وجهي. انتابني الخوف من أن يعضني من رأسي فحاولت ضربه بقبضة يدي، لكني لم أفعل سوى وضع الجزء الأسفل من ساعدي الأيمن بين أضراس فمه الطويل. ضغط بكل قوة على يدي محدثا طقطقات وجرحا عميقا في ساعدي لا زالت آثاره بادية. عندما هدأ قلبته إلى الجهة الأخرى ولففت يدي النازفة في سترتي وابتعدت إلى حدود الحقل. أرسلت الصغير عبد المغيث الذي كان يرافقني إلى القرية للمناداة على أبي. غير أن حلول الظلام جعلني أترك البقرات والحمار ورائي وأتجه نحو قصبة بني عمار. في منتصف الطريق التقيت بأبي المتعجل والغاضب، تابع كل منا طريقه بعد أن عاين إصابتي. في الصباح الباكر أركبني أبي على نفس الحمار الأشهب الذي عضني. اندهشت عندما رأيت رأسه منتفخا تماما من كثرة الضرب الذي لحقه من أبي حتى أصبح أشبه بكرة ريكبي. عندما وصلنا إلى مركز النزالة ركبنا حافلة متجهة إلى مدينة فاس. لم يكن أمامنا سوى التوجه إلى عيادة إبن خالي الطبيب الدكتور محمد الخضوري الذي تكلف بإسعافي كما كان يفعل دائما في مثل هذه الحالات. بعد أن قضيت بضعة أيام في نقاهة إجبارية، التحقت بالفصل الدراسي بإعدادية مولاي إدريس ويدي اليمنى ملفوفة ومعلقة. كنت أنذاك لا أحب البقاء بالمدينة الصغيرة ذات الشارع الوحيد حد الرتابة، كنت أصر على العودة إلى القصبة على بعد 12 كيلو متر كل نهاية أسبوع، حتى عندما افتتحت الداخلية أبوابها، كنت أفضل أن أقضي نهاية الأسبوع مع والدي في الأشغال الفلاحية، رفقة الحمير والبقر والكلاب، عوض أن أبقى مسجونا داخل أسوار الداخلية، تحت مراقبة حارس عام قصير القامة لا يتحدث مع التلاميذ القرويين المقيمين إلا بالصفعات. في القرية، كان الناس يتنذرون بمغامرات مدير المدرسة الابتدائية آنذاك. لم يبتلع أحد فكرة كون المدير يحول مكتبه بالليل وخلال العطل إلى ملعب للقمار، يجتمع به تحت جنح الظلام كل أولائك المبتلين بلعب «العيطة»، ويستمرون في اللعب طوال الليل، تبدأ المهزلة بخمسين درهما للطرح، وتصل إلى الف درهم عندما يلتهب اللعب، فيفرح من يربح ويقرح من تكون الخسارة من نصيبه. كان ذلك مؤشرا مبكرا على تحول المدرسة المغربية إلى مقبرة للعلم والمعرفة والتكوين ومرتعا للفساد والإفساد. كانت حكايات لعب القمار معروفة في أوساط واسعة من السكان، ونتيجة لذلك تعرضت قيمة التربية والتعليم لنوع من التراجع والهوان والإذلال، كما تراجع مستوى التعليم بشكل كبير. لكن السكان المساكين لم يكن بإمكانهم مواجهة مدير المدرسة الذي كانت تربطه علاقات قوية مع لوبيات السلطة والمال بالمنطقة، بل إن بعض رفاقه على طاولة القمار كانوا من هؤلاء. استفز استمرار وتكرار تلك الأفعال المشينة بالمدرسة الكثير من الناس، ففكرت أنا وأحد أصدقائي في الانتقام من المدير. تسللنا في أحد الأيام خلسة إلى مكتبه الذي حوله إلى طاولة ليلية للعب «العيطة» مع رفاق السوء من أمثاله. بحثنا بين بمحتوياته، فعثرنا على نوع جيد من ورق القمار مخفيا تحت بعض الملفات. وضعنا خاتمه على ورق القمار كله وأخذنا ذلك معنا وتركنا ورقة واحدة فوق المكتب مؤشرة بخاتمه. انتبهنا إلى الكتب المكدسة في الخزانة، كانت مملوءة عن آخرها بالكتب التي لم يسبق لي أن رأيتها بالمدرسة عبارة عن قصص باللغتين العربية والفرنسية وقواميس وكتب مدرسية كثيرة. الواقع أننا لم نستفد منها كتلاميذ طيلة السنوات التي قضيناها تحت إمرة هذا «المدير» لاعب القمار، لذلك أخذنا بعض القصص والكتب لنقرأها. قلت لصديقي ونحن نخرج من المدرسة: لو كان هذا المدير يهتم بتوزيع الكتب علينا نحن التلاميذ لنستفيد منها، لما كان ليفكر مجرد التفكير في لعب القمار. اضطر المدير إلى التوقف عن التسلل ليلا إلى مكتبه رفقة رفاقه من «القمّارة» للعب الورق، واستبدلوا المدرسة بمحلات أخرى. مرة في بيت أحدهم أو محله التجاري، ومرة في أحد المقاهي، وحين لا يجدون مكانا لممارسة رياضتهم المحببة، يتحلقون في ركن معزول تحت ضوء القمر إذا كانت الليلة مقمرة، أو على ضوء سياراتهم إذا كان الليل حالكا ويغرقون في أتون هوايتهم؟ لكن المدرسة بقيت تعاني إلى أن تم تغيير هذا المدير الاستثنائي. . * شاعر