سجل الدكتور أحمد مفيد، أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، عددا مما أسماها رسائل قوية ومباشرة ضمها خطاب الملك محمد السادس، يوم الجمعة الماضي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان، حيث شمل مجموعة من الدروس الهامة. وسرد مفيد، في مقال خص به جريدة هسبريس، بعضا من تلك الدروس، ليس أقلها درسا نموذجيا في المواطنة والاعتزاز بالانتماء للبلد، ودرسا آخر في الأخلاق السياسية، فضلا عن رسائله القوية بخصوص الإعداد للانتخابات المقبلة التي ستشهدها المملكة بعد شهور قليلة. وهذا النص الكامل لمقال الدكتور أحمد مفيد كما توصلت به هسبريس: بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان الرسائل القوية والمباشرة في الخطاب الملكي طبقا لمقتضيات الفصل الفصل 65 من الدستور الذي يخول لجلالة الملك افتتاح الدورة الأولى "الخريفية "للبرلمان، ترأس الملك يوم الجمعة 10 أكتوبر 2014 افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية التاسعة. وقد تميزت هذه الدورة بالخطاب الذي قدمه الملك، والذي تميز بالقوة والجرأة والصراحة، كما تضمن العديد من الرسائل القوية والمباشرة، والتي تهم جميع الفاعلين والعديد من المؤسسات والجهات. فهذا الخطاب الملكي يمكن اعتباره درسا نموذجيا في المواطنة، حيث عبر من خلاله جلالة الملك عن اعتزازه بالانتماء للوطن، ودعا كل المغاربة ليكونوا كذلك معتزين بوطنهم. وفي هذا الدعوة الكثير من الرسائل، حيث أن المغرب وعلى خلاف ما تعرفه العديد من دول المنطقة سواء المغاربية أو العربية والإفريقية، فهو يتميز بالاستقرار وبسيادة الأمن وبالتعايش الكبير بين كل مكوناته، والمؤسسة الملكية تلعب بطبيعة الحال دورا هاما وأساسيا في هذا الاستقرار الذي يعد من بين أهم مكونات الرأسمال غير المادي، والذي يجعل من المغرب يشكل نموذجا لغيره من الدول. ولهذا فمهما كانت طبيعة مواقف مختلف الحساسيات السياسية والحقوقية مما تم انجازه بالمغرب في إطار مسار الانتقال الديمقراطي، فينبغي الاعتراف بأن المغرب في الطريق الصحيح، وبأنه حقق العديد من المنجزات، وبأنه أفضل بكثير من غيره من الدول، وبأن مسار وخارطة الإصلاح معروفة، ولهذا ينبغي انخراط جميع مكونات الشعب المغربي في إطار هذا المسار الذي يستهدف جعل المغرب في مصاف الدول الصاعدة، وجعله دولة قانون تحترم فيها الحقوق والحريات وتسود فيها الديمقراطية. كما أن التعامل مع القضايا الوطنية ينبغي أن يكون بالموضوعية المطلوبة، فالانخراط الايجابي والمشاركة الفعالة في القضايا الوطنية أمر واجب، والنقد البناء أمر مرغوب وضروري، ولكن العدمية أمر مرفوض وغير مقبول كيفما كانت أسبابه ومبرراته. كما يمكن اعتبار الخطاب الملكي درسا نموذجيا في الأخلاق، حيث ركز الملك على أهمية الأخلاق في الممارسة السياسية وذلك بعدما نبه إلى أن " أن المتتبع للمشهد السياسي الوطني عموما، والبرلماني خصوصا يلاحظ أن الخطاب السياسي، لا يرقى دائما إلى مستوى ما يتطلع إليه المواطن ، لأنه شديد الارتباط بالحسابات الحزبية والسياسوية". وبكل صراحة فالواقع يثبت بأن من أكبر المعضلات السياسية بالمغرب هو طبيعة الممارسة السياسية التي تكشف بأن العديد من الأحزاب والفاعلين السياسيين أصبحوا يتبنوا خطابا لا يليق إطلاقا بالممارسة السياسية الفضلى، والدليل على ذلك هو طبيعة المصطلحات المستعملة واللجوء للسب والقذف، وكثرة الجدل السياسي الفارغ، والإغراق في الحسابات السياسوية الضيقة، والتركيز على الصراعات الشخصية...، وفي مقابل ذلك لا يتم التركيز على تنافس البرامج والسياسات العمومية البديلة القادرة على ترجمة مقتضيات دستور 2011 والتجاوب مع متطلبات وحاجيات مختلف المواطنات والمواطنين. ولهذا أصبح من الضروري تجاوز هذا المنطق المتخلف في الممارسة السياسية، واعتماد مقاربة بديلة تجعل من العمل السياسي وسيلة مثلى لخدمة قضايا الوطن والمواطنين، ولتنافس البرامج، وليس لتحقيق مكاسب أو مصالح شخصية أو حزبية ضيقة. ومع كامل الأسف فما شهده البرلمان من فوضى وضرب وسب بين بعض البرلمانيين وذلك حوالي ساعة بعد انتهاء الخطاب الملكي، يعتبر أسوأ تنزيل للخطاب الملكي، ومثالا حقيقيا عن طبيعة ونوعية النخب السياسية. ولهذا فمن أجل تغيير هذا الواقع لابد من إعادة النظر في معايير الترشيح لعضوية البرلمان وسائر المؤسسات المنتحبة، وهذا الأمر تقع مسؤوليته أولا وقبل كل شيء على الأحزاب السياسية التي يجب عليها التدقيق في معايير الترشيح واعتماد الخبرة والكفاءة والالتزام وحسن الأخلاق والقدرة على التواصل... كمعايير من أجل الترشيح، فالنخب يجب أن تكون قدوة لغيرها. والمغرب بحاجة ماسة لنخب جديدة قادرة على ترجمة دستور 2011 إلى سياسات عمومية وإجراءات وممارسات من شأنها المساهمة في مسار التنمية السياسية والبشرية التي يعرفها المغرب. كما أن الأحزاب السياسية والتي يعد وجودها شرطا أساسيا لوجود للديمقراطية، يجب أن تكون ديمقراطية في هياكلها وفي تجديد نخبها وفي التداول على مراكز القرار فيها وفي طرق عملها وفي ممارساتها وفي تحالفاتها، ففاقد الشيء لا يعطيه ، ولهذا فإذا كانت الممارسة الحزبية ديمقراطية فإن المسار الديمقراطي للمغرب سيتعزز، والعكس صحيح. ومن بين الرسائل المهمة أيضا في الخطاب الملكي، هي ما يتعلق بالانتخابات المقبلة، والتي طرح جلالة الملك بخصوصها سؤالا صريحا حينما خاطب البرلمانيين بالعبارة التالية: "ماذا أعددتم من نخب وبرامج للنهوض بالشأن العام؟". فالإشكال في المغرب ليس دائما إشكال قوانين ومساطر، وإنما أساسا هو إشكال النخب، ولهذا من الضروري وبهدف محاربة العزوف السياسي والانتخابي، أن يتم الانفتاح على نحب جديدة وتكوين نخب أخرى قادرة على الاضطلاع بتدبير الشأن العام، وقادرة على صياغة البرامج والسياسات، لأن الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها كما يقول جلالة الملك، "وإنما يجب أن تكون مجالا للتنافس السياسي بين البرامج والنخب، وليس حلبة للمزايدات والصراعات السياسوية". ومن الضروري في هذا السياق الحرص على أن تكون كافة الاستحقاقات الانتخابية نزيهة وشفافة، وينبغي توفير الشروط اللازمة لذلك سواء على مستوى التشريعات أو على مستوى الإشراف والتدبير واللوجستيك، حتى تكون الانتخابات معبرة عن الإرادة الحقيقية للشعب المغربي، وحتى تتمتع المؤسسات المنتخبة بالمصداقية المطلوبة والتي تعد من أهم عوامل ومؤشرات النجاح. وكل خلاف في هذا الخصوص ينبغي تركه للقضاء المختص ليقول كلمته فيه، فالقضاء الإداري والمحكمة الدستورية مختصان في المنازعات الانتخابية كل بحسب ما ينص عليه القانون، والقضاء الجنائي مختص بالجرائم الانتخابية. وينبغي تفعيل مقتضيات الدستور والقوانين الجاري بها العمل في هذا الخصوص، احتراما لمبدأ سمو الدستور وإعمالا لمبدأ سيادة القانون. ومن الضروري الإشارة بهذه المناسبة لكون الدورة البرلمانية الحالية تعد دورة تأسيسية بامتياز، بالنظر لطبيعة ما سيعرض على البرلمان من مشاريع قوانين تنظيمية ومشاريع ومقترحات قوانين عادية، والتي تهم استكمال البناء الدستوري والمؤسسي للبلاد سواء فيما يتعلق بالسلطة القضائية أو بالهندسة الترابية الجديدة للمملكة المغربية أو بالمالية العمومية... وبهذا يظهر جليا بأن التحديات كبيرة والرهانات أيضا، وهذا ما يطرح على عاتق كل من الحكومة و البرلمان بأغلبيته ومعارضته العديد من التحديات والتي لا مفر من ضرورة النهوض بها خدمة للمصلحة العليا للوطن وتكريسا للوضع المتميز للمغرب مقارنة مع العديد من الدول في المنطقة المغاربية والعربية والإفريقية. كما أن من الواجب على كل المؤسسات الدستورية من حكومة وبرلمان، احترام وتفعيل وتطبيق مقتضيات الخطب الملكية وعدم الاكتفاء بمجرد الإشادة بمضمونها وبأهدافها، ففي السياسية النية لا تكفي وإنما يجب أن تكون النية مقرونة بالعمل الصالح والجاد والهادف والمسؤول.