ما أن تُذكر صبرا وشاتيلا، إلا وتتجسد أمامك جثث الشهداء المكدسة في شوارع المخيم، ورصاص الميليشيات المسيحية اللبنانية مستقرة في جثثهم، بعد أن عرفت طريقها عقب إضاءة آرئييل شارون للمخيم المحاصر بالقنابل المضيئة، ليرتكب الاحتلال الإسرئيلي والميلشيات اللبنانية أكثر المجازر بشاعة، مجزرة لا تزال دماء شهدائها خضراء، خضراء كالأسى الذي يرافق الذكرى كلما حلّت. في ال 16 من شتنبر 1982، كان مخيما صبرا وشاتيلا (جنوببيروت) على موعد مع مجزرة استمرت لثلاثة أيام وأوقعت العشرات من المدنيين العزل شهداء؛ بينهم أطفال ونساء وشيوخ، عرفت فيما بعد باسم "مجزرة صبرا وشاتيلا". وكانت وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، قد أسست عام 1949 مخيم شاتيلا بهدف إيواء المئات من اللاجئين الذين تدفقوا إليه من قرى عمقا، ومجد الكروم، والياجور في شمال فلسطين بعد عام 1948. قدرت المنظمات الإنسانية والدولية عدد الشهداء؛ بينهم لبنانيون وعرب وغالبيتهم من الفلسطينيين (وفق شهادة الكاتب الأمريكي رالف شونمان أمام لجنة أوسلو في تشرين اول 1982 فإن الشهداء من 12 جنسية)، يتراوح بين ال 3500 إلى 5000 شخص، من أصل 20 ألف نسمة كانوا يسكنون المخيم وقت حدوث المجزرة. وحتى اللحظة لم يعرف الرقم الدقيق لضحايا المجزرة، لكن فِرَق الصليب الأحمر (منظمة دولية) جمعت نحو 950 جثة، فيما أشارت بعد الشهادات إلى أن العدد قد يصل إلى ثلاثة آلاف؛ بعد أن قام من نفذها بدفن بعض الضحايا في حفر خاصة. وفي تقريرها النهائي استنتجت لجنة التحقيق الإسرائيلية من مصادر لبنانية وإسرائيلية أن عدد القتلى بلغ ما بين 700 و800 نسمة، وفي تقرير إخباري لهيئة الإذاعة البريطانية BBC أشير إلى 800 قتيل في المذبحة. وقدّرت "بيان نويهض الحوت" في كتابها (صبرا وشاتيلا - سبتمبر 1982)، عدد القتلى ب 1300 نسمة على الأقل، حسب مقارنة بين 17 قائمة تفصل أسماء الضحايا ومصادر أخرى، مشيرة في ذات الكتاب إلى أن حوالي ال 484 من الضحايا لا يزالون بحكم المخطوف والمفقود، ولم يعد أي منهم حتى الآن. وأفاد الصحافي البريطاني روبرت فيسك، بأن أحد ضباط الميليشيا المارونية الذي رفض كشف هويته قال إن أفراد الميليشيا قتلوا 2000 فلسطيني. أما الصحافي الإسرائيلي الفرنسي أمنون كابليوك، فقد قال في كتاب نشر عن المذبحة إن الصليب الأحمر جمع 3000 جثة، بينما جمع أفراد الميليشيا 2000 جثة إضافية؛ مما يشير إلى 3000 قتيل في المذبحة على الأقل. وبدأت مجزرة "صبرا وشاتيلا" قبل 36 عاما، بعد أن طوق جيش الاحتلال الإسرائيلي، بقيادة وزير الحرب آنذاك أرئيل شارون، ورافائيل ايتان، وارتكبت بعيدًا عن وسائل الإعلام، واستخدمت فيها الأسلحة البيضاء وغيرها في عمليات التصفية لسكان المخيم. وارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي والميليشيات المسيحية اللبنانية؛ المتمثلة بحزب الكتائب اللبناني وجيش لبنانالجنوبي، مجزرة قتل خلالها المسلحون (نُشروا من قبل الاحتلال والجيش الجنوبي بزعم البحث عن مقاتلين فلسطينيين) النساء والأطفال، وكانت معظم الجثث في شوارع المخيم؛ قبل أن تدخل الجرافات الإسرائيلية لجرف المخيم وهدم المنازل لإخفاء الجريمة. وسبق المجزرة حصار إسرائيلي لمخيمات اللجوء الفلسطينية، انتهى بضمانات دولية بحماية سكان المخيمات العزل بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، لكن الدول الضامنة لم تفِ بالتزاماتها وتركت الأبرياء يواجهون مصيرهم قتلًا وذبحًا وبقرًا للبطون. المجزرة وقعت في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين (جنوببيروت) وحي صبرا اللبناني الفقير، بعد يومين من اغتيال الرئيس اللبناني المنتخَب بشير الجميل. وبدت كأنها انتقام لمقتل الجميل الذي كان زعيمًا للمليشيات اليمينية المتعاونة مع إسرائيل. وجاءت مجزرة صبرا وشاتيلا بعد يوم من اجتياح القوات الإسرائيلية بقيادة آرئيل شارون (وزير الحرب آنذاك في حكومة مناحيم بيجن) غرب بيروت وحصارها المخيم، بناءً على مزاعم بأن منظمة التحرير الفلسطينية التي كان مقاتلوها قد غادروا لبنان قبل أقل من شهر خلّفوا وراءهم نحو ثلاثة آلاف مقاتل في المخيم. ويعتقد المفكر والكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي، أن الإدارة الأمريكية هي من تتحمل المسؤولية "لأنها أعطت الضوء الأخضر للمؤسسة الإسرائيلية باجتياح لبنان في العام 1982". ورأى تشومسكي بأن الولاياتالمتحدة "غدرت" بالحكومة اللبنانيةوالفلسطينيين حين أعطت الطرفين ضمانات بسلامة الفلسطينيين بعد مغادرة الفدائيين بيروت، "إلا أن القوات الأمريكية انسحبت قبل أسبوعين من انتهاء فترة تفويضها الأصلية بعد الإشراف على مغادرة مقاتلي منظمة التحرير، قبل أن توفر الحماية للسكان المدنيين". وعلى أثر المجزرة أمرت الحكومة الإسرائيلية المحكمة العليا بتشكيل لجنة تحقيق خاصة، وقرر رئيس المحكمة العليا إسحاق كاهن، أن يرأس اللجنة بنفسه، وسميت "لجنة كاهان"، وأعلنت اللجنة عام 1983 نتائج البحث. وأقرت اللجنة أن وزير الجيش الإسرائيلي شارون يتحمل مسؤولية غير مباشرة عن المذبحة إذ تجاهل إمكانية وقوعها ولم يسع للحيلولة دونها، كما انتقدت رئيس الوزراء مناحيم بيغن، ووزير الخارجية اسحق شامير، ورئيس أركان الجيش رفائيل ايتان وقادة المخابرات، موضحة أنهم لم يقوموا بما يكفي للحيلولة دون المذبحة أو لإيقافها حينما بدأت. وعام 2002؛ وتحديدًا في 24 يناير، قتل الوزير اللبناني السابق إيلي حبيقة في انفجار سيارة ملغومة في ضاحية الحازمية في بيروت الشرقية، وقتل معه في الانفجار ثلاثة من مرافقيه، وقد رجح مراقبون وقتها أن اغتيال حبيقة جاء بعد أن أبدى استعداده للإدلاء بشهادته أمام الجنايات الدولية حول مجزرة صبرا وشاتيلا، ورجحوا أن تكون الاستخبارات الإسرائيلية من قام بالاغتيال. ويعد إيلي حبيقة من أبرز قيادات حزب الكتائب اللبناني، وكان من أبرز المتهمين في مجازر صبرا وشاتيلا؛ والتي نفذتها القوات اللبنانية (الجناح العسكري لحزب الكتائب اللبناني). يبدو أن كل المجازر التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين تمر بالمراحل ذاتها، فالمجرمين يفرون بفعلتهم دائما والمجتمع الدولي يتستر على الجريمة في بدايتها ثم يفتح تحقيق ليغسل وجهه بدماء الضحايا، فيما تكتفي الجهات الرسمية الفلسطينية بفتح صفحات السلام مع الاحتلال وقادة الأحزاب التي شاركت في مجزرة صبرا وشاتيلا، وهناك غير بعيد لا زالت الدماء على الجدران، ولا زال أهم المخيم يتذكرون أدق التفاصيل، يتذكرون لحظة ضغط الزناد ولمعة نصل السكاكين.