1- عن الأكل والمأكول العنوان أعلاه، ورغم أنه مقتبس في مبناه، مع بعض التحوير المقصود، من العنوان الذي اتخذه الصحافي السوداني المقيم بالمغرب: طلحة جبريل لكتابه/ حواره حيث يروي محطات من سيرته الإعلامية، إلا أن هذا الاقتباس لا يجاوز مستوى المبنى إلى ما عداه، لأن العنوان في المقال التالي يتخذ معنى ومضمونا يختلف جوهريا عما رمى إليه طلحة جبريل. فكما شرح هو، وفهم القارئ، يقصد مدير مكتب "الجريدة الخضراء" بالمغرب، في نهاية التحليل، بعبارة عنوانه هذا، قيمة إيجابية، رغم ما توحي به الجملة التي وظفها، والتي تعود المهنة (الصحافة) بموجبها "نارا" "تأكل" أبناءها من خلال تطلبها مجهودا مكثفا وغير محدود وبوتيرة يومية، واستدعائها البديهي والبنيوي للتضحية والبذل المتواصلين على جميع المستويات، وحيث يمثل الصحافيون (الأبناء) "حطبا" لتنّور العمل الصحافي يتطلب بقاؤه وهاجا "احتراقا" (أكلا) معنويا لهم. يحيل هذا المعنى في الحالة التي يصفها لنا طلحة جبريل على نوع من الحمولة الملحمية التراجيدية التي نجدها في حقول أخرى ونستطيع التعبير عنها، فقط، بتعويض لفظة "صحافة" بما يناسب الحقول الهدف من مفردات (ثقافة تأكل أبناءها/ تعليم يأكل أبناءه/ سياسة تأكل أبناءها/ فن يأكل أبناءه/ ...). تستمد الحالة التي وصفها طلحة جبريل قيمة مضمونها الإيجابية (الملحمية التراجيدية) من وعي "الأبناء" (الصحافي/ المثقف/ المعلم/ السياسي/ الفنان...) بفعل "الأكل" (الاحتراق) واختيارهم له، على اعتبار "الرماد" المتحصل من هذه المعادلة ككل، نوعا من التعويض المعنوي أو "الرأسمال الرمزي" الذي سيمثل فيما بعد "قيمة مضافة مشتركة" بين الجميع، بل إن غياب هذا البعد "النضالي الغائي (من الغاية)" (الوعي بضرورة "الاحتراق" والاقتناع بقيمة "الرأسمال الرمزي" المترسخ كقيمة مضافة مشتركة) يفقد المعادلة ككل، أي جدوى ويجعل منها مجرد مرادف باهت للانتحار. لكل هذا، تمت الإشارة إلى أن المقصود بالعنوان، رغم الخداع الظاهري للغة في مبناها، هو تماما عكس ما رمى إليه طلحة جبريل حين كتب سيرته قبل أشهر من معنى. 2- عن أصناف الأكل والمأكول المقصود بالصحيفة في عنوان المقال هي، تحديدا، صحيفة "المساء"، أما المقصود بالأكل، فهو متعدد متشابك، فيه ما يرتبط بالمفهوم الشعبي للكلمة "الأكل في الرزق" (قضية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي لم تؤد مستحقاته إلا بحكم قضائي/ قصة الخمسين سنتيما التي تم طمسها ولا أحد يعرف أين دخلت ولا أين خرجت)، وفيه ما يتعلق بالمفهوم الديني كما تصفه الآية الكريمة "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه" الذي تساوي فيه البلاغة القرآنية بإعجاز بين التعرض للناس بالسوء والمشي بالنميم وبين أكل لحم الأخ (سبحان الله كم هي بليغة لفظة الأخ في هذا السياق) على طريقة الهمج (التشفي في علي أنوزلا وأبي بكر الجامعي/ مهاجمة توفيق بوعشرين وخالد الجامعي/ الافتراء على مصطفى العلوي ونور الدين مفتاح...)، وفيه ما يتصل بالإديولوجيا الشعبوية التي "تأكل" الأدمغة والعقول بمزاعم الزعامة والريادة والبطولات الفارغة، وتوهم القارئ بامتلاك صاحبها حلولا لكل شيء وبالفهم الدقيق لمعطيات الواقع بل وتركيز كل شيء في شخص واحد ينسب إليه كل نجاح ويبرأ من كل إخفاق. (ماذا نفهم من أعمدة من قبيل "غير آجي وقلد المساء" و "حلول لوجه الله" ومن ادعاءات سابقة في تجربة أخرى بأن عمودا هو فقط من يبيع جريدة ثبت فيما بعد أنها حافظت على استقرار رقم مبيعاتها). إديولوجيا تكرس مفهوم "الصحافي البطل الأسطوري المطلق" الجالب للخلاص، على حساب الدور الحقيقي لرجل الإعلام المتمثل في النقد المتجرد والموضوعي والواعي بنسبية الفعل في الساحة العامة، وتكرس مفهوم الصوت الذي لا صوت يعلو فوقه، الذي يخلق "حقائق" ذات بعد واحد (اختزال أسباب مشاكل بنيوية معقدة ومتشابكة في شخص واحد وتقريعه لغرض تأليبي شعبوي فارغ من كل مضمون بناء: هاجم مدير المساء وزيرة الصحة في بداية موجة أنفلوانزا الخنازير، بدعوى تأخر الوزارة في اقتناء حقن الطاميفلو وبعد ذلك بدعوى عدم كفاية العدد المقتنى من الحقن، ثم ما لبث أن تنكر لكل ذلك بعدما انحسرت موجة وباء "الإيتش وان إن وان" واتهم الوزيرة بالتورط في اقتناء كميات كبيرة من دواء لا يصلح لشيء ثم ختم بافتراء إصابتها بالوباء بمراكش وعدم حضورها الخطاب الملكي آنذاك حول الجهوية لتلقيها العلاج بأحد مستشفيات المدينة!!! لكنه طول هذا الوقت لم يناقش أبدا الخطة التي وضعتها وزارة الصحة لمواجهة الوباء ولم يشرح لأحد مؤاخذاته عليها.) وهي المنهجية التي لا تصلح في نهاية الأمر إلا مكبا لتفريغ الغضب وتهييج الأحقاد، ولا تصمد أمام التحليل العلمي الرصين والقراءة المنهجية للخطاب (ربما لهذا السبب لا نرى أبدا مدير نشر هذه الجريدة يحاضر أو يناظر أو يساجل في اللقاءات والندوات المتخصصة أمام باحثين ذوي مراس ويكتفي بإغلاق مكتبه عليه ومخاطبة الناس من خلال عموده.) إيديولوجيا تصنع في نهاية الأمر قراء مريدين على شاكلة ما وصفه السوسيولوجي المغربي الكبير عبد الله حمودي في كتابه "الشيخ والمريد"، لا يعطلون فقط عقولهم أمام عقل "القطب" بل ينفون العقل عن كل ما سواه. وفيه ما هو ذو طبيعة اعتياشية طفيلية، تقتات على مصداقية الناس، وتعتاش من توظيف أسماءهم ورأسمالهم الرمزي للدعاية لنفسها. كما تقتات الطفيليات على نسغ الأشجار والزروعات. بل إنها لا تكتفي ب"أكل" هذا الرصيد واستهلاك مصداقية هؤلاء، إنما تتعدى ذلك أحيانا إلى مهاجمتهم مباشرة أو من بعيد كلما حاولوا المحافظة على استقلاليتهم وتشبثوا بحرية رأيهم. (لماذا اختفى من صفحات الجريدة: أحمد السنوسي، وعلي لمرابط، ومحمد الساسي، ومحمد الراجي (الذي استهلك استهلاكا إعلاميا استنزافيا)، وخالد الجامعي (الذي كتب طويلا في صفحة رأي هذه الجريدة، وأجري معه حوار للنشر في رمضان حول سيرة والده الحاج بوشتى الجامعي، وبعد الاستفادة من كل هذا بدأت مهاجمته بشكل منهجي وتصويره على أنه مجرد مرتزق اشتغل مستشارا إعلاميا لشخصية نافذة مقابل المال بالإضافة إلى مهاجمة والده الذي مات منذ زمان)، ولماذا تمت الاستفادة من شهادات صحافيين عايشوا تجربة إنشاء "لوجورنال" التي قدمت آنذاك كأسطورة إعلامية تنويرية (منهم علي عمار مثلا) ثم مهاجمتهم مباشرة بعد ذلك وتقديم المجلة مرة أخرى كتجربة فاشلة وكنموذج للارتجال والعشوائية وقذارة الذمة (هاجمت "المساء" أبا بكر الجامعي، وفاضل العراقي وعلي عمار وقدمتهم كمقاولي بناء لا كصحافيين، دون أن يشرح لنا صاحبها سبب هذا الهجوم ولا سبب هذا الانقلاب الفجائي في الموقف.) ؟؟؟) وأما المقصود بالأبناء، فهم كل من تعرضوا "للأكل" من طرف هذه الجريدة المسعورة: الصحافيون الذين صنعوا مجدها وأدارت لهم ظهرها بعدما هضمت مستحقات بعضهم (آخرهم عبد الإله سخير)، القراء الذين وثقوا فيها فسطحت وعيهم كذبت عليهم غير ما مرة، الزملاء الذين فتح عليهم مديرها رشاش وشاياته وافتراءاته (ألم يكتب صاحب هذه الجريدة متهما الصحافي نور الدين مفتاح بتلقي أموال من الأمير هشام بن عبد الله العلوي، هكذا افتراء دون دليل ولا حجة؟؟؟)، المناضلون وأصحاب الرأي الحر الذين ناضلوا ضد تدجين السلطة فحاولت هذه الصحيفة استغلال هذه المصداقية لتلميع صورتها ثم سعت بعد ذلك لتدجينهم.... الفرق الجوهري بين الأكل الذي تحدث عنه كتاب/حوار طلحة جبريل وبين هذا الذي يتناوله هذا المقال، أن أيا من هؤلاء الأبناء، لم يختر أن يؤكل بهذه الطريقة الهمجية، لا أحد اختار، ولا ظن، أنه سيطعن غيلة في ظهره، في معارك صغيرة حقيرة بلا مجد ولا شرف. فأي قيمة مضافة جماعية نحصدها اليوم من كل هذا العواء الفارغ المريض سوى تبخيس العمل الصحافي وتلويث الآذان بضجيج مكتوب؟ لقد صرح الشاعر والروائي عبد اللطيف اللعبي قبل أشهر لجريدة يومية بأن الحليف الطبيعي للصحف الحرة هو المثقف والمناضل لا "مول الشكارة". هذا الكلام لا يصدر إلا عن رجل مثقف وحكيم، وتكفي زيارة خفيفة إلى صفحة رأي هذه الجريدة،( صفحة أغلب من يكتبون فيها اليوم مستوردون من خارج المغرب) ومقارنتها بما كانت عليه في بداياتها الأولى، ثم زيارة صفحتها الثقافية أيضا لقياس زاوية الانعطاف. أكل الأبناء، هو في النهاية ظاهرة مرضية وغير طبيعية، وهو أيضا بالضرورة أكل تقسيطي للذات، أكل يقع تحت تأثير النهم أو الجوع أو التخدير أو غير ذلك مما يعمي القلوب التي في الصدور، لكنه ينتهي دائما، حين يستفيق فاعله، بفاجعة الندم. وكمؤشر صغير وسؤال دال لا يلتفت إلى طرحه في هذا السياق: هل ازداد رقم مبيعات "المساء" منذ بدأت "تقتات على لحوم البشر" كأي وحش؟ عودوا إلى أرقام "الأو جي دي" التي يحلو لمدير الجريدة "الأكثر مبيعا" الإحالة عليها، ففيها ستجدون الجواب. ألم يقل شاعر مغربي كبير ذات قصيدة معبرة؟: "أَكلتَ ثم أُكلتَ كالثور الحرونِ وليس إلا نحنُ، إلا نحنُ، مأكولينَ من أمّاتِ قَشْعَمٍ الحَنونِ!.."