من مستلزمات السلوك الحربي؛ أن ينكر المنهزم هزيمته ويشوش على المعطيات التي تؤكد انتصار عدوه؛ وهو ما فعله العدو الصهيوني بعد انكسار جبروته على أعتاب غزة العزة .. وإذا كان هذا مفهوما من العدو، ومن المنافق الذين يبيع كرامة أمته بعرض من الدنيا قليل؛ فإن العجب لا ينقضي من بعض النخب الذين يحاولون إنكار انتصار المقاومة؛ بناء على معطيات مغلوطة .. إن الجواب السليم على سؤال الانتصار: يستلزم أولا وقبل كل شيء؛ الرجوع إلى التصريح الرسمي لقيادات فصائل المقاومة المجاهدين في ميدان المعركة. وقد عقدوا مؤتمرا صحافيا في اليوم الثاني بعد اتفاقية الهدنة، وتلا بيانهم المشترك؛ الأخ المجاهد أبو عبيدة -الناطق الرسمي باسم كتائب القسام-: وقد نص البيان على انتصار المقاومة وتحقيقها إنجازات غير مسبوقة .. وهو ما أكدته –بشكل رسمي أيضا-: القيادات السياسية لفصائل المقاومة؛ في مقدمتها القيادة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية حماس؛ ممثلة في الأستاذ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة ونائبه: الأستاذ إسماعيل هنية .. هذا الإعلان من قادة المعركة؛ تعزز بشهادة شعبية شهد بها الغزاويون من خلال احتفالات النصر التي تضمنت تصريحات مستفيضة تناقلتها وسائل الإعلام المتنوعة تحيي صمود المقاومة وانتصارها على العدو، وتؤكد أنه لا خيار لمواجهة عدوان بني إسرائيل غير خيار الجهاد والمقاومة؛ وقد قيل: أهل مكة أدرى بشعابها. ولو أردنا أن نذكر المعيار الشرعي لهذا الانتصار لقلنا: هو عدم تحقيق العدو لأهدافه من المعركة، وعلى رأسها هدم الأنفاق وإفشال قدرة المجاهدين على إطلاق الصواريخ، ونزع سلاح المقاومة .. وقد بدا اليهود المحاربون مغتاظون غاضبون لما حصل لهم من فشل في تحقيق أهدافهم: قال الله تعالى في سياق بيان انتصار المسلمين في غزوة الأحزاب: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25] قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "ردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم، لم ينالوا خيرا لا في الدنيا، مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، بالعداوة، وهمهم بقتله، واستئصال جيشه". [تفسير ابن كثير (6/ 396)]. قال في التحرير والتنوير (21/ 310): "والغيظ: الحنق والغضب، وكان غضبهم عظيما يناسب حال خيبتهم لأنهم تجشموا كلفة التجمع والإنفاق وطول المكث حول المدينة بلا طائل وخابت آمالهم في فتح المدينة وأكل ثمارها وإفناء المسلمين، وهم يحسبون أنها منازلة أيام قليلة، ثم غاظهم ما لحقهم من النكبة بالريح والانهزام الذي لم يعرفوا سببه"اه. وعلى غراره أقول: اليهود المعتدون على غزة؛ ظهرت حال خيبتهم لأنهم تجشموا كلفة التجمع والإنفاق التي بلغت ملايير الدولارات، و51 يوما من القتال بلا طائل سوى جرائم حرب في حق المدنيين، وخابت آمالهم في فتح غزة وإفناء المجاهدين، وهم يحسبون أنها منازلة أيام قليلة، ثم غاظهم ما لحقهم من النكبة بسبب مفاجآت المقاومة والانهزام الذي لم يتوقعوا سببه. إن الانتصار في الحرب؛ يعَرّف حسب التجربة التاريخية للأمم كافة بأنه: "القدرة على تحقيق الأهداف من جهة، وكيفية ترجمة الفعل العسكري إلى نتائج سياسية من جهة أخرى. وقراءة الأرقام والإحصائيات عن الحروب التاريخية في جميع أنحاء العالم تؤكد سقوط منطق تقييم الحروب بناء على أعداد الضحايا والخسائر؛ ولنا في الحرب العالمية الثانية مثالا صارخا على سقوط هذا المنطق؛ إذ قدمت دول الحلفاء حوالي 83% من ضحايا هذه الحرب، فيما خسرت دول المحور حوالي 17% من الضحايا (حسب عدة دراسات منشورة في ويكيبيديا). ومع ذلك فقد خرجت دول الحلفاء منتصرة لأنها حققت أهدافها السياسية وترجمتها من خلال إجبار ألمانيا على توقيع معاهدة (فرساي). وكل الشعوب الواقعة تحت الاحتلال بلا استثناء؛ قدمت تاريخيا العدد الأكبر من الضحايا بالمقارنة مع المحتلين؛ ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يشكك بانتصار هذه الشعوب بعد أن تمكنت من تحقيق أهدافها". كما أن عاقلا لا يمكنه أن يدعو أصحاب الحق إلى الاستكانة للظالمين المعتدين والتسليم في حقهم خوفا من القتل: قال الله تعالى في بيان أن كثيرا من أصحاب الحق قتلوا ولم يكن ذلك سببا لوهنهم ورجوعهم عن المطالبة بحقهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148] قال عبد الله بن مسعود: "الربيون: الألوف الكثيرة". وقال الزجاج: "الربيون (بالضم): الجماعات الكثيرة؛ ويقال: عشرة آلاف. قال القرطبي: "الربيون الجماعات الكثيرة". (وما استكانوا) أي لما أصابهم في الجهاد (من القتل الكثير)؛ والاستكانة: الذلة والخضوع"اه [تفسير القرطبي (4/ 230)]. وهكذا أهل غزة: ما ضعفوا وما استكانوا؛ وقد سمعنا المرأة التي قتل أولادها تقول: "يقتلون ونخلف ونربي أولادنا على الجهاد في سبيل الله تعالى"!! قلت: وفي مقابل عدم تحقيق العدو لأهدافه الرئيسية؛ فإن المقاومة حققت أهدافا مهمة؛ أولها: دحر العدو وتهديده في عقر داره بقوة الرمي: قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 60، 61] فالمجاهدون أعدوا ما استطاعوا من القوة التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ألا إن القوة الرمي" .. مع الحصار والدمار؛ أعدوا صواريخ أضحى بعضها يصل إلى مدى 55 كيلومتر. وفي معركة "العصف المأكول" كانوا يطلقونها في اتجاه العدو بمعدل 120 صاروخ في اليوم؛ وبذلك ألجأوا آلاف اليهود إلى الملاجئ .. مما جعلهم يحققون قول الله تعالى: "ترهبون به عدو الله وعدوكم". ثم جنحوا إلى السلم واضطروا العدو إلى توقيع اتفاقية هدنة تتضمن جزءا مهما من شروط المقاومين .. إنجازات أخرى تؤكد الانتصار بمعايير الحروب المعاصرة: هدم أسطورة: الجيش الذي لا يقهر قتل ما يقارب السبعين من جنود العدو المعتدي، وإصابة أضعاف أضعافهم بجروح متفاوتة الخطورة، وأسر جندي على الأقل منع العدو من اقتحام غزة بريا فضح دولة الإرهاب عند شعوب العالم كشف كثير من مخابئ النفاق والخذلان في العالم العربي .. قالت صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية: "إن المقاومة الفلسطينية وصمودها أجبر الكيان الصهيوني على الخضوع والموافقة على شروطها، فيما جرّت "إسرائيل" ذيول الخيبة. وحسب "مفكرة الإسلام" فقد أضافت الصحيفة في تقرير لها، أن ما حدث علامة بيضاء في تاريخ غزة، وسوداء في تاريخ الكيان الصهيوني، مشيرة إلى أن الفصائل الفلسطينية في غزة حققت انتصارا ساحقا سيذكره التاريخ. وتابعت: إن الغضب يتصاعد داخل "إسرائيل" ضد حكومة بنيامين نتنياهو بعد الإخفاق الكبير في غزة". وفي هذا السياق؛ نشر موقع المسلم؛ أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أشاد بانتصار المقاومة الفلسطينية في غزة ودحرها للعدوان الصهيوني. وهنأ الاتحاد؛ فلسطين على الانتصار التاريخي للمقاومة الفلسطينية في غزة، عادًّا اتفاق وقف إطلاق النار انتصاراً للمقاومة على الصهاينة في حرب استمرت أكثر من 50 يوما. وفي موقعها الرسمي؛ هنأت هيئة علماء المسلمين بالعراق، الشعب الفلسطيني عموما وفصائل المقاومة بشكل خاص بمناسبة إقرار اتفاقية وقف إطلاق النار في قطاع غزة .. لافتة الانتباه إلى أن هذه الاتفاقية تؤكد انتصار المقاومة في تصديها للعدوان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية. وأوضحت الهيئة في التهنئة أن أهل غزة حباهم الله عز وجل بمقاومة مباركة استطاعت أن تذيق الاحتلال الصهيوني كأس العلقم، واضطرته إلى التنازل عن كثير من أهدافه ومطامعه التي تتجاوز حدود فلسطين، وأرغمته على الخضوع لمطالب المقاومة المشروعة .. مشيرة إلى أن أحلامه وأوهامه التي كان قد بناها على نتائج عدوانه، تلاشت بفعل صمود أبناء الشعب الفلسطيني وتلاحمهم ووقوفهم بوجه هجمته الشرسة. وفي ختام التهنئة تضرعت هيئة علماء المسلمين إلى المولى عز وجل ان يتغمد شهداء فلسطين برحمته الواسعة، ويمن على الجرحى بالشفاء العاجل، وأن يهب النصر العظيم للأمة الإسلامية، ويلحق بأعدائها الخزي والهوان."اه أما بعد؛ فإن الانتصار في معركة "العصف المأكول"، يبقى انتصارا جزئيا في أفق نصر كامل يفضي إلى تحرير شامل للأرض الفلسطينية، وذرتها: القدس الشريف ..