لماذا تحصوننا؟ الجواب المباشر الذي تتضمنه دلائل الإحصاء في عدة دول ديمقراطية والذي يقدمه مباشرة المسؤولون السياسيون وممثلو مؤسسات الإحصاء هو أن إحصاء السكان يهدف أولاً إلى الإحصاء العدديle dénombrement للأفراد والأسر والمساكن، والوقوف ثانياً على معطيات أساسية متعلقة بالجنس والسن واللغة وظروف العيش، أي مختلف المحددات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للساكنة كالنشاط المهني والمستوى الدراسي والتكويني ومواصفات الأسرة والمسكن وأشكال التنقل...( دليل الإحصاء في فرنسا). وعليه فإن إحصاء السكان يوفر للدولة والجماعات المحلية معطيات ضرورية تتخذ أساساً للتخطيط للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتعتمد لتحديد البنيات التحتية الضرورية، وعلى المستوى المحلي توظف تلك المعطيات لوضع سياسات المدينة وما يرتبط بها من حاجيات وخدمات كالسكن والتدريس والصحة والنقل والمرافق الثقافية والرياضية ... أما في دول الاستبداد والمجتمعات حيث الأوضاع السياسية متخلفة أو ملتبسة ومترددة، فكثيراً ما يبقى موضوع الإحصاء مرتبطا بالسؤال السياسي في بعده التحكمي وبالهواجس والتصريفات التي تشغله على المستوى الترابي، لذا فلا غرابة أن تثير عملية الإحصاء تخوف وشكوك المواطنين والمواطنات والفئات والقوى والحركات المدنية والسياسية، خاصة المقصية والمهيمن عليها، هذه التي كثيراً ما تنظر للجرد السكاني كمجرد آلية استبدادية أخرى تروم جمع المعطيات وصياغة الخرائط السوسيو الاقتصادية والديموغرافية ليتم توظيفها لإرساء مزيد من التحكم ولتبرير الهيمنة والأوضاع والقرارات المرتبطة بسياسة النخب المتحكمة ومصالحها. وفي هذا السياق يعتبر سؤال الإحصاء اللغوي إحدى أكثر أبواب استمارات الإحصاء إثارة للاهتمام والنقاش، حيث يعتبر من جهة معطى إحصائياً أساسياً في الدول الديمقراطية، خاصة التي دبرت تعددها اللغوي والثقافي بشكل منصف ومحرر للإمكان البشري، تعتمده بشكل مستمر في تطوير التخطيط وتدبير الخدمات العمومية والجماعية وتجديد القوانين والمواثيق الحقوقية وصيانة كرامة المواطنين. ومن جهة أخرى، يعتبر أيضاً معطىً إحصائياً هاماً في الدول المتخلفة ديمقراطياً، وخاصة التي تعرف أوضاعاً سياسية مختلة على المستوى الترابي والحقوق اللغوية والثقافية، حيث يتحول المعطى الإحصائي اللغوي إلى معلومة تستغل لتحيين آليات التوجيه والتحكم وتقويتها وفي التحريف كمسوغ لقرارات سياسية هيمنية. وقبل الحديث عن معطى اللغة في استمارة إحصاء السكان والسكنى الذي سيجري في المغرب خلال الشهر القادم، لا بأس أن نتوقف عند تجارب بعض الدول الديمقراطية لعلها تفيد في إضاءة الموضوع وتطوير أشكال التعاطي معه والنقاش الدائر حوله. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العديد من الدول غيرت وطورت الطرق المعتمدة في الإحصاء خلال السنين الأخيرة، حيث عوضت، أو بالأحرى دعمت، الإحصاء العام والتعداد التقليدي ببحوث واستطلاعات إحصائية. ففي فرنسا مثلاً ثم اعتماد قانون جديد منذ سنة 2002 ينصص على هذه الآلية عبر عينات تمثيلية تختلف حسب الجماعات الترابية وعدد السكان والحاجيات المتجددة، هذا ويبقى المعطى اللغوي حاضراً بشكل أساسي في استمارات الإحصاء السكاني مهما كان نوعه. تعتبر سويسرا إحدى أعرق الدول الديمقراطية التي عملت بآلية إحصاء السكان وانتبهت إلى أهمية المعطى اللغوي في تحقيق أهدافه، حيث تضمنت الاستمارة منذ أول إحصاء جرى سنة 1850 سؤالين عن اللغة المتحدثة واللغة التي يجب أن تستعمل في التجهيزات والمرافق الجماعية مثل البريد. وكما يتضح من خلال هذا الاهتمام المبكر بإحصاء وضعية اللغات وانتظارات المواطنين فالمعطى اللغوي يمثل مؤشراً ديموغرافياً أساسياً، كما أن الدولة لم تكن تتوجس من وضعية التعدد اللغوي التي تميز التراب السوسري بل أنها اعتمدته في تطوير السياسات العمومية وتدبيرها الديمقراطي لتحقيق كرامة عموم المواطنين. وعلى عكس سويسرا، فعملية إحصاء السكان في فرنسا لم تدرج أسئلة عن الممارسة اللغوية لأول مرة إلا سنة 1994، وكان الهدف والداعي الأساسي هو الرغبة في دراسة خريطة ديموغرافية ولسانية لا تنفك تتشعب وتتعقد، أساساً بسبب اتساع أعداد ونسب المواطنين المنحدرين من الهجرات. نتائج ذلك الإحصاء أظهرت وجود حوالي 75 لغة متحدثة من بينها الباسكية والكورسيكية والبرتونية إضافة إلى اللغات المغاربية وعلى رأسها الأمازيغية. وفي الإحصاء العام الأخير للسكان بكندا الذي جرى سنة 2011، والذي أظهر وجود 60 لغة أصلية موزعة على 12 مجموعة لسانية، تضمنت الاستمارة أربعة أسئلة تهم اللغات، وهي: *هل يعرف الشخص بشكل مستحسن الفرنسية أو الإنجليزية ويقدر على إجراء محادثة بها؟ *ما هي اللغة التي يتحدثها الشخص أكثر في البيت؟ *هل يتحدث الشخص بشكل منتظم لغات أخرى في البيت؟ *ما هي اللغة التي تعلمها الشخص لأول مرة في البيت خلال طفولته والتي لا يزال يفهمها؟ من خلال الصياغة الدقيقة للأسئلة الإحصائية وتبويبها يتضح أن اللغتين الرسميتين، الإنجليزية والفرنسية لم تحظيا سوى بسؤال واحد، وهذا نتيجة التعميم الشامل للتعليم منذ سنوات، بينما تم التركيز على اللغات الأم والمتحدثة في البيت من منطلق أن المعطيات اللغوية التي تضمنها الإحصاء تسعى لفهم تطور المجموعات اللسنية وتوفير وتطوير الخدمات الإدارية والصحية والتربوية، وذلك من خلال سن وتطبيق قوانين فدرالية ومحلية كما تتجسد في الميثاق الكندي للحقوق والحريات (1982)، وفي قانون اللغات الرسمية (1988) وغيرهما. انطلاقا مما سبق، وبالتوقف عند السؤالين المرتبطين باللغات في استمارة الإحصاء العام للسكان والسكنى الذي سيجري في المغرب، يتضح أن وضعية الأمازيغية تثير اللبس وتطرح عدة تساؤلات. فالسؤالان المرتبطان باللغات جاءا كالآتي حسب نموذج الاستمارة المتداولة: الأول جاء في باب اللغات المحلية المستعملة كالتالي: * حدد رمز لغتين على الأكثر من اللغات المستعملة: - لا شيء - الدارجة المغربية - تشلحيت - تمزيغت - تريفيت - الحسانية والسؤال الثاني في باب الأمية واللغات، وجاء كالتالي: * حدد رمز اللغات الثلاث المقروءة والمكتوبة: - عربية - أمازيغية (تيفيناغ) - فرنسية - إنجليزية - إسبانية - لغات أخرى تذكر فمن خلال النقاش الذي أثارة الموضوع وأغناه العديد من المهتمين من حقوقيين وكتاب وناشطين سياسيين، ومن خلال متابعة آراء وردود كثير من النشطاء والإطارات الحقوقية خاصة على شبكات التواصل الإجتماعي، وبتفحص مختلف جوانب الموضوع والأسئلة المطروحة في استمارة الإحصاء، ارتأينا تقديم الخلاصات التركيبية والملاحظات آلاتية: أغلبية الانتقادات الموجهة لموقع الأمازيغية في عملية الإحصاء تنطلق من موقف أو إحساس بعدم الثقة في نتائجه فيما يخص الأمازيغية. وقبل توضيح بعض المبررات المرتبطة بصياغة الاستمارة وأسئلتها، يلاحظ أن هذا الانطباع الذي يصل مستوى الحكم والموقف يقوم أساساً على تجارب الإحصاءات السابقة خاصة نتائج إحصاء سنة 2004 الذي كانت خلاله صياغة وكيفية طرح السؤال المرتبط بالفروع اللسنية للأمازيغية والدارجة التي سميت حينها بالدارجة العربية، كانتا ملتبستين، مما رفع حظوظ الإجابة بالحديث بالدارجة على حساب الأمازيغية، وهذا ما تجسد في الإحصاءات المعلنة التي حصرت مجموع المتحدثين بفروع اللغة الأمازيغية في حدود 28.2% تقريباً إذا قمنا بعملية الجمع. وهو رقم يثير الكثير من الأسئلة، لكن وراءه عدة أسباب مرتبطة بصيغته وكيفية طرحه، حيث أن مستعملي إحدى الفروع اللغوية مع الدراجة مثلاً احتسبوا باعتبارهم يستعملون الدارجة فقط. وكذا عوامل نفسية وإيديولوجية مرتبطة بفئة من المحصيين لا يصرحون بانتماءاتهم وممارساتهم اللغوية الأمازيغية نتيجة ما ترسخ لديهم من تمثلات سلبية عن أصلهم الأمازيغي ناجمة عن عقود من سياسة التبخيس الثقافي . وفي استمارة الإحصاء القادم فإن حصَر عدد اللغات المحلية التي يمكن أن يستعملها الفرد في لغتيْن فقط، من بين خمس لغات محلية مستعملة (الدارجة المغربية، تشلحيت، تريفيت، تمازيغت، الحسانية) هو إجراء غير دقيق لن يسمح بإحصاء عدد الذين يتحدثون أكثر من لغتين محليتين، خاصة أن الاختيار سيقوم على انتقاء اللغتين وليس التصريح باللغات المتحدثة أياً كان عددها - ينظر النموذج الكندي -، الأمر الذي سيكون على حساب فروع الأمازيغية. وفي باب اللغات المكتوبة، فإن حصَر عدد اللغات المكتوبة والمقروءة التي سيصرح الفرد أنه يتقنها في ثلاث لغات فقط من بين ستة لغات في الإحصاء القادم، هو سؤال غير دقيق وسيكون على حساب الأمازيغية. فمن المعلوم أن العديد من الأفراد الذين يقرءون ويكتبون اللغة الأمازيغية وبحرف تفيناغ، وأغلبيتهم من الطلبة والفئة المثقفة والنشطاء الجمعويون، هم متمكنون أيضاً من قراءة وكتابة العربية والفرنسية والإنجليزية، وإذا حدد الاختيار في ثلاثة لغات فقط فالمؤكد أنه سيكون على حساب اختيار الأمازيغية، وهذا أمر غير دقيق وقد توظف نتائجه لتبرير قرارات معدة مسبقاً. إذن فالمطلوب الآن هو إحصاء عدد مستعملي كل لغة على حدة وكذا مستعملي أكثر من لغة محلية، وذلك تحرياً للدقة. أما فيما يخص أبجدية تيفيناغ فإن كيفية إدراجها في السؤال قد لا تطرح إشكالاً - من حيث المبدأ على الأقل - ذلك أن إقرانها باللغة الأمازيغية أمر طبيعي باعتبارها الحرف الرسمي لكتابة اللغة الأمازيغية، غير أن التخوفات التي أعرب عنها المتتبعون والمناضلون تبقى بدورها جد مشروعة بالنظر مثلاً للكيفية المتشنجة التي تحدث بها السيد المندوب السامي للتخطيط عن هذا الإجراء خلال ندوة تقديم عناصر الإحصاء وبما يفيد ضمنياً أن إحصاء مستعملي تيفيناغ سيكون فرصة مواتية لتبيان مدى محدودية الإلمام بهذه الأبجدية وبالتالي إقامة الدليل على عدم نجاعتها! وهنا يجب التوقف لتنبيه السيد الحليمي وغيره بأن محدودية انتشار تيفيناغ أمر واقع لن يأتي فيه الإحصاء بأمر جديد، وأن المعطيات الإحصائية يجب أن تكون بالأحرى أساساً لمحاسبة الجهات المسؤولة عن إجهاض ورش تدريس اللغة الأمازيغية ومحاصرة حرفها واعتقال مشاريع تطويره لأزيد من عقد من الزمن... وليس ذريعة لمحاولة إعادة طرح حرف تيفيناغ للنقاش خصوصاً في سياق يتسم بجمود تام في كل المشاريع المتعلقة بالأمازيغية، وبالوفاة السريرية لمعهد الإيركام الذي أوصلته إدارته إلى الإفلاس، وبإحجام الحكومة وباقي الأطراف السياسية على المضي قدماً في إقرار القانون التنظيمي المتعلق بالأمازيغية، علاوة على تواتر المناورات ومبادرات جس النبض من عدة جهات ترمي في مجملها إعادة فتح سؤال حرف كتابة الأمازيغية، تارةً عبر اقتراح الحرف العربي أو"تحرير حرف الكتابة" أي اعتماد كل الحروف! وتارةً أخرى عبر تلميحات ملغومة لصالح الحرف اللاتيني ترمي استدراج بعض المناضلين الأمازيغيين للانقلاب على تيفيناغ، ولو عن حسن نية، والإجهاز بالتالي على النزر اليسير المتحقق حتى الآن وإعادة توريط اللغة الأمازيغية في دوامة جديدة من التخبط، وهي المناورات التي يجب أن يتنبه لها الرأي العام الأمازيغي والديمقراطي ويتكتل للتصدي لها لأنها ليست في مصلحة الأمازيغية. وقبل إنهاء هذا التحليل، لا بد من التذكير بأنه لا ينبغي التعاطي مع عملية إحصاء السكان والسكنى كآلية لتحديد وضعية الأمازيغية والأمازيغ في المغرب، فمدخل اللغة لا يمكن أن يحدد "عدد الأمازيغ" في المغرب ذالك أن الأمازيغية في المغرب، وكما لا تنفك الحركة الأمازيغية تذكر بذالك، إطار تاريخي وهوياتي وواقع اجتماعي وثقافي أكثر مما هي واقع لسني محدود أو انتماء إثني. ومن الواضح أن الأسئلة المرتبطة في الاستمارة باللغات المحلية التي أدرجت بينها الفروع الثلاث للغة الأمازيغية، وتلك المتعلقة باللغات المقروءة والمكتوبة وبينها الأمازيغية بحرف تيفيناغ يمكن أن توظف، إذا ما أريد بها ذلك، لاستجلاء معطيات هامة في التخطيط الإيجابي للمستقبل. فالأمر لا يتعلق بمضامين استمارة الإحصاء بقدر ما يتوقف على استعدادات الدولة وذهنية السلط وتوجهاتها وبالتالي طريقة توظيفها للمعطيات المتحصل عليها وللنتائج المعلنة وغير المعلنة. ومن ثمة، فعلى الدولة والحكومة وبقية الفرقاء السياسيين أن يختاروا بكل وضوح بين شكلي التوظيف المتناقضين لآلية الإحصاء ونتائجه وموقع الأمازيغية فيهما كما وضحنا ذلك في البداية: التوظيف الديمقراطي والحكامتي المسؤول الذي يرصد المعطيات بشكل علمي وموضوعي، ويعتمدها بشكل نزيه في التخطيط وتدارك الأخطاء والهفوات وتطوير السياسات والخدمات العمومية والبنيات الضرورية وصيانة كرامة المواطنين، وبين التوظيف الاستبدادي والتحكمي المقيت، الذي لا يسعى سوى لتبرير الأوضاع القائمة وإجراءات الهيمنة والاستغلال، والاستمرار في هدر الإمكان والزمن المغربيين.