قَدَرُ الشعب الفلسطيني أن يذوق من جميع أصناف المآسي والعدوان وأن يكون مَشْتَلا للقرابين يقدمها من أجل الحق والكرامة نيابة عن ضمير الإنسانية المَعْطوب وتكفيرا عن وجوده على أرض الأنبياء ومهدِ الديانات وموطن رسالات السلام ، ولأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" يتشبث هذا الشعب بقَدره ويجدد على الدوام هويته أثناء كل محنة ويُبْدِعُ في ألوان المقاومة والصمود بتحديات لا مثيل لها سوى في نسيج الأساطير وخيالات الشعراء ، قدر هذا الشعب أن يكون حقلا لتجارب السيكولوجية العنصرية وعقلية الهيمنة وإرادة الإنتقام . الحرب الجارية في قطاع غزة تشنها إسرائيل بالأصالة وبالوكالة ، بالأصالة لأن سيناريو هذه الحرب جاهز على طاولة حكومة الإحتلال منذ مدة ، فموضوع الصواريخ والمقاومة المسلحة على العموم يشكل عقدة يعاني منها الإسرائليون على الدوام وكل الحكومات المتعاقبة تسعى إلى وضع حد لها وحشر الموقف الفلسطيني برمته في دهاليز المفاوضات التي قُرِّرَ لها أن لا تنتهي ؛ وبالوكالة لأنها تشن هذه الحرب مستثمرة ما استجد في المسرح السياسي الفلسطيني والمصري ، أي طموحات حركة "فتح" برام الله في الهيمنة على القرار الفلسطيني من خلال حكومة التوافق الوطني وإرادة الإنتقام عند نظام "مُبارك الثاني" بالقاهرة من حركة "حماس" التي تشكل امتدادا لتنظيم "الإخوان" المصري . نظام "مُبارك" الذي خرج من الباب في 25 يناير وعاد من النافذة في 30 يونيو وضع أولى مهماته القضاء على الإسلام السياسي الذي تمثله حركة "الإخوان المسلمون" حيث يرى فيها الخصم السياسي الرئيسي والمنافس القوي في الشارع المصري وإذا تمكن من ذلك قد يخلو له المجال للإستفراد بالسلطة وترميم الشروخ التي أحدثتها انتفاضة ساحة التحرير في منظومة الدولة ، من أجل هذه الغاية وجب غلق معبر رفح لفك الإرتباط بين الإخوان داخل مصر وقاعدتهم الخلفية حركة "حماس" وقد يصل الأمر إلى دعم أي حملة عسكرية تروم إنهاء الوجود "الحمسوي" وهذا بالضبط ما تلقفته إسرائيل في حينه فاندفعت للبحث عن ذريعة تُشَرْعِنُ بها الحرب على المقاومة المسلحة المتمركزة في قطاع غزة ، وهكذا التقت أهداف "مُبارك الثاني" و"نتنياهو" المختلفة حول ضحية واحدة ، فبات ضروريا قتل أطفال فلسطين من أجل سلامة أطفال إسرائيل وقتل نساء غزة لحماية نساء مصر من التحرش الجنسي . كان للتحولات السياسية التي عرفتها مصر تأثيرا مباشرا على الوضع الداخلي الفلسطيني حيث تحركت الفصائل لإنهاء الإنقسام وفتح صفحة المصالحة الوطنية بين خط المقاومة المسلحة في غزة وخط التفاوض والحلول السلمية في الضفة الغربية ، فمن جهة كانت حركة "فتح" في حاجة إلى تقوية حضورها الفلسطيني عبر استرجاع شعبية رئيس "السلطة" أبو مازن التي وصلت إلى الحضيض بعد فشل جولة المفاوضات التي رعاها "كيري" ففُرض عليها العودة لمعانقة "حماس" والإستقواء بهيبة المقاومة لإغاضة إسرائيل والظهور بمظهر الفاعل الرئيسي أمام الرأي العام الداخلي والخارجي ، ومن جهة أخرى وجدت حركة "حماس" نفسها بين فكي كماشة ، إسرائيل من ناحية ونظام "مبارك الثاني" من ناحية أخرى بعد إزاحة حكم الإخوان في القاهرة ، ففُرض عليها التخلص من حكومة غزة للإحتماء بحكومة وطنية وحتى تكون أسلحة المقاومة تحت المسؤولية السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية ويكون مصير غزة في مكاتب المقاطعة برام الله ، قامت "حماس" بهذه الترتيبات درءا لأي اعتداء تتعرض له سواء من مصر أو من إسرائيل وبذلك تُرْغَمُ "السلطة" باعتبارها ممثلة لكل الشعب الفلسطيني على تبني مطالب خط المقاومة . أسفرت عملية المصالحة الفلسطينية إذن عن تشكيل حكومة تكنوقراطية لتسيير الأعمال والتهييئ للإنتخابات الرئاسية والتشريعية دون صلاحيات سياسية ، لكن حركة "فتح" عملت على اغتنام هذه الفرصة لتنحية "حماس" عن المشهد والإستئثار بالموقف الفلسطيني ومن ثم التحكم في فصائل المقاومة وفي أسلحتها لاستثمارها وتوظيفها في مفاوضات قادمة ؛ ليس في مصلحة "فتح" إنهاء الوجود المسلح للمقاومة نهائيا لأنه يُضعف موقع السلطة الفلسطينية وفي ذات الوقت لا تريد أن يكون القرار الفلسطيني برأسين بل مصلحة "فتح" تكمن في بيت فلسطيني يحتل فيه خط المقاومة المكانة الثانوية خلف خط التفاوض والحلول السلمية وهذا تماما ما أرادت تحقيقه سياسيا عبر حكومة التوافق الفلسطيني أما عمليا على الأرض فلا تُمانع في ضربة تتلقاها "حماس" لحملها على الإذعان للوضع الجديد. إسرائيل المُتربِّصة بالضفة الغربية وبقطاع غزة معا قرأت بدقة ما يدور في رأسي أبي مازن والسيسي فهرعت إلى استغلال أي واقعة لصناعة الموقف الداعم للحرب فلم تجد أفضل من حادث اختطاف الشبان الثلاثة ، الذي لم يخرج عن نطاق الفعل الإجرامي الجنائي ، لتنفيذ سيناريو الإجهاز على المقاومة المسلحة المرابطة بغزة ، لقد اقتنع نتنياهو أن الأجواء العدائية ل"حماس" ستساعده على إنهاء الموضوع في بضعة أيام والخروج من هذه الحرب بأقل كلفة وبمرتبة بطل قومي لإسرائيل ، نفس الإقتناع خيم على رام اللهوالقاهرة وهو ما يفسر ويشرح موقف السلطة الفلسطينية وموقف "نظام مبارك الثاني" في الأيام الأولى من الحرب ، ولما تبين أن فصائل المقاومة تحقق الإنجازات في الميدان وعلى تنسيق متين فيما بينها لمواجهة أي عدوان محتمل وعلى وعي بالمؤامرة الثلاثية سارعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى تغيير موقفها بتبني مطالب المقاومة بل أصبح أبو مازن يهدد بالدعوة إلى انتفاضة شاملة لدعم الصواريخ المنطلقة من غزة ، أما مصر ولكي تخرج من الحرج أمسكت العصى من الوسط فأعلنت مبادرة وقف إطلاق النار التي رفضتها فصائل المقاومة على التوِّ فكانت صفعة مؤلمة للنظام الجديد الذي تخاذل في إبراز شهامة شعب أرض الكنانة . الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة هي حرب إرادات : حركة "فتح" تريد توحيد الصف الفلسطيني تحت مظلة المفاوضات ولجم أي جنوح نحو المظاهر المسلحة ووضع حد لازدواجية القرار الفلسطيني ، نظام "مبارك الثاني" يريد إفراغ خزان الإخوان في غزة أما إسرائيل فتريد مَسْحَ فكرة المقاومة من الذاكرة الفلسطينية ؛ تحالفت الإرادات الثلاث على إرادة واحدة هي إرادة الشعب الفلسطيني المقاوم من أجل تقرير المصير والحصول على حقوقه والتصرف في مقدراته ومستقبله : فلسطينيا هذه الحرب هي بين خط المقاومة وخط التفاوض ، مصريا هي بين نظام "مبارك الثاني" والإخوان وإسرائيليا هي بين الإحتلال والمُحتل ، وهكذا تشكل العدوان الثلاثي على غزة ...