تضمنت استمارة الإحصاء العام للسكان والسكنى، لعام 2004، أخطاء وتناقضات في ما يتعلق بالأسئلة الخاصة ب"اللغات المحلية المستعملة"، سبق أن تطرقنا إليها في العدد 90 من "تاويزا" لأكتوبر 2004. فالأسئلة صيغت بشكل يحتوي ضمنيا على مواقف وأجوبة مسبقة من المسألة اللغوية بالمغرب، مثل تصنيف الأمازيغية إلى ثلاثة أقسام: "تشلحيت"، تمزيغت، و"تريفيت"؛ وتسمية الدارجة المغربية "العربية الدارجة"، مما يعني أن واضعي الاستمارة حسموا في كون هذه الدارجة لغة عربية مع أن الأمر ليس كذلك. لكن الغريب وغير المفهوم، هو أن المندوبية السامة للتخطيط، التي أعدت أسئلة استمارة الإحصاء لعام 2014، كررت نفس الأخطاء والتناقضات التي شابت أسئلة إحصاء 2004 المتعلقة باللغات، وهو ما كان يجب عليها أن تتجنبه في الإحصاء العام الجديد المرتقب إجراؤه في سبتمبر 2014. ليس فقط لأن مرور 10 سنوات كانت كافية لتعيد هذه المندوبية النظر في طريقة صياغة الأسئلة المتعلقة باللغات، وإنما لأن المسألة اللغوية بالمغرب عرفت تطورات نوعية هامة تمثلت في الاعتراف الدستوري بالأمازيغية كأحد "المكونات" الرئيسية للهوية المغربية، وإقرارها كلغة رسمية في دستور فاتح يوليوز 2011، وهو ما كان ينبغي معه للأسئلة المتعلقة بالأمازيغية، على الخصوص، أن تصاغ بشكل مختلف عن الصيغة المستعملة في إحصاء 2004. لن أكرر هنا الانتقادات الكثيرة والوجيهة التي أثارها مجموعة من المتتبعين والخبراء في الشأن الأمازيغي، مثل مقال الأستاذ عبد السلام خلفي "الأسئلة المفخخة حول الأمازيغية في استمارة الإحصاء العام للسكان والسكنى للسيد الحليمي"(موجود على الرباط: http://amazighworld.org/arabic/human_rights/index_show.php?id=4248) ، ومقال الأستاذ رشيد الحاحي " إحصاء السكان والأمازيغية" (موجود على الرابط http://www.hespress.com/writers/233686.html)، ومقال الأستاذ مبارك بلقاسم " إحصاء سكان المغرب بين الفقر والأمازيغية: مهازل ومسائل" (موجود على الرابط http://www.hespress.com/writers/233895.html)/، ومقال الأستاذ الصافي مومن علي "عدم دستورية استمارة قانون الإحصاء الوطني" المنشور بيومية العلم بتاريخ 03 07 2014، وبيان المرصد الأمازيغي للحقوق والحريات (موجود على الرابط http://amazighworld.org/arabic/human_rights/index_show.php?id=4246). سأتطرق إلى جوانب أخرى وخاصة من هذه الأسئلة، وإلى وضع الأمازيغية والعربية بصفة عامة في هذه الاستمارة، مع التذكير بما كتبته عن إحصاء 2004 عندما تكون نفس الملاحظة لا تزال صالحة بالنسبة لإحصاء 2014. كتبت بخصوص إحصاء 2004 بأن عبارة "اللغات المحلية المستعلمة"، التي تتضمنها استمارة الأسئلة، تحمل في ذاتها تناقضا واضحا: فبما أن هذه اللغات "محلية"، فهي إذن لهجات وليست لغات. أو بما أنها "لغات" فهي إذن ليست محلية، بل لغات وطنية مثل الدارجة والأمازيغية المستعملتين بكافة أرجاء الوطن. لماذا إذن لم تسمّ ورقة المعلومات الإحصائية هذه "اللغات" بهذا الاسم فقط دون إضافة نعت "محلية"، الذي يتناقض مع وضعها الوطني كحالة الأمازيغية والدارجة، كما أشرت؟ أو لماذا لم تسمّها "لهجات" إذا اعتبر استعمالها محليا فقط؟ نلاحظ أن هذا التناقض والالتباس تكررا مرة أخرى في استمارة إحصاء 2014. وكما فعلت استمارة 2004، قسمت الاستمارة الحالية لإحصاء 2014 الأمازيغية إلى "تشلحيت"، "تمزيغت" و"تريفيت". وهو تقسيم وضعه، كما هو معلوم، الاستعمار الذي كانت له أهدافه وغاياته وراء اعتماد مثل هذا التقسيم. فهل المندوبية السامية للتخطيط، المتبنية لهذا التقسيم الاستعماري، تتبنى كذلك أهدافه وغاباته الاستعمارية؟ أم أن هذه المندوبية تتصرف، على غرار الإقامة العامة للحماية الفرنسية، كإقامة عامة عربية، لها كل السلط والصلاحيات لتدبير الأمازيغية، عبر استمارات وأسئلة خاصة، تصاغ بالشكل الذي يخدم أهداف هذه الإقامة العامة العربية، تماما كما كانت تفعل الإقامة العامة الفرنسية من خلال تجميعها للمعطيات التي تخص الأمازيغية والأمازيغيين؟ إن استعمال تسميات "تشلحيت" و"تمزيغت" و"تريفيت"، سيؤدي إلى معطيات مغلوطة وبعيدة عن حقيقة مدى استعمال هذا الفرع من الأمازيغية أو ذاك: فعندما يُسأل مثلا مواطن من الريف عن اللغة التي يستعملها داخل أسرته، فإن جوابه البديهي دائما هو: "تمازيغت"، وليس "تريفيت". فلا أحد في الريف إطلاقا يسمي لغته الأمازيغية ب"تريفيت"، الذي هو اسم يطلق في الريف على المرأة الريفية. وعليه، فإن مستعملي الأمازيغية بالريف سيجيبون عن أسئلة الاستمارة بأنهم يستعملون "تمازيغت"، وهو ما سيحتسب فرعا من الأمازيغية المستعلمة بالأطلس المتوسط، أي "تمزيغت" التي وردت في ورقة الإحصاء، والتي يقصد بها أمازيغية المغرب الأوسط. وهذا ما سيعطي نتائج مغلوطة وغير صحيحة، اللهم إذا كان المسؤولون أرادوا ذلك وخطّطوا له. هذا الخطأ سبق أن وقعت فيه وزارة التربية الوطنية عندما وزعت استمارة لاختيار معلمي الأمازيغية إبان الموسم الدراسي 2003 2004، تتضمن ثلاث خانات: تشلحيت، تمازيغت، تريفيت. فأعدت خريطة المدارس التي اختيرت لتدريس الأمازيغية على هذا الأساس الخاطئ حيث لم يحظ الريف إلا بعدد قليل جدا من هذه المدارس ومن مدرسي الأمازيغية. ولما انتبه أعضاء من المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إلى أن توزيع تلك المدارس غير سليم ولا متوزازن وطرحوا ذلك على الوزارة المعنية، اعترف الجميع، بعد البحث والمراجعة، أن مصدر الخطأ هو الاستمارة التي تضمنت خانات "تشلحيت"، "تمزيغت" و"تريفيت" حيث ملأ غالبية المعلمين الريفيين الخانة الخاصة ب"تمزيغت"، لأن اللغة التي يتقنونها تسمى عندهم "تمزيغت". وقد تم تدارك هذا الخطأ وتصحيحه من طرف وزارة التربية الوطنية في عهد وزيرها السيد لحبيب المالكي. لقد كان على المسؤولين، الذين أعدوا العمود الخاص باللغات ضمن استمارة الإحصاء، أن يستشيروا، تجنبا لمثل هذه الأخطاء، باحثين يتقنون أمازيغية المناطق الثلاث، بدل اعتماد مصطلحات وضعها الاستعمار ولا تحمل نفس المعنى عند السكان الذين سيطلب منهم الإجابة عن أسئلة تستعمل تلك المصطلحات الاستعمارية. بل نجد أن أحد أكبر المستمزغين، وهو "أندري باسّي" André Basset، ورغم أنه ينتمي إلى المدرسة اللسانية الكولونيالية، لا يذكر بتاتا "تريفيت" وهو يستعرض التسميات التي يطلقها السكان على لغتهم الأمازيغية بالجهة التي يستعملون فيها هذه اللغة. يقول: «المتحدثون بالأمازيغية يطلقون تسميات جهوية على لغتهم، مثل "تشلحيت" بجنوب المغرب، "تمزيغت" بالأطلس المتوسط، "تقبايليت" بالقبائل الجزائرية، "تشاويت" بالأوراس، "تمهاقت" عند الطوارق» (André Basset, "Articles de dialectologie berbère", Paris 1959, pages 20 – 21). لم يذكر "تريفيت" لأن الريفيين لا يسمون لغتهم الأمازيغية "تريفيت"، وإنما "تمازيغت". هذه "الأمازيغيات" "الجهوية"، إذا كان الاستعمار قد ضخّم الفروق الطفيفة بينها ليخدم بذلك مشروعه الاستعماري التقسيمي، فهل كان للمندوبية السامية للتخطيط أن تسير على نفس النهج التقسيمي للاستعمار؟ هل ترمي هي أيضا إلى خلق هوة لغوية سحيقة بين مناطق المغرب الأمازيغي حتى تهيمن العربية كلغة واحدة لا تنافسها أية لغة وطنية؟ في الحقيقة، بهذه الأسئلة، المغرضة وغير البريئة، تزكي المندوبية تلك المواقف العامّية المعادية للأمازيغية، والتي تربطها بالانفصال والتجزئة. بهذه الأسئلة تريد هذه المندوبية أن تقول: كيف لا تدعو الأمازيغية إلى الانفصال والتجزئة، وهي أصلا منفصلة ومجزأة إلى ثلاث لغات كما يؤكد الإحصاء العام للسكان؟ وهنا تكون المندوبية لا تؤلب على الأمازيغية فقط بربطها بالانفصال والتجزئة، بل تساهم في خلق شروط هذا الانفصال والتجزئة، وخصوصا بالريف. فإذا كان هناك من يدعو بالريف إلى الاستقلال استنادا إلى معطيات جغرافية وتاريخية، وبناء على تجربة "جمهورية الريف" بمؤسساتها وعلَمها، فإن المندوبية تضيف مسوّغا آخر لاستقلال الريف، وهو وجود لغة خاصة بالريف وهي "تريفيت". فالريفيون كانوا يعرفون أن لهم خصوصيات تميزهم عن باقي جهات المغرب. لكنهم لم يكونوا يعرفون أن لهم لغتهم الريفية، وإلا لطالبوا بالاستقلال منذ زمن بعيد بحجة وجود لغة قومية خاصة بهم وهي "تريفيت"، التي لم يكتشفوها إلا مع إحصاءات المندوبية السامية للتخطيط. وعلى فرض أن هناك ثلاث لغات أمازيغية مختلفة لا يمكن تصنيفها ضمن لغة أمازيغية واحدة، فلمَ لم تراعِ المندوبية السامية المجهود الذي بذل منذ إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية لمعيرة الأمازيغية وتوحيدها؟ كان عليها، من باب دعم الوحدة الوطنية، أن تطرح السؤال حول اللغة الأمازيغية وليس حول لغات "تشلحيت" و"تمازيغت" و"تريفيت" التي لا تخدم الوحدة الوطنية. والاكتفاء بسؤال واحد حول الأمازيغية لا يعني تزييف الواقع والقفز عليه بمبرر أن هناك ثلاث أمازيغيات وليس أمازيغية واحدة. فالفروق الطفيفة بين الفروع الثلاثة ناتج عن عدم تدريس الأمازيغية. فالمدرسة هي التي توحّد اللغة، وهي المعيار للتمييز بين اللهجة واللغة، إذ أن اللغة هي لهجة تُدرّس، واللهجة هي لغة لا تُدرّس. ثم هل حقا هناك من الفروق بين "اللهجات" الأمازيغية ما يجعلها لغات قائمة بذاتها ولا يمكن اعتبارها لغة واحدة؟ فمنذ خمسينيات القرن الماضي، كتب كبير المستمزغين "أندري باسّي" المذكور أعلاه، وبعد أن أشار إلى أن عدد اللهجات الأمازيغية يصل إلى 300 لهجة، كتب بأن بنية اللغة الأمازيغية وعناصرها واستعمالاتها المورفولوجية هي واحدة في كل اللهجات «إلى درجة أن من يتقن جيدا لهجة واحدة، يستطيع في أسابيع قليلة إتقان أية لهجة أخرى أمازيغية كيفما كانت، كما تثبت ذلك التجربة. فلا يتعلق الأمر أبدا بلغة جديدة يتعلمها. وهو شيء فاجأني كثيرا وجعلني أعيد النظر في مشروع عملي المتعلق بالمقارنة بين اللهجات» (Articles de dialectologie berbère, page 23). هذا مع العلم أن "باسّي" لا يقصد بهذه المعاينة الميدانية فقط اللهجات الأمازيغية المغربية، التي هي أصلا جد متقاربة بحكم انتمائها إلى منطقة واحدة هي المغرب، بل هو يتحدث عن كل اللهجات الأمازيغية بكل شمال إفريقيا. لماذا إذن فضلت المندوبية السامية للتخطيط استعمال التصنيف الاستعماري لإبراز التفرقة بين اللهجات الأمازيغية، وتجنبت الاعتماد على خلاصات لسانيين مرموقين وموضوعيين، مثل "باسّي"، يؤكدون على وحدة الأمازيغية؟ بهذا الاختيار المتحيز والمغرض والتجزيئي وغير الموضوعي، تكون المندوبية السامية للتخطيط قد أجابت عن الأسئلة من خلال الصيغة التي اختارتها لوضع هذه الأسئلة نفسها. فالأجوبة ستؤكد حتما أن هناك ثلاث لهجات مستعملة بنسب متفاوتة. وهكذا ستضرب المندوبية عصفورين بحجر واحد: أولا العمل على الإقناع بأن الأمازيغية مجزأة بهدف الإقناع أنه من الصعب تدريسها كلغة واحدة. ثم العمل ثانيا على خلق حزازات وصراعات بين الأمازيغيين أنفسهم من خلال ما يكشف عنه الإحصاء من ارتفاع نسبة استعمال لهجة منطقة معينة وتدني نسبة استعمال لهجة منطقة أخرى. أما الطامة الكبرى في استمارة هذا الإحصاء العام 2014، فهي إدراج سؤال يتعلق بإتقان الكتابة بحرف "تيفيناغ"، حيث تطلب الاستمارة من المستجوب أن يحدد ويرمّز اللغات الثلاث المقروءة والمكتوبة على الشكل التالي: 1 عربية، 2 أمازيغية )تيفيناغ(، 3 فرنسية، 4 إنجليزية، 5 إسبانية، 6 لغات أخرى تذكر. فإذا كانت المندوبية تستطيع أن تبرر، بشكل أو آخر، تضمينها للتصنيف الاستعماري للهجات الأمازيغية في استمارة الإحصاء، فإنها غير قادرة على إعطاء تبرير مقبول ومعقول لإدراجها الأمازيغية كلغة كتابة وقراءة بحرفها "تيفيناغ"، بجانب العربية والفرنسية ولغات أخرى. ذلك أن أية لغة حية يمكن، وبدون مدرسة ولا معلم، اكتساب استعملها الشفوي في البيت أو الشارع أو المعمل... لكن استعمالها الكتابي يحتاج، ليس إلى اكتساب، بل إلى تعلّم ومدرسة أو ما يقوم مقامها. والحال أن الأمازيغية لم تدخل بعدُ المرسة ولم يُشرع في تدريسها لتنتقل من مرحلة الاكتساب الشفوية إلى مرحلة التعلم الكتابية. وعندما أقول إن الأمازيغية لم تدخل بعدُ المدرسة ولم يُشرع في تدريسها، فإني أعرف ما أقول كمختص في علوم التربية والديداكتيك، لأن ما أعلن عنه منذ 2003 من تدريس للأمازيغية لا علاقة له إطلاقا بالتدريس للانتفاء الكلي لشروطه ومتطلباته. فكيف يجوز، منطقيا وواقعيا، توجيه سؤال إلى المغاربة حول معرفتهم للكتابة بالأمازيغية وبحرفها "تيفناغ"، ودون أن يكون قد سبق لهم أن تعلّموها في المدرسة؟ فواضح أن الجواب سيكون بالنفي بنسبة قد تقترب من مائة في المائة. والدليل على ذلك أن مسؤولي المندوبية التي وضعت هذا السؤال الأخرق حول "تيفيناغ"، وعلى رأسهم رئيسها السيد الحليمي، ورغم أنهم مثقفون ويحملون شواهد عليها ويجيدون العديد من اللغات قراءة وكتابة، إلا أنهم يجهلون قراءة وكتابة الأمازيغية، ولو أن فيهم من يتقن الحديث بها. فإذا كان هؤلاء، ذوو المستوى التعليمي العالي لا يعرفون كتابة وقراءة الأمازيغية، فكيف يعرف ذلك من هم دونهم ثقافة وعلما ومستوى؟ وطبعا، مسؤولو المندوبية لا يعرفون كتابة وقراءة الأمازيغية لسبب بسيط، هو أنهم لم يدرسوها بالمدرسة كما درسوا العربية والفرنسية ولغات أخرى. بل حتى تلك النسبة القليلة من الذين سيجيبون بأنهم يعرفون الكتابة والقراءة ب"تيفيناغ"، فهم في الحقيقة لا يجيدون هذه الكتابة والقراءة، وإنما يظنون فقط أنهم يجيدون هذه الكتابة لمعرفتهم بحروف "تيفيناغ". مع أن الكتابة ليست هي معرفة الحروف، بل استعمالها في إنتاج جمل ونصوص طبقا لقواعد نحوية وإملائية مضبوطة. وهذه القواعد لا يمكن تعلمها إلا في المدرسة. ولهذا فإن الذين، من مجموع الذين سيجيبون بأنهم يعرفون كتابة وقراءة الأمازيغية، يتقنون حقا هذه الكتابة حسب قواعدها النحوية والإملائية، كما يقضي بذلك إتقان الكتابة بلغة ما، قد يكونون قلائل جدا. لماذا إذن إدراج الكتابة بالأمازيغية، والتي هي شيء غير موجود في الواقع لأنه غير موجود بالمدرسية، في ورقة الإحصاء العام؟ لا يمكن تفسير ذلك إلا بالرغبة في الإساءة إلى الأمازيغية، وإلى حرفها "تيفيناغ" على الخصوص، وذلك باستعمال ضعف نسبة الذين يكتبون ويقرؤون الأمازيغية كحجة على فشل تدريس الأمازيغية وعلى عدم صلاحية هذا الحرف لهذا التدريس. فبعد أن أفشلوا تدريس الأمازيغية الذي لم يبدأ بعدُ بسبب هذا الإفشال، يعتمدون على نتائج هذا الإفشال، المتمثلة في الجهل بقراءة وكتابة الأمازيغية، ليقنعونا بأن الأمازيغية لغة فاشلة وأن حرفها غير صالح. مع أنه حتى لو كان هناك تدريس جدي للأمازيغية، وبكل شروطه ومتطلباته، فإنه لا يصح إدراج أسئلة حول مدى انتشار كتابة وقراءة الأمازيغية في استمارة إحصائية، إلا بعد مدة معقولة على بداية هذا التدريس، قد تقدّر بخمس وعشرين سنة فأكثر. بوضعها لأسئلة تعبّر عن أحكام وقناعات ومواقف أمازيغوفوبية، ومصاغة بالشكل الذي تؤكد فيه الأجوبة نتائج هذه الأحكام والقناعات والمواقف، تخرج المندوبية السامية للتخطيط عن حيادها المفترض أن تتصف به كمؤسسة عمومية مستقلة، لتتحول إلى مؤسسة تستعمل المال العام للتنقيص من الأمازيغية وتقديم الدليل "الإحصائي" على أنها تخص قلة قليلة من المغاربة مقابل الأغلبية "العربية"، وأنها لغة لا تصلح للتدريس كما تشهد على ذلك النسبة الضعيفة جدا من الذين يجيدون كتابتها. هكذا تصبح هذه المؤسسة مندوبية غير سامية للتخطيط الأمازيغوفوبي، تضع استمارات إحصائية بشكل تؤكد فيه النتائجُ المواقف الأمازيغوفوبية لهذه المندوبية. أما في ما يخص مكانة الدارجة في الإحصاء الجديد، فإن المندوبية كانت محايدة وموضوعية في الأسئلة الخاصة بهذه اللغة. بل قد صححت حتى بعض الأخطاء التي وقعت فيها بخصوص إحصاء 2004، عندما استعملت عبارة "العربية الدارجة" التي تفيد، كما هو شائع في التصور العامّي، أن الدارجة المغربية فرع من اللغة العربية ولهجة نابعة منها وتابعة لها تمثّل مستواها العامّي والدارج، مع أن الأمر ليس كذلك إطلاقا، لأن العربية لا تعرف إلا مستوى واحدا وهو المستوى المدرسي الفصيح المستعمل في الكتابة، لأنها لغة كتابة فقط وليست لغة تخاطب شفوي حتى تكون لها استعمالات عامّية ودارجة وشعبية. وهذا ما تداركته في استمارة الإحصاء الجديد (2014) حيث استبدلت هذه العبارة الخاطئة (العربية الدارجة) بعبارة "الدارجة المغربية"، التي تعني أن هذه الدارجة التي يتحدثها المغاربة هي لغة مغربية خالصة، خلقها المغاربة هنا بشمال إفريقيا وليست لهجة عربية جاءتهم من المشرق مثل اللغة العربية. أما ما يتعلق بالعربية، فإن المندوبية اختارت فقط، وبحرص وعناية، الأسئلة التي لا "تحرج" هذه اللغة، وتكشف عن إعاقتها المتمثلة في فقدانها لوظيفة الاستعمال الشفوي كلغة حية تستخدم في التخاطب. ولهذا عنونت ورقة الإحصاء العمود الخاص باللغات ب"اللغات المحلية المستعملة"، حتى يبرَّر غياب العربية من هذه اللغات المستعملة باعتبارها ليست من ضمن "اللغات المحلية". وهو ما قد يفهم منه أنها لغة "وطنية"، لهذا لم تدرج ضمن "اللغات المحلية". لكن كيف تكون لغة ما وطنية، إذا لم يكن أي من المواطنين يستعملها ويتخاطب بها. إنها إذن لغة لا تنتمي إلى هذا الوطن لأن مواطنيه لا يستعملونها. فهي إذن ليست لغة وطنية. ولهذا نرى أن لجوء الاستمارة إلى مفهوم "المحلية"، هو فقط بغاية "إنقاذ" العربية من المأزق: فهي كي تكون لغة وطنية، ينبغي أن يتخاطب بها المواطنون. وإذا تخاطب بها المواطنون تكون لغة مستعملة، مما ينبغي معه إدراجها ضمن اللغات المستعملة. وإذا أدرجت ضمن اللغات المستعملة، بجانب ما سمته الاستمارة "الدارجة" و"تشلحيت" و"تمزيغت" و"تريفيت" و"الحسانية"، فإن نسبة مستعمليها التي ستعلن عنها النتائج ستكون صفرا، لأن لا أحد يستعمل في حياته اليومية اللغة العربية. وهذه النتيجة هي ما تريد المندوبية تجنبها. ولهذا تحايلت على الموضوع باستعمال مصطلح "اللغات المحلية"، إيهاما بأن العربية هي فقط لغة "وطنية" وليست "محلية"، ولهذا فهي لا تدرج ضمن اللغات المستعملة. لكن السؤال هو: كيف للغة يقول المدافعون عنها بأن عدد الناطقين بها يتجاوز الثلاثمائة مليون، ولا تعتبر من اللغات المستعملة في المغرب، أي لا ينطق بها أحد في هذا البلد، وباعتراف مندوبية التخطيط التي لم تدرجها ضمن "اللغات المستعملة" لأنها أصلا غير مستعملة؟ نلاحظ إذن أن مندوبية التخطيط صاغت الأسئلة بشكلين متعارضين ومتنافيين، حسب ما إذا كان الأمر يتعلق بالأمازيغية أم بالعربية. فالأمازيغية أقحمت قسرا ضمن اللغات المكتوبة حتى "تبيّن" نتائجُ الإحصاء ضعف نسبة الذين يجيدون الكتابة بها، "لإثبات" ضعف هذه اللغة ونفور المغاربة منها. وفي المقابل استبعدت العربية من "اللغات المستعملة" تجنبا للنتيجة التي كانت ستكشف أن هذه اللغة لا ينطق بها ولا يستعملها أحد، وهو ما كان سيوجه ضربة موجعة إلى التعريبيين وسياسة التعريب.