سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اقترح دلمي أن يتولى رئاسة التحرير وأنتقل أنا إلى الرباط لكتابة «الأعمدة وإجراء الحوارات» برروا إقالتي بتراجع المبيعات لكنهم قرروا حجب البيانات بعد أن حققنا رقما قياسيا في الصيف
الحلقة 36 : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected] لنتوقف الآن عند قرار الاستغناء عنك من قبل مسؤولي «الصباح». ما هي الملابسات التي صاحبت هذا القرار؟ - هم لم يستغنوا عني، لكنهم اقترحوا إقالتي من رئاسة التحرير، على أن أنتقل إلى مكتب الصحيفة في الرباط، لكن دعني أسرد عليك الوقائع كما كتبتها في وقتها طرية، وكما أقول مرارا، لا أركن عادة إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها تستعيد الوقائع كما جرت بتفاصيلها حية ونابضة. عدت من لندن يوم الخميس ثامن نوفمبر 2001 بعد زيارة قمت بها إلى هناك بدعوة من وزارة الخارجية البريطانية. التقيت عدة مسؤولين بريطانيين وأجريت حوارا مع رئيس الوزراء البريطاني، آنذاك، توني بلير لم يكتب له أن ينشر قط. جئت مرهقا من تلك الرحلة بعد برنامج لقاءات حافل مع مسؤولين رسميين وإعلاميين. عدت وفي ذهني مجموعة أفكار لتطوير الصحيفة وزيادة مبيعاتها خلال شهر رمضان، الذي كان وقتها على الأبواب وعلى بعد أيام. فضلت بسبب إرهاق السفر أن أذهب إلى الصحيفة يوم الأحد بدلا من الجمعة على اعتبار أن السبت هو يوم العطلة الأسبوعية. هل ذهبت فعلا إلى مقر الصحيفة في ذلك اليوم، أي يوم الأحد؟ - نعم. سعيت الى اللقاء مع عبد المنعم دلمي ذلك اليوم لأطلعه على نتائج زيارة لندن كما اعتدت أن أفعل حين أكون في مهمة صحافية، لكنه لم يحضر إلى مقر الشركة. في اليوم الموالي، أي صباح الإثنين 12 نوفمبر، أبلغتني كاتبة الصحيفة، أن كاتبة سي دلمي تقول إنه يريد اللقاء بي في الثالثة بعد الظهر، ويجتمع مع المحررين في الساعة الخامسة. أحسست أن هناك أخبارا غير سارة. أن يلتقي بي دلمي فهذا أمر طبيعي ومعتاد، لكن أن يلتقي بعد ذلك بالمحررين، وبعد ساعتين من اجتماعنا، يعني ذلك أن هناك أمرا مهما. وما الذي فعلته أنت بعد ذلك؟ - كان يفترض أن أعقد ذلك اليوم اجتماع التحرير الأسبوعي مع المحررين، وبالفعل حضر الصحافيون الذين يعملون في مكتب الصحيفة في الرباط لحضور الاجتماع. ذهبت إلى خالد بليزيد المدير العام للشركة، الذي أصبح من وجهة نظري يشكل العقبة الرئيسية لجميع برامجي ومشاريعي لتطوير الصحيفة، أستفسره بكيفية غير مباشرة عما إذا كان لديه علم بموضوع الاجتماع مع دلمي، لكن كان في اجتماع في مكتبه مع ضيف زائر. انسحبت وعدت إلى مكتبي في الطابق الرابع. بعد ذلك زارني بليزيد في مكتبي مستفسرا، فقلت له: «وددت استفسارك إذا ما كان الاجتماع مع دلمي يستدعي تأجيل اجتماع التحرير الأسبوعي»، تظاهر بأن ليس لديه علم بموضوع الاجتماع وألمح إلى أنه من الأفضل تأجيل اجتماع التحرير. في الموعد المحدد مع دلمي ذهبت إلى مكتبه في الطابق الثالث. دخلت المكتب وطلب مني الجلوس. جلسنا متقابلين في الأريكة التي توجد أمام مكتبه. بدأ عبد المنعم دلمي حديثه بالقول إن أرقام مبيعات الصحيفة في تراجع، وإن خسائر الصحيفة بلغت خمسة ملايين درهم (نوفمبر 2001). كان يتطلع في جذاذات ورق مقوى، يحملها ويتحدث بعصبية لم أعهدها فيه. وأضاف أنه سيضطر إلى إغلاق الصحيفة في يناير (2002) إذا استمر الأمر على هذا الحال، وقال إن الصحيفة حتى تحقق توازنها المالي لابد أن توزع 30 ألف نسخة، لكن إزاء الخسائر الحالية لابد أن توزع 35 ألف نسخة يوميا. وقال أيضا إنه لا يستطيع إقناع شركائه في الشركة بالاستمرار في إصدارها، على الرغم من أنه يملك أغلبية الأسهم، طالما أن أرقام التوزيع في هبوط وليست في صعود. وماذا كان ردك؟ - كنت أستمع إلى ما يقوله دلمي، الذي راح ينتقد بعض ما نشر في الصحيفة، ومن ذلك عمود كتبه أحد المحررين حول ضياع قلمه (عمود مزح يمزح وكان مخصصاً للسخرية)، وأشار كذلك إلى حوار جرى مع إيمان أزدي (موظفة في القسم التجاري في الشركة)، وقد نشر الحوار معها في زاوية «وجوه في الزحام». وتحدث كثيرا عن هذا الحوار باعتباره نموذجا لعمل سطحي ساذج وسخيف. لكن لماذا انتقد دلمي هذا الحوار بالضبط مع إيمان أزدي وهي ليست إلا واحدة من طالباته؟ - بصراحة لا أدري. المهم أنه قال لي أيضا إن محرري «الصباح» لا يعملون كما يعمل زملاؤهم في «ليكونومست» من حيث الإنتاجية، وأنهم يخرجون باكرا من مكاتبهم، وهو ما أصبح يثير غيظ محرري «ليكونومست». ومن بين الانتقادات التي وجهها لي شخصيا أنني لم أسكن في الدارالبيضاء، وهو ما شجع المحررين على مغادرة مكاتبهم باكرا. هنا أبديت ملاحظة صغيرة، وكنت مستعداً لتفنيد كل ما طرحه. قلت له: «كنت من أوائل الذين يحضرون وأتغدى في مكتبي، ومن آخر الذين يغادرون». وعقب على هذه الملاحظة بالموافقة على ما قلت، لكنه استمر في التعبير عن استيائه من تراجع مبيعات الصحيفة. ألم تكن هناك جوانب إيجابية من وجهة نظره؟ - أشار إلى الأمور الإيجابية، وقال إن الصحيفة تبوأت مكانتها في السوق وأصبحت تحظى باحترام الطبقة السياسية والنخبة، لكنه «غير مستعد أن ينفق أمواله في تأطير المجتمع»، على حد تعبيره. وأكد أن ما يهمه هو العائد المالي وليس الجانب المعنوي، وأن ليس له هدف سياسي، كما هو شأن الأحزاب، حتى ينفق أمواله على تأطير المغاربة. وقال إن هناك ميوعة وضباب في الأجواء السياسية أثرت على كل شيء. وبعد تلك الانتقادات، أبلغني بأنه قرر أن يتولى هو شخصيا رئاسة التحرير، على أن أنتقل أنا إلى مكتب الرباط وأتفرغ للكتابة، أي أكون كاتب عمود (كرونيكور قالها بالفرنسية)، وأن يكون من مهامي أيضا إجراء حوارات وكتابة تقارير إخبارية. وماذا كان ردك على هذه الملاحظات؟ - سأقول لك شيئا. طيلة حياتي المهنية، وعندما أشعر أن قرار فصلي أصبح جاهزاً، أنزع إلى الهدوء. في تلك اللحظة المفتوحة على جميع الاحتمالات، استعدت كامل هدوئي، وابتسمت ابتسامة، من المؤكد أنه أدرك مغزاها، وأنا لا أشك مطلقا في ذكائه وقدرته على فهم الأشياء من حوله. كان يتحدث عن هبوط أرقام التوزيع، ثم استدعى سمير السيفر، المدير الإداري والمالي، وأنا ما زلت في مكتبه، ليزوده بآخر الأرقام. قلت في نفسي: «هل أنا الآن أمام الشخص نفسه الذي التقيته لأول مرة في فندق هيلتون في الرباط في فبراير 2000 وكان معجبا بقدراتي المهنية وبكفاءتي الصحافية؟» وتساءلت مع نفسي، لماذا لا يختصر هذا الرجل الطريق ويقول «قررنا الاستغناء عنك لأسباب تتعلق بسياستنا المالية والتحريرية»؟ ألم يكن ذلك أجدى وأنفع، دون الدخول في نقاش، سيبدو عقيما في كل الأحوال ولا جدوى منه، إذ لم أكن أستطيع في تلك اللحظات قادرا على تغيير قرار اتخذ بليل، وليس واردا على الإطلاق أن أتوسل إليه لمراجعة القرار. لست أنا من يفعل ذلك. دارت هذه الأفكار في ذهني، وانا اتأمل رجلاً محترماً، يريد إقناعي بانه يتخذ قراراً صائباً. كنت اتأمل امامي رجلاً منقبضاً كما تنكمش المحارة عندما تصب عليها نقطة من الحامض. ماذا قلت أنت إذن بعد أن سمعت ما سمعت؟ - قلت له يا سي دلمي دعني أجيب على جميع ملاحظاتك، واحدة تلو أخرى، قبل أن أرد على اقتراحك بالانتقال إلى الرباط «لكتابة الأعمدة والتفرغ للحوارات». قلت له إني لست مسؤولا عن تراجع مبيعات الصحيفة، لأن آخر رقم زودتني به إدارة الشركة كان في 31 يوليوز الماضي (2001)، ويفيد أن المبيعات بلغت 21 ألف نسخة يوميا، وهو رقم جيد جدا خلال الصيف الذي تتراجع فيه مبيعات الصحف. وأوضحت له أن سمير السيفر، المدير الإداري والمالي، أبلغني أن تعليمات خالد بليزيد، المدير العام، تقضي بعدم تزويدي بأرقام التوزيع، وأنه، أي بليزيد، سيشرح لي دواعي ذلك القرار، وهو أمر لم يتم حتى يومنا هذا، وأشرت تلميحا إلى أنهم هم الذين قرروا تخفيض كميات السحب عكس ما كانت تطلبه «سابريس». ثم قلت له بوضوح إن «إدارة الشركة هي المسؤولة عن تراجع المبيعات لأني ذهبت في عطلة (30 يوما) تراجعت خلالها المبيعات عندما تولى عبد الرشيد الزبيري مسؤولية التحرير بالنيابة، وتبين لي أن اعتمادي عليه كان قرارا خاطئا، وطلبت بالفعل إعادة النظر في مسألة من ينوب عني خلال غيابي، لكنكم تجاهلتم طلبي. كان واضحا وقتها أن دجاج والزبيري رتبا كل شيء مع بليزيد، وهو ما سيتجلى في التعيينات التي جاءت عقب قرار إقالتي. وقلت له أيضا: «بعد عودتي من العطلة قررتم إدخال تغيير على الخط التحريري، وأن يتفرغ سبعة محررين دفعة واحدة، أي نصف الطاقم، لإنجاز ما أطلقتم عليه مواد «الحوادث والمنوعات»، وبالفعل طوال ما يقارب شهرين من منتصف غشت وحتى حدود منتصف أكتوبر، كان هؤلاء المحررون يجتمعون مع بليزيد بدون مشاركتي (في بعض المرات مع دلمي وبليزيد) من أجل التفكير في المواضيع التي يفترض إنجازها، ولم نر ولو موضوع واحد أنجز. وأكدت له أن تلك الاجتماعات كانت عبثية وبلا طائل لأن المحررين لم ينجزوا موضوعا ذا قيمة، وأنه خلال هذه الفترة كنت أنجز الصحيفة مع محررين اثنين فقط، إضافة الى محرري القسم الرياضي. وأوضحت له أننا (أي نحن الثلاثة) نعاني حاليا من شدة العياء، في حين انعدمت عمليا مساهمة سبعة محررين. ثم قلت له بوضوح إن تدخل خالد بليزيد، الذي لا يعرف الفرق بين المبتدأ والخبر، في عمل التحرير بأفكار لا علاقة لها بواقع القراءة والقراء منذ تعيينه مديرا عاما، هو الذي أفسد كل شيء. وماذا كان رده؟ - هنا سألني دلمي: «لماذا لم تقل لي ذلك؟». وضرب مثلا بنادية صلاح، رئيسة تحرير «ليكونومست»، التي كانت تصطدم مع بليزيد إذا ما أراد التدخل في عملها، أي أنه كان مطلوبا مني أنا أيضا أن اصطدم مع بليزيد مثل ما تفعل نادية صلاح، فقلت له إن ذلك لم يكن ممكنا لأن وضعية نادية صلاح ليست هي وضعيتي (كنت أقصد أن نادية صلاح شريكة في الشركة وفي الوقت نفسه زوجة دلمي)، وقلت له أيضا «إنني في إطار الاحترام الذي بيننا، لم يكن لائقا أن أدخل في صراعات مع شخص عينته مديرا عاما، وهو مساهم في الشركة». وقلت له كذلك «إذا كنت تعتقد بأنني فشلت كرئيس تحرير، فهذا لا يعني أن التجربة فشلت»، وزدت قائلا: «أنا مهني، وأفضل أن أحافظ على هذه الصفة وأغلق هذه الصفحة تماما». المفارقة أن خالد بليزيد، الذي لم يكن حاضرا الاجتماع بيننا، قام بتحوير هذه العبارة في وقت لاحق خلال اجتماع مع المحررين، ليقول لهم إني قلت «إنه إذا فشل رئيس التحرير لابد أن الصحيفة ستفشل»، والفرق واضح بين ما قلت وما نسب إلي، بل سيقول بليزيد في اجتماع المحررين الذي حضره إلى جانب دلمي، إن «الصباح» أتاحت لي فرصة أن أصبح رئيسا للتحرير، وأن هذه الفرصة لن تتكرر مرة أخرى. عندما سمعت هذه العبارة علقت عليها قائلا: «كنت رئيسا للتحرير قبل أن يطلب مني إصدار «الصباح» ويمكن أن أصبح رئيسا للتحرير في أي وقت، لسبب بسيط أن شركة «إيكوميديا» ليست لديها مخازن يشتري منها الصحافيون ألقابهم». وكانت آخر جملة سمعها مني عبد المنعم دلمي في هذا اللقاء معه، وهي جملة ما زلت أتذكرها جيدا «أنتم تقررون ما تريدون وأنا أقرر ما سأفعل. كل منا يستعمل حقه في أن يقرر ما هو متاح له». هل كان ذلك كل ما قلته؟ - إضافة الى ذلك، قدمت له اقتراحات عملية. اقترحت عليه أن يبيع الصحيفة، إذا كان الأمر يتعلق بخسائر مالية، بعد أن وجدت لها مكانا في السوق. أثنى دلمي على هذا الاقتراح وقال: «هذه فكرة جيدة لم ترد على بالي»، وزاد «بالفعل أعطيتني فكرة جيدة، نبيعها لمن يريد، وإذا رغب، نتولى نحن الإدارة ويحدد المشتري الخط التحريري الذي يريده». قال ذلك بعظمة لسانه وكنت أسجل ما يقول على أوراق صغيرة، وهو يرى ذلك. بعد ذلك الاقتراح، طرأت لي فكرة، فقلت له: «ما رأيك في أن أذهب في عطلة؟، إذ أن لدي رصيدا من العطلات لم أستفد منه، وخلال ذلك تعلن توليك رئاسة التحرير كما اقترحت، على أن تدخل على الصحيفة جميع التغييرات التي تراها كافية لرفع أرقام التوزيع من وجهة نظرك، ثم تجري عملية تقييم عمل المحررين عن قرب، وعلى ضوء ذلك ستقرر أسلوبا جديدا للعمل. وبالنسبة لي خلال العطلة أتأمل اقتراحك بالتفرغ للكتابة وبعد انتهاء العطلة، أبلغك رأيي بالنسبة لاقتراحك بالبقاء مع الصحيفة بالصيغة التي اقترحت». راقه جدا هذا الاقتراح، وقال لي إنه خلال توليه رئاسة التحرير سيشرع في عملية تقييم عمل المحررين، وربما يستغني عن بعضهم. قلت له: «على ضوء ذلك أقترح تأجيل اجتماعك مع المحررين حتى الغد على أن نقول للمحررين وحتى للناس خارج الشركة بأنك قررت تولي رئاسة التحرير وأنني في عطلة سأعود بعدها للتفرغ للكتابة». وماذا كان رده؟ - وافق على هذا الاقتراح مائة بالمائة. هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ - قطعا لم تنته الأمور عند ذلك الحد، لكنها ستسير في الاتجاه الذي كان مقررا لها في الأصل، وهو ما سيتضح مع توالي الأحداث. خرجت من عنده وصعدت إلى حيث مكتبي وطلبت من الكاتبة جمع بعض أوراقي الخاصة، أو تلك التي وجدت أنني ربما أحتاجها خلال العطلة، ثم تركت كل شيء على حاله بما في ذلك صور أبنائي فوق المكتب، وذهبت إلى سمير السيفر، المدير الإداري والمالي، حاملا طلب عطلة من 13 نوفمبر 2001 إلى 9 ديسمبر من السنة نفسها. فوجئ السيفر بطلب العطلة، وسألني مستفسرا عن سر هذه العطلة المفاجئة، فقلت له: «ستعرف السبب لاحقا». ثم ذهبت إلى خالد بليزيد، وقلت له إن دلمي قدم لي اقتراحا سأتأمله خلال فترة العطلة. وأضفت، وكنت صادقا فيما أقول، «على أي حال، أعتقد بأنني خلال فترة عملي في الشركة اكتسبت أصدقاء»، وكنت حتى ذلك الوقت لم أعرف بأنه هو الذي خطط لإبعادي ليأتي بمحرر طوع بنانه ليصبح رئيسا للتحرير. أجابني بليزيد، الذي يبدو أن دلمي أحاطه علما بخلاصة ما دار بيننا، قائلاً «لا يوجد شخص في الشركة عمل على المس بكرامتك». وكنت قد قلت لدلمي إنني كنت أشعر في بعض الأحيان أن كرامتي المهنية تمس (وكنت أقصد تدخلات بليزيد في أمور تحرير صحيفة لا يعرف حتى اللغة التي تصدر بها). والواقع أني لم أكن أرغب في أن يطول الحديث بينا، وودعته وأخذت حقيبتي وخرجت من مبنى الصحيفة في حوالي السابعة مساء من يوم الاثنين 12 نوفمبر 2001. ولعل من مصادفات القدر أن «مانشيت» الصحيفة في ذلك اليوم، أي العدد الذي أنجز يوم الأحد، كان عنوانه «مارادونا الأسطورة يودع الملاعب باكيا»، وهو المقال الذي كتبه الزميل حسن العطافي. من تقصد بالمحرر الذي «طوع بليزيد بنانه»، على حد قولك؟ - دعني أرتب لك الامور ترتيباً زمنياً. بقى اسمي في ترويسة الصحيفة بضعة أيام من نوفمبر 2001، ثم كتبوا مقالاً في الصفحة الأولى حول ما أطلق عليه إعادة الهيكلة، وفي 19 نوفمبر حذف اسمي من الترويسة، وتم تعويضه باسم عبد الله دجاج رئيسا للتحرير (يقصد عبد الله نهاري). والمفارقة أن من أسندت إليه رئاسة التحرير، أي دجاج، كان في ذلك الوقت يحمل بطاقة محرر متدرب، التي تمنحها وزارة الاتصال، لأنه حصل على تلك البطاقة لأول مرة، وليست له بطاقة محرر مهني التي تمنح للمحترفين. ولعلها المرة الأولى في تاريخ الصحافة أن تناط بمحرر متدرب مسؤولية رئاسة تحرير صحيفة يومية. ثم لعلها المرة الأولى التي يستعمل فيها «رئيس تحرير» اسما مستعارا. عندما كتبوا أنك لم تعد رئيسا للتحرير، هل حاولت أن تشرح للوسط الإعلامي ما حدث؟ - أبدا. كنت اتفقت مع عبد المنعم دلمي ألا أقول شيئا، وألا أصرح لأي جهة بما حدث، على أن يلتزموا هم بالإعلان أن دلمي تولى رئاسة التحرير. وبالفعل أغلقت هاتفي وبقيت في الرباط. أبلغت أبنائي فقط بأني لم أعد رئيسا لتحرير «الصباح»، وكانوا في سن نضج تسمح لهم باستيعاب الأمور هذه المرة، على الرغم من أنهم شعروا بالمرارة والأسى، ولم يكن سهلا عليهم في كل مرة أن يتقبلوا الطريقة المهينة التي أفصل بها، وهم أكثر الناس وأقربهم إلي ويعرفون كيف كنت أسهر الليالي، أراجع المواد، وأعكف على صياعة أفكار جديدة كلما أشرقت شمس يوم جديد. وعلى الرغم من صغر سنهم، كنت أجد فيهم عونا وملاذا في جميع تقلبات الزمان، كما كنت أجد فيهم أصدقاء حقيقيين، وأنا فخور بهم لسبب منطقي، إذ كلما كنت أمر بمحنة حتى يفاجئوني بمضاعفة جهدهم في التحصيل والدراسة. لم يخذلوني قط. وكيف تسرب خبر الاستغناء عنك من مهامك كرئيس تحرير في «الصباح» إلى الصحف؟ - المفارقة أن أول خبر حول إقالتي نشر في صحيفة «إيلاف» الإلكترونية التي سأتولى رئاسة تحريرها عام 2003. وكتب الخبر تحت عنوان «الصباح المغربية تتخلى عن رئيس تحريرها». من أين حصلت «إيلاف» على الخبر؟ - يقول الشاعر طرفة بن العبد في معلقته الرائعة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا...... ويأتيك بالأخبار من لم تزود ويأتيك بالأخبار من لم تبع له...... بتاتا ولم تضرب له وقت موعد بالطبع، كان هناك داخل طاقم التحرير من هو على استعداد أن ينقل الخبر، ويضيف له من التوابل ما يرغب، ومن الأمنيات ما يريد، ومن الحكايات ما ينسج. هل تقصد هنا اسما بعينه وراء تسريب الخبر؟ - ليس مهما أن أشير إلى أي اسم من الأسماء. ما هو مهم أن «إيلاف» كتبت الخبر، وجاء في صيغته: «أفاد مصدر موثوق في صحيفة «الصباح» المغربية أن إدارة الجريدة، التي تصدر بالإضافة إلى يومية «الصباح» صحيفة «ليكونوميست» المتخصصة في الاقتصاد، استغنت عن رئيس تحريرها طلحة جبريل، وقد عقد اجتماع بين صحفيي الجريدة ليعلن عن الصحفي عبد الله نهاري مديرا للتحرير، والزبيري سكرتيرا للتحرير. وقد خيرت الإدارة الصحفي طلحة جبريل بين المكوث في الجريدة كصحافي وبين الرحيل عنها، ويقضي الآن إجازة مفتوحة لمدة ثلاثة أسابيع، حسب نفس المصدر. وقد عللت الإدارة إقالة الصحفي السوداني طلحة جبريل من مهامه، حسب المصدر نفسه، لاختلاف في وجهات النظر حول طريقة تسيير إدارة التحرير، وفي تشبث طلحة جبريل بمواقفه واختياراته التحريرية التي لم ترض الإدارة العامة». كان هذا نص الخبر كما نشرته «إيلاف» يوم الأربعاء 14 نوفمبر 2001. نقلته كما هو، وبما حفل به من ركاكة وأخطاء في الصياغة.