في مثل هذه الفترة من سنة 1982، شهد العالم العربي إحدى أبشع المجازر في تاريخه الحديث. مقاطع فيديو كثيرة، تقارير إخبارية غزيرة، وصور متعددة، كّلها قدمت جزءاً من الصورة: مئات الجثت المتناثرة في الشوارع لأطفال في سنواتهم الأولى، بطون نساء قُبرت، فتيات اغتُصِبن ثم قُتلن بوحشية، وشيوخ لم ينفعهم عجزهم. هي مجزرة صبرا وشاتيلا التي جعلت من الدم الفلسطيني في لبنان مستباحاً، ليس فقط من طرف الجيش الإسرائيلي، ولكن كذلك من طرف قوات لبنانية، استخدمت قتل الأبرياء كوسيلة للتفريج عن غضبها بعد مقتل أحد سياسييها. بدأت أحداث القتل يوم 16 شتنبر، واستمرت لمدة وصلت إلى 48 ساعة، قبل أن يستيقظ العالم على الجريمة النكراء التي لم يقدم مقترفوها إلى العدالة، رغم أن الكثير منهم لا زالوا أحياء إلى هذا اليوم. تنوعت أسباب القتل، لكن الأساسي منها كان واضحا، فميليشيات حزب الكتائب اللبناني كانت عازمة على الانتقام لمقتل زعيمها بشير الجميل، الرئيس اللبناني المغتال بعد أيام قليلة على تسلمه منصبه. ورغم أن الاغتيال نفذه سوري بسبب ما اعتبره خيانة من بشير الجميل بتعامل هذا الأخير مع إسرائيل وتسهيله عملية دخول قواتها إلى لبنان، إلا أن ميليشيات الكتائب، مدعومة بمجموعات يمينية أخرى وبأفراد ممّا كان يعرف بجيش لبنان الجنوبي، لم تجد من أجل الانتقام غير الأسر الفلسطينية التي بقيت في مخيمات بيروت، بعد انسحاب جبهة التحرير الفلسطيني، في أعقاب ذلك الاتفاق الذي نصّ على خروج الفدائيين من المخيمات لكسر الحصار الذي فرضته إسرائيل على بيروت الغربية. كان بعض الصحافيين الاجانب من أوائل من اكتشفوا وجود هذه المجزرة بعدما تناهى إلى أسماعهم أن هناك أشياء غير عادية تحدث في المخيمات الفلسطينية، وما هي إلا ساعات حتى بدأت مشاهد القتل تكتشف. يروي صحافيون عاينوا الواقعة في شهاداتهم التي نقلتها قناة الجزيرة في سلسلتي "حكاية ثورة" و"حرب لبنان"، مرارة مشاهدة جثث مستباحة، وكيف عمل الجيش الإسرائيلي على تسهيل عمليات القتل، بتوفيره كل الظروف المواتية للقتلة من أجل مباشرة مجازرهم. اختلفت التقديرات في إحصاء عدد القتلى، فدوائر لبنانية قالت إنه لم يتجاوز 500، وقناة البيبيسي وضعته عند تقديرات 800، والمؤرخة الفلسطينية بيان نويهض الحوت جعلته 1300، وصحافي بريطاني جعله ألفين وصحافي إسرائيلي جعله 3500. تضاربت المعطيات بشكل كبير ولم يحصل الضحايا حتى على رقم بسيط يحصيهم..أما القصاص من قتلتهم، فذلك لم يقع أبداً. قام الجانب الإسرائيلي بتشكيل لجنة من أجل حفظ ماء وجهه، وخلُص تحقيق اللجنة إلى المسؤولية المباشرة لوزير الدفاع آنذاك، أرييل شارون، في هذه الواقعة، وهو ما دفعه إلى الاستقالة، قبل أن يتحوّل فيما بعد إلى رئيس وزراء إسرائيل ويرتكب مجازر أخرى مشابهة. أما في الجانب العربي، فلم يتم تشكيل أي شيء، وراحت دماء القتلى دون قصاص. ورغم تأكيد الكثير من الشهادات على المسؤولية المباشرة لقوات لبنانية في المجزرة، بل وحتى اعتراف بعض المشاركين فيها، إلا أن محاكمة المتورطين فيها لم تحدث، وبقي المتهم الرئيسي في هندسة العملية، إيلي حبيقة، الذي كان يشغل آنذاك مهمة المسؤول الأمني الأول لميليشيات حزب الكتائب اللبناني اليميني، دون محاكمة، وبل وتحوّل إلى وزير، قبل اغتياله سنة 2002، عندما صرّح أنه سيبيّن الحقيقة للمحكمة الجنائية الدولية. لم تنتهِ فصول محنة فلسطينيي مخيمات بيروت الغربية بهذه المجزرة التي دافع عنها بعض القياديين اليمينيين اللبنانيين، ومنهم رئيس تنظيم ما يعرف ب"حراس الأرز، ولكنها استمرت بعد ذلك، وتكرّرت بعدها بسنوات قليلة في مجازر أخرى فيما يُعرف ب"حرب المخيمات"، عندما قامت حركة أمل الشيعية وبعض المتحالفين معها من قوات لبنانية وسورية وحتى فلسطينية، بما قالت إنها محاولة لإنهاء سيطرة جبهة التحرير الفلسطينية على هذه المخيمات، فتسبّبت في جرائم ضد الإنسانية، لا زالت كثير من معالمها بحاجة إلى التنقيب.