" يس والقرآن الحكيم ... " تعالت بها أصوات لم تدرك منها سوى أنها ستذر دريهمات بعد نهايتها، فالأموات في خدمة الأحياء، وكل جنازة تضمن قوت اليوم، فليهلك العالم كله ليعيش سادتنا "الطلبة". جلسوا مختلفي الهيئة، منهم الواقف والجالس والمقرفص، يقرؤون بنغم واحد، وإذا زاغ أحدهم عن جادة الإيقاع تدخل كبيرهم رافعا صوته، ليعلو ويسطو على الأصوات وتعود النغمة، وجلس أحدهم ينقب في أنفه، غير عابئ بالناس ولا محترما للكلام الذي يتلوه، ووقف إلى جانب "الطلبة " شخص بدين انهارت أسنانه وبدا فمه مقعرا، وبطنه غير متساوي مع باقي أعضاء جسمه، يلوك آيات القرآن ليبرز لمشيعي الجنازة أنه من الحفاظ، ينظر يمينا وشمالا متلذذا بصوته الخرب الأعجمي اللكنة، واختلطت الأصوات بحركة أجسام محروقة بلهيب الشمس وبقسوة الفراق، "اللهم ارحمها روحا "، " فم بلا عيب ". تنحى قليلا كي يبكي في صمت، حاول أن يكتم أنفاسه وشهقاته، كل شيء كان يخطط له إلا هذه اللحظة، كان المرض يزور الفقيد أحيانا بالشهر وبالمنتصف من العام وبمتمه، مرض يسلمه للآخر لا يتداوى إلا عند الإكراه، أما نزلات البرد، وصداع الرأس وروماتيزم المفاصل، فقد تعود عليها الجسم، ودواؤها في دائها، والدواء آخر مصروف، والجسم له مناعة ذاتية تدافع عنه، فيتم الشفاء بالحمام وبالنوم وبالنسيان أحيانا. أتراه التهاون أم ضيق الحاجة الذي يعجل بهذه اللحظة.؟ "ما ينهي العمر سوى الأجل". من سيحمل أعباء أسرة عاشت ليومها، ما فكرت في الاقتصاد والاذخار مرة، فالشهر مدين للشهر والدين للدين مخرج، والتطلع لتعويضات فاضحة لا تكفي لمهاداة طفل مدلل أحرى لزوجة شقية لا تفرح بالهدية إلا صيفا مع قدوم الفارين من البلد والناجين من قوارب الموت، أطفال في مقتبل العمر تذهب مدارسهم بثلث الأجر الشهري ... "ترجل يا ولدي"، "الله يرزقك الصبر"، "إنا لله وإنا إليه راجعون"، نطقت بها أفواه ولم تتجاوز الشفاه، فهم راجعون إلى بيوتهم لا يهمهم إن ترجل أو صبر، فلا يحس بالنار إلا من اكتوى بها، من أرغمهم على حضور الجنازة، ولم يتفقدوه مرة وسينسونه بعد الدفن، عبء تخلصوا منه وعادوا بسرعة متفرقين. انتهت الجنازة، واستيقظ الإبن فوجد والده حيا يتصفح جريدته اليومية باحثا عن الزيادة والترقية التي وعدت بها الحكومة رجال التعليم، و منتظرا ما سيترتب عن الحوار الاجتماعي للنقابات حول التقاعد .