بوصلة الإصلاح التعليمي: لا مشروع إصلاحي دون رؤيا تربوية، و لا إصلاح دون بعد اجتماعي، و لا إصلاح خارج حوار وطني، صمام كل الإصلاحات و التعاقدات، فهو الآلية الراشدة لتدبير الإختلاف. الإصلاح رؤيا و مشروع مستقبلي يحقق التوازن الاجتماعي و الاقتصادي، فأي سياسة تعليمية لا تنطلق من هذه المقاربة لا يمكن أن تنجح، و لو اعتمدت على كل خبراء العالم. إن تاريخ المنظومة التربوية المغربية هو تاريخ الإصلاحات بصعوباتها و إكراهات تنزيلها على أرض الواقع، فهي لم تبلغ أهدافها، و لا مقاصد بلورتها، مما يطرح أسئلة متشعبة : لماذا لم نحقق الأهداف و نبلغ النتائج المرجوة ؟ ما أهم مداخل الإصلاح التربوي المنشود؟ هل المتعلم في حاجة إلى القيم الأخلاقية أم في حاجة إلى التوازن و الاستقرار في محيطه العام ؟ ما طبيعة الفعل التربوي المغربي و علاقته بمكونات الشخصية المغربية ؟ لماذا فشل الميثاق ؟ هل الأسباب تدبيرية أم تواصلية أم مالية ؟ هل المشكل في ضعف التكوين و الأجرأة أم في غياب التعبئة المجتمعية و الفاعلين التربويين ؟ ليست مهمتنا أن نحاكم أو نتهم شخصا أو جهة معينة، فالتعليم أزمتنا نحملها بأيدينا و نتحملها جميعا. الخيارات الإستراتيجية : يشير محمد عابد الجابري، رحمه الله، أن إصلاح التعليم يحتاج إلى تخطيط عقلاني ينسجم مع المبادئ الوطنية للسياسة التعليمية، فلا يمكن له أن يخرج عن اختياراته الإستراتيجية. إن المشروع الوطني الذي حارب الاستعمار لازال مستمرا لأن الواقع هو نفسه و لأن الخيارات كانت استراتيجية لا مرحلية، تبنى بها الأجيال و هي جزء من هويتها، و الوطنية مدرسة كل المغاربة، لا ترتبط بمرحلة الاستعمار ولا بمقاومته، فهي اليوم تقاوم التخلف و الجهل و الأمية و الاستبداد بكل أنواعه، إنها امتداد في الزمان و الوعي و ليست مهرجانا لامتصاص الأحاسيس. إن خيار الانفتاح أو التعدد اللسني لا يمكن أن يلغي اللغة العربية، فلا يوجد شعب يتنكر للغته و لو كان بدائيا، فالعبرية أعيد استعمالها رسميا بعد 20 قرنا، و اللاتينية تعود الآن بمبادرة جمعيات المجتمع المدني الغربية. و التعميم إلزامي يرتبط بحياة الشعوب بل هو مطلب وجودي و شرعي، و لا يمكن أن تكون تنمية بدون تعميم التعليم، فهو مؤشر تنموي في التقارير الأممية التي نستحي حين نطالعها، ثم التقارير الوطنية التي تدق ناقوس الخطر باستمرار و تشعرنا بالإحباط. أما الوحدة فمطلب إنساني حقوقي يحقق تكافؤ الفرص و يوحد التفكير و المقاصد. المحاولات الإصلاحية: بدأت المحاولات الإصلاحية للسياسة التعليمية سنة 1957 لتصل إلى 16 محولة، من محاولاتها الأخيرة الميثاق الوطني للتربية و التكوين، كان من أهدافه التركيز على المتعلم و جعله محور الإصلاح و التغيير، بالرفع من مستواه المعرفي و المهاري و تنمية قدراته الوجدانية، ثم التركيز على الأطر التي تقوم بذلك بابداعيتها و تجديدها، ثم جعل المدرسة منفتحة على الحياة و الجامعة قاطرة للتنمية. لخص المجلس الأعلى للتعليم فشل تنزيل الميثاق في الإختلالات التالية : إشكالية الحكامة، الظروف الصعبة للمدرسين، صعوبة الملاءمة و التطبيق، إشكالية توزيع الموارد المالية، ضعف التعبئة لإعادة الاعتبار للمدرسة المغربية. لقد كان الميثاق جوابا سياسيا أكثر منه تربويا، ارتبط بمشروع التناوب الحكومي و الانتقال الديمقراطي، بينما لا يمكن الحديث عن إصلاح تربوي في غياب توافق سياسي حقيقي. يأتي المخطط الاستعجالي بتوجيه ملكي سنة 2007 لتنزيل أمثل لمقتضيات الميثاق، أو بمعنى أدق لتجاوز الفشل، مركزا على مجالات أربع تنبثق عنها مشاريع وهي : إلزامية التعليم، التحفيز على المبادرة و التميز، مواجهة الإشكالات الأفقية للمنظومة التربوية، ثم البحث عن وسائل النجاح. ورغم النتائج المرتبطة بتحسن نسب التمدرس، تأهيل بعض المؤسسات، الاستفادة من الدعم الاجتماعي، استعمال تكنولوجيا الإعلام و التواصل، و الاعتماد على المقاربة بالمشروع و المقاربة بتدبير النتائج، و رغم فتح أوراش متعددة ( 26 ورشا) فقد اعتبر مشروعا داخل "قسم الإنعاش التربوي"، ولد دون شروط الحياة و لم يجب عن الإشكالات الهيكلية، فتشتت الجهود و تبددت الموارد المالية و البشرية و غاب فقه الأولويات. فإذا كان الميثاق جوابا سياسيا فإن المخطط الاستعجالي كان جوابا تقنيا غابت فيه الإستراتيجية و الجودة و الارتقاء و الشراكة للفاعلين الأساسيين و التقييم و المتابعة و المحاسبة. بعد فشل أو قصور المخطط الاستعجالي يأتي المخطط الاستراتيجي الذي اعتمد على أربعة توجهات تتمثل في : أولوية الإنصاف وتكافؤ الفرص، وتحسين جودة التعلمات، و تطوير حكامة المنظومة التربوية ثم التدبير الجيد للموارد البشرية. و قد تم التركيز على ثلاثة شروط أساسية تتمثل في تكريس العمل بمقاربة المشروع ومأسسة التعاقد بين الوزارة والأكاديميات والنيابات ثم اعتماد المقاربة التشاركية بانخراط جميع الفاعلين في مسار تنفيذ المخطط الاستراتيجي . و لازالت إشكالات منظومة التعليم هم المبادرات الرسمية ( وثيقة 100 مثقف مغربي ) و آخرها المشروع الإصلاحي المرتقب 2015 . Analyse systémique من أجل مقاربة نسقية : لا يوجد نسق تعليمي يبدل بنسق جديد تلقائيا، كما أن طريقة الإبدالات النسقية في الحقل التعليمي تختلف عنها في المجال العلمي. والنسقية هي منهجية تدرس الموضوع بشكل يرصد التفاعل و الترابط بين كل عناصره. أما مفهوم " الإبدالات" paradigmes فقد ارتبط بالفيلسوف الأمريكي طوماس كونthomas kuhn ( (1922 1996 ، و يقصد به في النقد الأدبي البحث عن التحولات المتعاقبة التي تطرأ على المادة الأدبية، و في علم الاجتماع يقصد به التركيز على المخططات و الأنساق الفكرية التي غرسها المحيط الاجتماعي في الفرد في زمان و مكان معينين، أما في تاريخ الأفكار فيقصد به الشروط القبلية التي تنظم المعارف و المفاهيم و طرق التفكير في مرحلة معينة. و إذا بحثنا عن القاسم المشترك بين هذه المقصديات و ربطناها بموضوع " الإصلاح التعليمي" نقول:" البحث في تحولات المخططات وفق شروط قبلية " إن مفهوم الإبدالات يعطي أهمية للعوامل الاجتماعية و النفسية، فأي إصلاح هو جماعي وليس فردي، و أي تجربة تغييرية هي نتاج رؤيا موحدة للعالم، كطريقة للتفكير و ليس كنمطية. إن الإصلاح التعليمي يرتبط بالأعراف الذهنية و السلوكات التي يخضع إليها المجتمع، أي قوانين معنوية و قيمية لتصبح معايير خاصة على الأطراف الفاعلة و المنظرة مراعاتها. إن الإصلاح ليس بتقديم أفكار جديدة، و لكن بإعطاء دلالات لها تجعلها قابلة للتطبيق و مستساغة من ممارسيها من طريقة تفكيرهم و من معيوشهم اليومي. إن الواقع الاجتماعي، من منظور المفكر الفرنسي " بيير بورديو"، هو مجموعة من الأنساق التنافسية تتألف من مؤسسات و أفراد يتنافسون على الحد الأقصى من السيادة داخل النسق العام، و حين تتحقق هذه السيادة و يعترف بها اجتماعيا تصبح رأسمالا رمزيا، هذا النسق الإجتماعي تؤطره قيم معنوية و استعدادات مكتسبة و هو ما يسميه ب" habitus" يترجمها البعض ب" التطبع" أو " السجية"، إنه نسق من مخططات الإدراك و التقويم و الفعل التي غرسها المجتمع في الفرد في زمان ومكان معينين و هو أشبه ب" اللاوعي الثقافي". و هو مفهوم له أبعاد نفسية ترتبط بالذوق و الشعور و الوجدان، وعقلية ترتبط بالأفكار و الفهم و التحليل و أخلاقية ترتبط بالسلوك و المواقف و القيم. و قد تناول بورديو هذا المفهوم في دراسته للنظام التعليمي و التربوي الفرنسي في عدة كتب منها " الورثة "Les héritiers، و " إعادة الإنتاج La reproduction"و بين كيف يعمل النظام التعليمي على إعادة إنتاج الفوارق الإجتماعية، و بين أن حظوظ النجاح في هذا النظام ليست واحدة، لهذا فهو نظام يكرس الإمتيازات و يمنحها مشروعية . فإذا كان لكل نسق بنياته وعناصره و حفرياته و طريقة اشتغاله، فما خصوصية النسق التعليمي المغربي ؟ خصوصية النسق التعليمي المغربي: إن بنية النسق التعليمي بنية مغلقة يتم التفكير فيها بشكل مأزوم أو " مأساوي"، و كأن التعليم هو" الطائر الفينق" في الثقافة اليونانية، في كل مرحلة إصلاح جديد أو خطة جديدة أو مشروع جديد، و لا استمرارية بين هذه التجارب بل قطائع تاريخية " أرخبيلية " لم يحددها ميشال فوكو. نسق مفصول عن الواقع الاجتماعي و لا يستطيع التأثير في البنية القيمية للمجتمع. غياب التكامل بين ركائز العملية التعليمية، بين من يضع السياسات العامة و بين الخبراء المؤثثين للمشهد وبين من تنزل عليه القرارات و البرامج، فتصبح الوثائق و التوجيهات التربوية جافة و بعيدة الأجرأة. خضوع الإصلاحات التعليمية للمنطق السياسي و الايديلوجي و تمرير توجيهات النسق السائد، و التركيز على المقاربة المقاولاتية و الانفتاح على التجارب الخارجية دون مراعاة "البنية المقاسية" لاحتياجاتنا التعليمية و دون الاهتمام بالبعد الإنساني و الحضاري لمنظومتنا. عدم الاهتمام بتطلعات المجتمع المغربي من قضاء على الجهل و الفقر و الفوارق الاجتماعية وتحقيق الممارسة الديمقراطية. ربط المحاولات الإصلاحية ب"سياسة اللجان" التي تعوق أحيانا العمل. المزايدات السياسية في القضايا الوطنية، فالتعليم مقصديته موضوعية أكثر منها ذاتية، و يمكن أن يحقق حدا أدنى من الإجماع. عدم مراعاة التنوع اللغوي كعامل غنى للتعليم و للثقافة المغربية. التفكير اللغوي الثلاثي الأبعاد: نفكر بلغة و نتكلم بلغة و نكتب بلغة ثالثة. - غياب إدراج نسقية الإصلاح ضمن نسقية التغيير الديمقراطي. - " التخطيط الكارثي" كثقافة مغربية، نتحرك جميعا في آخر لحظة . غياب التكامل بين السياسات العامة للدولة و سياسة التعليم ( كيف يمكن لوزارة السياحة أو وزارة الشباب أو الثقافة أن تساهم في تنمية القراءة و التشجيع عليها )، فالتكامل بين الفاعلين السياسيين و الخبراء و رجال التعليم قطب الرحى، فلا تجربة ناجحة دون تفكير تشاركي. أما بعد : إن المقاربة النسقية إمكان مغربي يجعل الإصلاح شاملا يقوم على تأهيل المجتمع ثقافيا و قيميا ليقوم بواجباته الوطنية، فالتفسخ الأخلاقي و السيطرة على العقول من آليات الاستبداد التي تطبع مع التيئيس واللاأمل في التغيير والإصلاح. إن النسقية تدافع اجتماعي مدني يفتح الباب أمام فقه الأولويات و الترجيحات بين المصالح و المفاسد، دينامية تعبر عن اختيارات المجتمع، و إعطاء الأولوية للعلماء و الخبراء و أهل الرأي الغيورين على لغتهم و وطنيتهم و حضارتهم، الذين يضعون الرؤيا التربوية و الاختيارات التنموية و ثقافة المواطنة، و التحرر من منطق القبيلة و الغنيمة إلى الارتباط بالمشروع المجتمعي الذي يفتح شهية انخراط الجميع، و ذلك تحت سقف حوار وطني يحسم في أصول و مبادئ نظامنا التعليمي، و يعطي تدبيرا سليما للاختلاف .