بعدما تمكن المغاربة من إخراج وثيقة دستورية جديدة، تعبر عن بعض المعالم الكبرى للمشروع المجتمعي المنشود- طرح السؤال من جديد: هل تمثل هذه الوثيقة "الإجماع الوطني" حول نوعية المواطن المغربي الذي نريد تكوينه في المستقبل؟ و هل يترتب عن ذلك أن يكون المشروع التربوي المأمول معبرا عن روح هذا "الإجماع الوطني"؟ وهل يستلزم ذلك مراجعة عامة لفلسفة وبنود ومضامين الميثاق الوطني للتربية والتكوين أم إن هذه المراجعة لن تكون إلا جزئية ومحدودة؟ وهل يمكن القول إننا بوصولنا إلى التوافق حول الوثيقة الدستورية، نكون قد قطعنا، فعلا، مع إشكالات التوافق الهجين والمغشوش، والتي تتفجر عند كل عملية بناء القيم المدرسية أو تغييرها أو تحيينها؟ هذه الأسئلة وغيرها قد يطرحها أي متتبع للحقل التربوي، باعتباره حقلا صراعيا بامتياز، تتداخل فيه مصالح الفئات المجتمعية ورهاناتها الإيديولوجية، سواء المعلنة والمصرح بها أو الخفية والمسكوت عنها. أولا في جدلية القيم والرؤية المجتمعية في المدرسة المغربية: لا شك أن طرح هذه الأسئلة، وغيرها مما لم نتمكن من الإحاطة به، يساعدنا في فهم بعض الإشكالات المتعلقة بمنظومة القيم ؛ ذلك أن هذه المنظومة، كما هو معلوم لدى دارسيها، تتضمن -بالإضافة إلى باقي المكونات (المعارف الواجب تعلمها) والمنهجي (الآليات وأساليب التدريس والتقويم وما إلى ذلك)- الرؤية القيمية والفلسفية، والتي يمكن أن نعبر عنها بالأسئلة الوجودية التالية: ماذا نريد بالمدرسة؟ ولأية أهداف؟ وما هو نوع المواطن الذي نريد تخريجه من النظام التعليمي؟ وما هي الغايات الكبرى التي نسعى إلى تحقيقها؟ ووفق أية رؤية فلسفية أو فكرية أو سياسية أو اقتصادية أو علمية وحتى تقنية؟ نظرا إلى خطورة هذه الأسئلة، فإن عملية بناء أو تغيير أو حتى تحيين المناهج تكتسي أهمية قصوى في بناء المشروع التربوي داخل مجتمع ما؟ وحتى يمكننا التقدم في بناء هذه الإشكالية، فإننا نومئ أولا إلى أنه من بين الوظائف المحورية للمدرسة(جمعية أماكن، 2013)، نجد: 1-الوظيفة التنشئوية الاجتماعية: والتي تسعى المدرسة من خلالها لانتاج وإعادة إنتاج القيم المجتمعية والمحافظة عليها وضمان استمراريتها، وبشكل خاص تربية أفراد المجتمع على مجموعة من المعايير والمبادئ والاخلاقيات الموجهة للممارسات والسلوك والاتجاهات والقيم. 2- الوظيفة التثقيفية: والتي تعني نقل المعرفة والقيم الانسانية والثقافية والفكرية في صيغتها المعيارية والنموذجية، ولعل هذه الوظيفة من أهم الوظائف على الإطلاق والتي عرفت في السنوات الأخيرة تصدعا وهشاشة في الرؤية والتنظير والتطبيق والتمثل الفردي والمجتمعي. وما طرحنا لها في هذا السياق إلا كواجهة لتقديم السند الثقافي والقيمي للمؤسسة التربوية ببلادنا. وفي هذا الصدد لا بد من طرح مسالة جدلية بامتياز: فالبعض يعتبر ان المدرسة جزء من المجتمع، وبالتالي فإذا كان المجتمع مريض فإن المدرسة بالتبع تصبح هي الأخرى معتلة ومريضة وغير قادرة على القيام بأدورها: سواء التنشئوية أو التثقيفية أو حتى التأهيلية. بينما يرى البعض الأخر –ونحن من مناصري هذا التوجه- أن المدرسة يمكنها أن تطور المجتمع وأن تقوم بدور ريادي في عملية غرس القيم وتنميتها وإقدار الأفراد كما الجماعات بكل الآليات والسند لمواجهة كل أشكال التردي والتخبط والتصدع. ولعل المثال الذي يحضرنا في هذا الإطار، هو مسألة تعليم اللغة، فرغم أن المجتمع يتداول في لسانه اليومي أشكالا من اللهجات المتعددة والمختلطة، فإن الطفل عندما يلتحق بالمدرسة، يتعلم لغة معيارية في صيغتها المثلى الكلاسيكية أو العالمة، ويبدأ في تلقي بل وبناء الأنساق اللغوية الذهنية ثم الشفهية وفي مرحلة متقدمة الكتابية. وهذا المثال يصدق على القيم، فرغم كون المجتمع يقدم قيما معارضة للمدرسة، ومن ثم لقيم العلم والمعرفة، فإن الطفل عندما يجد المدرسة منسجمة ومتوافقة مع الأهداف العليا المتفق بشأنها، يبدأ في النهل من مرجعياتها ومن معلميها ومدرسيها الشيء الكثير، وهكذا دوليك. في إجابتنا عن سؤال أية قيم لأي مدرسة؟ يمكن أن نشير إلى المعطى الموضوعي الذي لا يمكن تجاهله، وهو أن لحظة الدستور الذي صوت عليه المغاربة بالإجماع في فاتح يوليوز من العام 2011، والذي أصبح وثيقة فوق كل الوثائق السابقة. وقد نبهت الخطب الملكية التي تلت هذا الحدث خصوصا في خطابه لعيد العرش لسنة 2012، إلى مسألة المواءمة بين نص الوثيقة الجديدة ونص الميثاق (وإن لم يشر لها بالاسم) لكن بالعودة إلى الخطاب وبإعمال ألية التأويل السياقي والظرفي، يمكن القول أن الخطاب يوجه عناية النخب و قواه الحية وممثليه المجتمعين، لكي يبلورا رؤى تجديدية تنسجم مع هذا المستجد. وعموما سواء ذهبنا في اتجاه الاستناد إلى الخطاب الملكي –الذي يعتبر مرجعا- أو أعملنا اجتهادنا الخاص –، فإن المطلوب هو المساهمة في بناء مشروع تربوي جديد تقوم فلسفته وروحه على بنود الدستور الجديد، -طبعا في استحضار لبعض المواد المهمة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين. وعليه وتأسيسا على ما سبق، فإننا نعتقد أن التغيير الذي يمكن أن يطال الرؤية الفلسفية لمنظومتنا التربوية إلا يجب أن يستحضر هوية المجتمع المغربي بتعدد روافده وبتشبعه بالقيم الدينية السمحة وبانفتاحه على القيم الكونية –انفتاحا مرنا وذكيا وعقلانيا-، وليس انفتاح استيلاب وارتماء وتماه مطلق- ويمكن إجمال بعض معالم الرؤية القيمية في العناصر التالية: 1-البعد الديني: والمتمثل في الدين الاسلامي السمح وفي قيمه الانسانية النبيلة وأهدافه العليا ومراميه الفضلى، وفق روح تجديدية وإبداعية مولدة للأخلاق والقيم التثويرية والنهضوية والحضارية. 2-البعد الحضاري: والذي يضم مختلف الروافد الثقافية والتاريخية والأنثروبولوجية التي ميزت طبيعة المغاربة والمغرب عبر العصور، وهكذا يمكن الحديث عن الرافد الاندلسي والإفريقي والعبري والصحراوي/ الحساني. وهذه الروافد بتعددها وغناها تمثل عناصر لصقل هوية المغاربة وإذكاء تميزهم على الصعيد العالمي. 3- البعد اللغوي: والذي يظهر أن المستجد فيه هو التنصيص على اللغة العربية كلغة معيارية للمغاربة بالإضافة إلى اللغة الأمازيغية، واللتان تمثلان مبدأ استقلال المغرب وضمان هيبته وتمييزه. هذا بالإضافة إلى إدخال مفهوم اللغات الاجنبية وتدقيقها باللغات الحية المستعملة في الكون، مما يفهم منه أننا إزاء توجه جديد يستشرف فك الارتباط باللغة الفرنسية كلغة اولى للغاربة. 4- البعد الكوني، بما يتضمنه من قيم كونية إنسانية سامية، كقيم حقوق الانسان والعدل والحرية والكرامة والخير والحقل والجمال. لكننا نعتقد أن عملية استلهام هذه القيم الكونية، وجب أن يكون وفق رؤية إبداعية وتجديدية تتجاوز أعطاب الماضي وإشكالات التلفيق والتنميق المخلة بهذه القيم. ثانيا: خلاصات وتساؤلات نقدية تطرح جدلية القيم بالمدرسة، عدة تساؤلات وعدة استشكالات، فإذا كان البعض يرى أن المدرسة –باعتبارها مؤسسة من أهم المؤسسات الاجتماعية والتنشئوية- يجب عليها أن تكون مجالا للتربية على قيم الاختلاف والتعدد والاختيار. فإن البعض الآخر يرى أن هذه المؤسسة عليها أن تمرر القيم المتفقة عليها داخل المجتمع وأن تترك المختلف فيه، لبقية الوسائط التنشئوية، كالاعلام والأحزاب والجمعيات والمنتديات وغيرها، ممن لهم الآليات على المساعدة في التنشئة الاجتماعية. إن هذين الطرحين، يبقيان وجيهين، ولهما من الدفوعات الشيء الكثير، ونجد لهما أمثلة في مختلف المنظومات التربوية العالمية. لكن بقدر ما يظهر أن الطرح الثاني،- وهو المدرسة المتعددة القيم، والتي تتبنى التربية على قيم الاختيار-، يتماشى مع التوجهات العالمية الكبرى، في مجال القيم الكونية والتربية على الاختيار، فإن التنزيل العملي لهذا الاختيار، تلفه العديد من الصعوبات والمحاذير والأخطار. ولقد حاولنا أن نبين –ولو في حدود معينة- بعض النتائج السلبية التي حدثت في المدرسة المغربية، جراء تبنيها لهذا التوجه. لذا نعتقد أن معاودة طرح هذه المسألة على النقاش العمومي، وبدرجة أكبر على الخبراء والمتخصصين في سوسيولوجيا القيم والثقافية والتربية، يعد في نظرنا خطوة هامة في أفق التوصل إلى صيغة معقولة ولها قابلية للتطبيق في المدرسة العمومية. خصوصا ونحن نشهد أن العالم تجتاحه عدة تحولات في مجال القيم. ولعل الأخطر في هذا التحول هو ضعف الاجماع حول القيم المجتمعية، أو بشكل حاد غياب تام لمجموعة من القيم التي كانت تؤطر المجتمعات السابقة، مما يجعل من سؤال: أية قيم لأي مدرسة، وأية مدرسة لأية قيم؟ سؤالا جد حارق ويحتاج إلى جواب مجتمعي، بل إلى رؤية مجتمعية، أو لنقل لمشروع مجتمعي. ولهذا فقد حاولنا –في هذه المساهمة- أن نحدد بعض المنطلقات الأولية، والتي نتصور أن تكون عملية انطلاق ورش تغيير الفلسفة التربوية –والتي تعني الغايات والمرامي الكبرى للمشروع المجتمعي- منبنية علىى تلك المقومات السابقة مستحضرة لروحها ولفلسفتها، وهذا ما نعتقد أن يظهر على مستوى بناء المناهج الدراسية وفي كل سيرورات الورش الفكري للمدرسة المغربية. وذلك في أفق يحدد الانسجام في الرؤية المجتمعية البعيدة كل البعد عن لغة التوافق الهش والتكتيكي أو لغة التلفيق والترميق التي لن تخدم في شيء منظومتنا القيمية ومدرستنا للقرن الواحد والعشرين.