هناك أنواع من الاغتيال. شنقا، أو بالرصاص، أو بالكرسي الكهربائي. في مغرب محمد السادس، تحولت الصحافة المغربية المستقلة إلى المستهدف الأول من دوائر صنع القرار وصار اغتيال رموزها قاعدة من قواعد إرساء الحكم المطلق بالبلد. بنادق السلطة توجهت إلى أجساد الصحافة المستقلة التي صارت محل انتقاد المقربين من الملك، وصار الهدف الأسمى لدى البعض من هذه الدوائر إقبار آخر قلاع حرية الرأي والتعبير التي انتزعت هذا الحق، قبل سنوات قليلة عبر خطوط تحريرية مختلفة عن التي دأبت الصحافة المخزنية على نهجها. بعد اعتلائه لعرش المغرب، اتجه مغرب محمد السادس في السنوات الأولى منه إلى أن يتخذ صورة "واحة" حرية التعبير والديمقراطية بالدول العربية. كما روج، لخارج يتابع التغيرات التي قد تحدث في بلاد عاشت ملكية مطلقة تقاوم كل رغبة في التغيير والاتجاه نحو الديمقراطية، صورة البلد الذي يعيش الانتقال الديمقراطي. بهذا صار من العادي أن يكون الملك على الصفحة الأولى من المجلات والجرائد اليومية، وأن تنتقد طرق تدبير الحكم بالمملكة ولو مع اللعب على الحبال، والابتعاد عن انتقاد الشخص الملكي المقدس. تجارب ك"لوجورنال"، و"دومان ماغازين" و"الأيام" و"الصحيفة" و"تيل كيل" أخرجت المسكوت عنه من تاريخ المغرب المعاصر، وأصبح انتقاد الحياة السياسية المغربية، وكسر الطابوهات، أساس خطها التحريري. رغم المناوشات التي كانت بين الصحافة والسلطة السياسية، فإن هامشا من الهدنة كان حاضرا باستمرار. غير أن السنتين الأخيرتين أشرتا على بداية النهاية في علاقة السلم بين الصحافة والدولة المغربية، وصار التضييق على حرية التعبير والحرب على حملة الأقلام ديدن النظام المغربي. حرب انطلقت عبر محاكمة الصحفيين، وتشويه سمعتهم، مرورا بإغلاق جرائد وتشديد الخناق ماليا على الأخرى. سيف المخزن المسلط على رقاب الصحافة المستقلة بالمغرب لن يتحول إلى كابوس يتربص بهم إلا قبل سنتين. نقول المخزن لأن كل شيء تقريبا بالمغرب محل تساؤل. المخزن الذي هو تعبير عن البعد القروسطي الوسيطي في النظام السياسي المغربي لا يزال حاضرا، ويصر على ترسيخ بنيته. عمن تصدر فعلا هذه القرارات المجحفة اتجاه الصحافة؟ ومن ويتخذ قرارات الإعدام والإبعاد، أو التهميش والمقاطعة من خلف أسوار القصر؟ لا أحد يستطيع الإجابة عن السؤال ! هجمة القصر على الصحافة مؤخرا ابتدأت عبر إغلاق أول تجربة صحفية مستقلة "لوجورنال" التي عبرت عن خط حداثي ديمقراطي، وعرت الواقع المغربي، وطرق تدبير الدولة. بهذا حجزت حساباتها بدعوى أنها لم تدفع انخراطات صحفييها ل"الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي". القرار كان حسب أغلبية ساحقة من المتتعبين للشأن الصحفي المغربي، طريقة لإقبار التجربة، وهو ما دفع رئيس تحريرها أبو بكر الجامعي، المعروف بتحليلاته القوية للوضع السياسي المغربي، إلى الانسحاب من العمل الصحفي نهائيا والتنقل بين إسبانيا والولايات المتحدة حيث يعمل أستاذا محاضرا. لم يمر وقت قليل بعد إغلاق "لوجورنال" حتى وجهت ضربة أخرى لجريدة "أخبار اليوم" بدعوى أنها نشرت رسما معاديا للسامية، صور الأمير إسماعيل وهو يلوح بيده من فوق العمارية( طاولة يوضع فوقها العرسان وفق التقاليد المغربية")، واعتبر قرار المنع أنه يلوح بيده على الطريقة النازية. لكن الكثيرين اعتبروا أن مقال رأي نشر باليومية أغضب القصر وكان وراء قرار منعها. قرار قتل الجريدة لم يمنع عودتها إلى الصدور تحت اسم "أخبار اليوم المغربية". الأخبار المغربية، التي تندرج في خط تحريري مستقل، لم تنتظر كثيرا قبل أن يتم إخراج دعوى قضائية مدنية ضد مدير تحريرها توفيق بوعشرين عن سياقها وتتحول إلى أداة ضغط على الجريدة التي تعاني ماليا. بعد القضية لم يبق إلا مجلة "نيشان". المجلة الأسبوعية الأكثر مبيعا، والتي دأبت منذ خروجها إلى السوق قبل أربع سنوات على إنجاز تحقيقات وربورطاجات، ومقالات رأي اتخذت خطا تحريريا مخالفا لما اعتادته الصحافة المغربية، تحولت إلى المستهدف الأول. "نيشان" كانت قبل كل شيء تموقعا معينا من المجتمع المغربي ومن أسئلته الأكثر راهنية. وكانت بملفاتها(أغلفتها) عن دوائر القرار السياسية، والدين، والجنس، تنتهك أكثر الطابوهات تجذرا في المغرب. المجلة التي تعرضت للمنع أكثر من مرة، تلقت الكثير من الضربات تحت الحزام من أجل إقبارها، وهو ما نجحت الدولة المغربية في تحقيقه. في بداية المقال كتبت أن هناك الكثير من طرق الاغتيال من بينها الشنق، والرمي بالرصاص أو الكرسي الكهربائي. في بلد كالمغرب يحاول ما أمكن اللعب على الحبال ورسم صورة البلد الديمقراطي في الخارج، قررت الدولة قتل المجلة الأسبوعية، ومن قبلها يومية "الجريدة الأولى" التي كانت أكثر الجرائد اليومية استقلالية، بطريقة أخرى. قطع موارد الإشهار عنها بكل الطرق الممكنة. عبثية قرارات الدولة لم تتوقف عبر مقاطعة "نيشان" إشهاريا من لوبيات اقتصادية مقربة من القصر. بل خلال صيف 2009، تم منع المجلة وإتلاف 100 ألف نسخة منها، ما كبدها خسارة قيمتها مليون درهم. ما الذي كان يتضمنه العدد لتلقى هذا المصير؟ المضحك، أو المبكي، أنها تضمنت استفتاء رأي أجرته المجلة رفقة كل من شقيقتها الفرنسية "تيل كيل" وجريدة "لوموند" الفرنسية" حول عشر سنوات من حكم الملك محمد السادس، أنجزته شركة استطلاعات دولية بين المغاربة. الاستطلاع قال إن 93 في المئة من المغاربة راضون عن حكم ملكهم !!!!! أما قرار المنع فقال إن شخص الملك لا يمكن التساؤل حوله لأنه مقدس. هل يعقل في مغرب القرن الواحد والعشرين أن نتحدث عن قدسية الملك، وأن لا نناقشه بوصفه رئيسا للدولة؟؟ خلال سنة ونحن داخل "نيشان" نعرف أن هناك أصواتا خلف أسوار القصر تريد القضاء على كل التجارب الصحفية المستقلة للعودة بالمغرب إلى عقود أخرى من التخلف ومن الإذعان لسطوة المخزن المقدس، والصمت الذليل. أصوات من داخل القصر تفضل صحافة تبايع في كل عدد منها النظام وتشيد بأدائه وإنجازاته، رغم كل التقارير الدولية التي تشير إلى تعمق أزمة المغرب اقتصاديا وسياسيا وهشاشة بنياته الاجتماعية. أصوات همها الوحيد أن تسيطر على البلد والعودة به إلى ثقافة الصمت والخوف والعبودية. لكن جيلا من الصحفيين الشباب كان ضد كل هذه التوافقات التي خضع لها أجيال من المغاربة، سقطوا ضحية سنوات الرعب والرصاص خلال حكم الحسن الثاني. توافقات أفقدتنا كل إحساس بالمواطنة وصرنا بدلها رعايا ملكية مطلقة. ب"نيشان" حاولنا ما أمكن أن ننجز الصحافة كما تمليها علينا ضمائرنا ومعايير المهنية. تنوير الرأي العام بقضاياه والتموقع إلى جانب خط حداثي يرفض الخضوع لثقافة العبودية. بهذا نددت المجلة بكل ما يتعرض له المواطنون من إذلال داخل مخافر الشرطة، واختطافات تحدث في واضحة النهار لمتهمين مفترضين في قضايا إرهاب، وحللنا بحياد الوضعية الاقتصادية التي تسيطر عليها مؤسسات اقتصادية في ملكية القصر ك"أونا/سينيا"، وانتقدنا أن يحول البعض محاربة الفساد إلى ماركة مسجلة باسم الملك. الاغتيال الذي تعرضت له "نيشان" لم يكن عبر اعتقال صحافييها ولا منعها بقرارات قضائية. لم يكن بإغلاقها بقرار قضائي أو بتوجيه تهم لمسؤوليها ولكن عبر إغلاق الموارد الإشهارية عليها وخنقها ماليا. سوق الإشهار في وسائل الإعلام العربية في المغرب ضيق جدا ومن السهل إحكام إغلاق منابعه على أي جريدة. في المجلة ابتدأت المقاطعة قبل أكثر من سنة، رغم أن الجريدة هي الأكثر مبيعا، وبالتالي المرشحة للحصول على حصة أكبر من سوق الإشهار. حاولت إدارة المجلة بكل الطرق الخروج من الأزمة، لكن الخسائر التي تكبدتها والتي بلغت عشرة ملايين درهم دفعت في الأخير إلى اتخاذ القرار المؤلم، بإنهاء تجربة حتما ستدخل تاريخ الصحافة المغربية، عبر إعلان إفلاسها. طيلة المدة التي احتضرت فيها "نيشان" كنا ننتظر أن تحدث معجزة ما. ربما كانت المعجزة الوحيدة التي ستنقذنا هي أن يتحول المغرب إلى ديمقراطية حقيقية. لكن الأمنية مجرد أضغاث أحلام، ما دمنا في مغرب ظاهره الحريات والانفتاح، وباطنه الانتصار لكل القيم البائدة. ٭ صحافي من مجلة "نيشان"