يحار كثير من الملاحظين والمتتبعين في تفسير سلوك عبد الإله بنكيران وطريقة تعاطيه مع الشأن السياسي والاجتماعي للبلاد، ورؤيته لتجربة حزبه الحكومية . وأكثر ما يثير الدهشة بهذا الخصوص هو ابتداعه لوظيفة "مساعد الملك " ، بدل رئيس الحكومة الذي جاء به الربيع العربي وبنى عليه المغاربة آمالا عريضة. فهو لا يجد أدنى حرج في التخلي عن كل الصلاحيات التي منحها له الدستور الجديد، رغبة في إرضاء المخزن و كسب ثقته ووده، وهذه على ما يبدو أولى أولوياته... وقد اتضح شيئا فشيئا أن بنكيران يتبنى إستراتيجية التطبيع هاته أولا وأخيرا، مضحيا في سبيل ذلك بكل ما دونها من شعبية الحزب، وتطلعات الجماهير، والوفاء بالعهود التي قطعها على نفسه خلال الحملة الانتخابية. وهكذا ضرب صفحا عن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومحاربة الفساد والريع، ومعاقبة ناهبي المال العام، حيث رفع شعار "عفا الله عما سلف".والأنكى من ذلك أنه قرر أن يتستر على هؤلاء الفسدة برتق الثقوب التي أحدثوها في ميزانية القطاعات والمؤسسات التي نهبوها...وذلك على حساب جيوب الشعب المقهور، دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن مصدر الاختلالات ومحاسبة المسؤولين عنها (صناديق التقاعد، وصندوق المقاصة،والمكتب الوطني للكهرباء،...)، حيث سيجد الشعب نفسه مضطرا لتعويض الأموال التي سرقت منه، بينما يتم التغاضي عن لصوص المال العام والمفسدين ، بل وترقيتهم لمناصب سامية إكراما لهم على نهبهم وسوء تدبيرهم لمؤسسات الدولة. ويعزى هذا التناقض الخطير في سلوك بنكيران إلى اعتماده على وهم كبير تجلى بوضوح في الفترة الأخيرة، ويكمن في اعتقاده أنه بتنازلاته الكثيرة للمخزن والإمعان في التذلل أمامه سيكسب ثقته ورضاه ، مما سيمكنه من مواجهة أعدائه في ظروف أحسن، حيث يتوهم أن المخزن سيحتضنه مقابل ما يقدمه له من خدمات جليلة، وسيساعده على محاربة "التماسيح والعفاريت"، (وهي الشخصيات النافذة التي تستفيد من الفساد والريع)، أو على الأقل سيخلي بينه وبينهم حتى يقتص (بنكيران) منهم...ولا يعلم بنكيران أو يتجاهل أن هؤلاء مرتبطون بالمخزن ارتباطا عضويا ولا يمكنه التخلي عنهم من أجل سواد عيون عبد الإله حتى لو انبطح هذا الأخيرعلى بطنه وتمرغ أمامه في الوحل تذللا...وللسيد بنكيران شواهد من تجربته، حيث منعه عامل طنجة من إلقاء كلمة في قواعد حزبه،وهو رئيس الحكومة ( أو مساعد الملك) ، كما تم تسليط شباط وأتباعه في حزب الاستقلال لإفشال تجربة حكومته الأولى، ووقف بعض رموز الدولة العميقة في وجهه بصلافة (بنسودة، العرايشي ،ابن الشيخ،..) وآخرهم مديرة الأخبار بالقناة الثانية ، والتي لم يستطع هو ولا وزير الاتصال زحزحتها من مكانها، أو اتخاذ أدنى إجراء عقابي ضدها...فكيف بمن هو أقوى منها...؟؟..وستبدي الأيام القادمة المزيد... والخلاصة أنه لو أراد بنكيران أن يتبين فعلا مدى الوهم الذي يعيشه فما عليه إلا أن يقوم بزيارة لشيخ الاشتراكيين السيد عبد الرحمان اليوسفي ليشركه في بعض من مرارته التي شعر بها عندما راهن هو الآخر على إرضاء المخزن للتمكن من أعدائه وتطبيق برنامجه، فقدم في سبيل ذلك قربانا حزبه ومبادئه وسيرته النضالية...لكن ذلك كله لم يسعفه حيث ألقي به من قطار الحكم عند أول منعطف بعدما انتهت صلاحيته وأنجز المهمة التي استقدم من أجلها، وذلك على الرغم من أن شعبيته كانت أكبر من شعبية بنكيران ، وتجربته السياسية أمتن، ومصداقية حزبه داخليا وخارجيا أكبر بكثيرآنذاك من مثيلتها لدى حزب العدالة والتنمية... يقول إنشتاين : " الغباء هو فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلوب عينه وبالخطوات ذاتها مع انتظار نتائج مختلفة."...والعاقل من اتعظ بغيره . لذا فما على بنكيران إلا أن يمارس كل صلاحياته ، ويطبق البرنامج الذي انتخبه الشعب من أجله ، ويسمي خصومه بأسمائهم ويواجههم بشجاعة ، وإن عجز عن ذلك فعليه أن يضع المفاتيح لأصحابها وينقذ البقية الباقية من ماء وجهه ووجه حزبه قبل فوات الأوان.، بدل أن يقضي وقته في التبرم والشكوى،لأن هذا لا يليق برئيس حكومة بأي حال من الأحوال....