على بعد ساعتين من موعد الإفطار، وفيما تقفل جحافل من الناس عائدة إلى بيوتها محملة بقفف وأكياس حبلى بما اشتهته أعينهم من الأسواق.. يكون آخرون قد خرجوا لتوهم محملين بأكياس وقفف فارغة يخترقون بها الأسواق في اتجاه أماكن متفرقة في الدروب والأحياء... مقاهي، كراجات، خيام مختلفة الأحجام منصوبة وسط الساحات العمومية.. وطوابير كبيرة من الناس رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، يتقاسمون الانتماء إلى الطبقات الاجتماعية دون المتوسطة. إفطار محمول الساعة تشير إلى الخامسة والنصف من عشية الأحد الماضي، مئات من الناس اصطفوا أمام خيمة نصبت على مساحة شاسعة بمحاذاة مجمع الصناعة التقليدية بحي بوركون (الدارالبيضاء)، جاؤوا من المناطق المجاورة للاستفادة من وجبة الإفطار المجاني، التي اعتادت جمعية "الوفاق" توفيرها لهم كل رمضان بهذا المكان. أعضاء الجمعية القائمين على هذه التظاهرة الاجتماعية، وأغلبيتهم شباب من كلا الجنسين تطوعوا للقيام بهذا العمل الخيري، كانوا يشتغلون بحيوية ونشاط ويلبون رغبات المستفيدين من الإفطار "المحمول" برحابة وسعة صدر كبيرين... كان المصطفون يُخرجون من قففهم وأكياسهم علبا و"سوبيرات" ويمدونها إلى المكلفين بتوزيع وجبات الإفطار فيملؤونها ب"الحريرة" والقهوة والحليب أو الشاي، ويزودونهم بما تيسر من خبز وبيض وتمر وحلوى.. ثم ينصرفون إلى حال سبيلهم بنفس السرعة التي جاؤوا بها. "الانتماء إلى الطبقة الاجتماعية الفقيرة والإدلاء بشهادة الاحتياج.. هذان شرطان ضروريان للاستفادة من الإفطار المحمول"، يقول عبد الله حارص، المسؤول عن لجنة الإعلام والتواصل بجمعية "الوفاق". قبل أن يتسلم كل مستفيد قفته، يسلم المسؤول عن التموين بطاقة تحمل اسمه وشعار الجمعية وجدولا بأيام رمضان، يضع المسؤول علامة في الخانة المناسبة ثم يعيدها إلى المستفيد. "الهدف من هذه العملية هو ضبط النظام حتى لا تقع الفوضى بين المستفيدين"، يقول الحاج البودالي، المسؤول عن التموين داخل "خيمة الرحمان". ما إن أشرف المتطوعون ذوو الوزرات البيضاء على توزيع حوالي 800 إفطار محمول على المستفيدين، حتى وفدت على باب الخيمة امرأة شابة برفقة طفل، لا يبدو من ملامحهما ومظهرهما أنهما فقيران.. اقتربت المرأة من الحاج البودالي وهمست في أذنه بما يفيد أن الحبال تقطعت بها وابنها وليس لديهما ما يفطران به، ولم يجد المسؤول أمام إلحاح المرأة من بد سوى الاستجابة لرغبتها، "استثناء لكون الإفطار المحمول لا يمنح إلا للمتوفرين على بطاقة الاستفادة التي تسلمها لهم الجمعية سلفا"، يوضح الحاج البودالي وهو يمسح قطرات العرق المنسابة على جبينه بطرف وزرته البيضاء. موائد إفطار مجانية "إفطار في سبيل الله"، "هنا إفطار مجاني".. هذه بعض من العبارات التي تعج بها شوارع وأزقة معظم الأحياء (الشعبية على الخصوص) بمدن المغرب خلال شهر رمضان. ولا يكاد المرء يمر من هذه الأماكن عند غروب الشمس في شهر رمضان إلا ويجد مائدة كبيرة قد جُهزت لاستقبال الصائمين، حيث يجلسون بانتظام في صفوف متراصة منتظرين موعد الإفطار، في مشهد رمضاني يعكس تنامي الشعور بالتكافل الاجتماعي بين المغاربة. وغالبا ما يقف على رأس كل مائدة أحد القائمين عليها يدعو السائرين في الشوارع أثناء أذان المغرب إلى تناول الإفطار، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى حد الإلحاح رغبة في الحصول على الثواب الديني. وفي الوقت الذي كانت مثل هذه الأعمال الخيرية مقتصرة على المحسنين وبعض الجمعيات الخيرية، دخلت بعض المقاهي والمطاعم في بعض المدن غمار التنافس في ما بينها لتقديم إفطار مجاني للصائمين. فما إن يهل شهر رمضان حتى يرفع أرباب هذه المقاهي مجموعة من اللوحات والعلامات الإرشادية بمحيط محلاتهم، لتسهيل وصول الصائمين إلى مواقعها. ويكمن الفرق بين المستفيد من "الإفطار المحمول" و"موائد الرحمان" في كون الثاني لا يشترط عليه أن يكون فقيرا لكي يستفيد من وجبة الإفطار المجانية، بل يلتقي في كنف هذه الموائد أناس من طبقات اجتماعية مختلفة، فيهم العاطل وعابر السبيل إلى جانب العامل والموظف والتاجر... على مستوى مدينة الدارالبيضاء، نُصبت العديد من خيام "موائد الرحمان" بجوار الجوامع الكبرى والمساجد ووسط العديد من الأحياء الشعبية، وتشهد هذه الموائد، التي تقدم وجبات إفطار مجانية في رمضان، تزايدا ملحوظا في أرجاء العاصمة الاقتصادية، تتوحد في المضمون وتختلف في التفاصيل، سواء من حيث حجم الوجبة المقدمة، أو الطاقة الاستيعابية، ومن يدعم تنظيمها ماديا أو معنويا. بحي لوبيلا ببوركون، زارت "أخبار اليوم" خيمة منصوبة وسط حديقة صغيرة، ووقفت على عملية الإفطار المجانية التي ينظمها سكان الحي لفائدة الفقراء والمعوزين وعابري السبيل. عبد اللطيف بودبلال، مصطفى غضروف، مصطفى غزاز، الضاوي غزراوي، بوشعيب الضو.. هؤلاء وآخرون من أبناء الحي قرروا للمرة الثانية على التوالي تنظيم "مائدة الرحمان" على نفقتهم الخاصة وما يجود به عليهم بعض المحسنين، هدفهم من ذلك ليس سوى تخفيف العبء عن عائلات وأفراد لا يقوون على مجاراة إيقاع الاستهلاك في شهر رمضان. "دبرنا على الكراسى والطوابل من عند ولد رحال ممون الحفلات.. والخيمة والحديد من عند الجماعة الحضرية.. والمواعن شريناهم.. والطباخات كنخلصوهوم.."، يقول عبد اللطيف بودبلال، المعروف وسط الحي بلقب "طوطو"، ليقاطعه جاره الضاوي غزراوي بأن سكان الحي جميعا تحمسوا لهذا العمل الخيري وساهموا فيه ماديا ومعنويا، مشيرا إلى أن أحد السكان منحهم "كراجا" خصصوه لطبخ وجبات الإفطار. "حريرة"، عصير ليمون معلب، خبزة، بيضة وتمر و"شباكية"، هذا ما يقدمه هؤلاء المتطوعون إلى ضيوف موائدهم كل يوم، حيث يستفيد منها حوالي 180 شخصا يوميا، حسب القائمين على هذا العمل الخيري. تنظيم محكم عدنا إلى خيمة جمعية "الوفاق"، التي تعد أكبر مبادرة من نوعها بالنظر إلى عدد الوجبات التي تقدمها كل يوم، والذي يتجاوز أحيانا ألفي وجبة. على أقصى يمين الخيمة الشاسعة الممتدة على مساحة تتعدى ألفي متر مربع، خصص حيز مهم لمخزن المؤن الذي تخزن فيه الجمعية ما تتوصل به من مواد غذائية من طرف محسنين. مئات الكيلوغرامات من التمر والعشرات من علب السكر والحليب المجفف والقهوة وغيرها من المواد الغذائية والتجهيزات الضرورية، من أوان وآلات تبريد.. كانت متراصة داخل مخزن التموين بطريقة دقيقة ومنظمة. يكشف الحاج مصطفى البودالي، المسؤول عن التموين، عن سجل يدون فيه كل ما يدخل إلى المخزن وما يخرج منه، بالإضافة إلى أسماء الأشخاص والمؤسسات التي تقدم التموين للجمعية، والغرض من ذلك حسبه هو التحكم وضبط الكميات التي تستهلك كل يوم. يرفع الحاج (58 سنة) نظاراته الطبية بطرف أصبعه، ثم يقول إن هذا العمل يأخذ منه كل وقته، إذ يلتحق كل يوم بالخيمة على الساعة السابعة صباحا ولا يغادرها إلا بعد الحادية عشرة ليلا. هنا يقاطعه زميله عبد الله حارص ليضيف أن الحاج، "كوموندان" في البحرية الملكية، اعتاد أن يأخذ عطلة من عمله خلال شهر رمضان لكي يتفرغ لهذا العمل التطوعي، مثله مثل العديد من المتطوعين الآخرين. بمحاذاة مخزن التموين، يقع المطبخ حيث تعكف 10 نسوة كل يوم على طهي 1300 لتر من "الحريرة" و420 لترا من القهوة والحليب، بالإضافة إلى سلق 2150 بيضة.. يوزع كل هذا إلى جانب 95 كيلوغراما من التمر و80 كيلوغراما من الشباكية... جو عائلي على بعد دقائق من أذان المغرب، وبالضبط على الساعة السابعة، بدأت وفود من الناس رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، في التوافد على الخيمة المقسمة إلى 3 أجزاء. "نقسم فضاء الخيمة إلى أجنحة ونطلق على كل جناح اسما ذا دلالة معينة (الإخاء، التضامن، المواطنة..)، ونجعل على رأس كل جناح لجنة تشرف عليه وتسهر على أن يكون التنظيم محكما.."، يشرح عبد الله حارص، المسؤول عن لجنة التواصل والإعلام. يتكون كل جناح بهذه الخيمة من 33 طاولة حولها 10 كراس، أي حوالي 1000 مستفيد، دون احتساب الأماكن المخصصة لمتطوعي الجمعية الذين يفوق عددهم 40. من أعلى الخيمة تتدلى لافتات عديدة مكتوبة عليها آيات قرآنية وأحاديث نبوية تعد كل من فطر صائما بنفس ثواب وأجر الصائم، دون أن ينقص من أجر هذا الأخير شيء... في أقل من 10 دقائق كانت الكراسي كلها قد امتلأت. كان المتطوعون يشرفون بأنفسهم على توجيه الوفود، حرصا على تجنب الاندفاع أو الفوضى: النساء في جناح خاص بهن، والشباب والشيوخ والأطفال موزعون على الجناحين الآخرين، فيما خصصت بضع طاولات لاستقبال أشخاص يصحبون معهم أفراد عائلاتهم. مصطفى وطار، 35 سنة، واحد من الذين اعتادوا الإفطار تحت هذه الخيمة بين الفينة والأخرى. يقول إن ضيق ذات يده هو الذي يدفعه إلى المجيء إلى هنا من مقر سكنه الكائن بواد مرزك، ويضيف أن ما يعجبه في هذا المكان بالذات هو ما يوفره من أجواء تشبه الأجواء العائلية. بدورها أكدت نزهة-ج (30 سنة) أنها تواظب على المجيء صحبة ابنة أختها كل سنة إلى هذا الفضاء لما يمتاز به من نظافة ونظام، وأضافت أنها لا تتردد في مساعدة أولئك الشباب والشابات في جمع الأواني بعد الإفطار رغبة منها في شكرهم بطريقتها الخاصة. في هذه الأثناء، كان المتطوعون المكلفون بتوزيع الطعام منهمكين في ملء أواني الحريرة والقهوة والشاي، ووضع القدر المحدد من الخبز والبيض والتمر والماء فوق كل طاولة. هنا التحق تقني متخصص في الأجهزة الصوتية بالخيمة وقام بتشغيل شريط صوتي قرآني غطى على الصخب الذي كانت تضج به أركان الخيمة. على الساعة السابعة و13 دقيقة، أوقف التقني شريط القرآن ووضع مكانه أذانا مسجلا للإعلان عن حلول موعد الإفطار، وما إن سمع قول "الله أكبر" حتى شرع جل الصائمين في التهام ما يوجد بين أيديهم من مأكولات، فيما اكتفى بعضهم بأكل ثمرة والتوجه نحو مساحة مفروشة بركن قصي من الخيمة خصصت لأداء الصلاة جماعة. بالنسبة إلى الحاج البودالي وعبد الله حارص وبقية المتطوعين، فإن الأمر لم ينته عند تقديم الإفطار لأولئك الصائمين، بل لا يزال ينتظرهم القيام بعدة إجراءات، إذ شرعوا في الطواف على مختلف الأجنحة من أجل إحصاء المستفيدين ومعرفة ما إذا كان كل شيء على ما يرام، قبل أن يلتحقوا بموائدهم لتناول وجبات الإفطار، التي لا تختلف كثيرا عن تلك التي قدموها لضيوفهم. وما إن يفرغ المستفيدون من الأكل حتى يبدؤوا في الانصراف تباعا، عندها يشرع المتطوعون في جمع الأواني من فوق الطاولات وأخذها إلى "المطبخ" حيث تنهمك عدة نسوة في غسلها، في حين يتكلف آخرون بجمع الكراسي والطاولات فوق بعضها البعض لكنس أرضية الخيمة.. ولا ينصرفون إلى حال سبيلهم إلا بعد تنظيفها لتكون مهيأة لاستقبال الضيوف في اليوم التالي... من موائد شعبية لوجه الله.. إلى حفلات للشهرة وأغراض سياسية التنافس على عمل الخير أهم سمات هذا الشهر الكريم، لكن، ومثلما هناك موائد إفطار لا يبتغي من ورائها أصحابها سوى التقرب إلى الله.. فإن هناك نوعا آخر من الموائد ينظمها البعض لمآرب مختلفة. إذ يلجأ بعض الفنانين والسياسيين ورجال الأعمال إلى إقامة موائد إفطار من صنف "5 نجوم" ويدعون إليها من يشاؤون من أصدقائهم وخاصتهم.. ويرى البعض في مثل هذه الموائد وسيلة من أجل الشهرة أو لقضاء أغراض بعيدة كل البعد عما يقتضيه الشهر الفضيل.. وإن كانت هذه الظاهرة محدودة في المغرب، فإنها متفشية بعدد من الدول العربية الإسلامية وعلى رأسها جمهورية مصر. لا يوجد تاريخ محدد لبداية ظاهرة موائد الرحمان في المغرب كما في باقي الدول العربية، لكن بعض العلماء يرون أن بدايتها ترجع إلى عهد الرسول (ص)، حينما قَدِم إليه وفد من الطائف ليعلنوا إسلامهم، فكان يرسل لهم طعام الإفطار والسحور، واقتدى به الخلفاء الراشدون من بعده وأعدوا دارا للضيافة لإفطار الصائمين. غير أن بعض المؤرخين يؤكدون أن البداية الحقيقية لموائد الرحمن كانت من مصر في عصر الدولة الطولونية، حينما أقام مؤسسها أحمد بن طولون مأدبة إفطار كبيرة، دعا إليها الأعيان وكبار رجال الدولة، وحينما توجهوا إليها وجدوا الفقراء إلى جوارهم فيها، ويومها خطب فيهم أحمد بن طولون طالبا منهم أن يمدوا موائدهم للفقراء، وأكد على استمرار هذه الموائد طوال أيام رمضان ليفطر عليها الفقراء والمساكين وعابرو السبيل، كما حث الأغنياء وكبار رجال الدولة على أن يقتدوا به في ذلك. وفي عام 880 هجرية أمر أحمد بن طولون أن تعمم الموائد الرمضانية في كل أنحاء دولته، وأن يكون مقرها في الأماكن العامة لتكون قريبة من الفقراء. وتقول المراجع التاريخية إن الظاهرة تطورت في عهد الدولة الفاطمية، لكنها شهدت تراجعا في عصر الدولتين المملوكية والعثمانية نظرا لانتشار الحروب. وفي العصر الحديث، لا تخلو دولة إسلامية من موائد الرحمان التي يتبارى فيها الجميع على تقديم أصناف الطعام للصائمين، وأصبحت هذه الموائد وسيلة للتقرب إلى الله والدعاية السياسية معا، وخصصت أماكن عمومية لتقديم موائد مزينة بجميع أصناف الطعام، سواء المصنوعة في المنازل أو تلك التي تحضر في الفنادق الكبرى. ولم يعد رواد هذه الموائد من الفقراء والمساكين فقط، بل أصبحت تجتذب شرائح أخرى كالموظفين وغيرهم. ويبدأ الحجز على هذه الموائد بعد أذان العصر مباشرة، ويستمر توافد الرواد عليها حتى أذان المغرب، والطريف في الأمر أن بعض السياح الأجانب يشاركون الصائمين طعامهم على هذه الموائد، رغبة في في التعرف على هذا الطقس الاجتماعي والديني. ويقول عبد الله حارص، أحد القائمين على الخيمة التي تنظمها جمعية "الوفاق" بحي بوركون: "إن فكرة تنظيم هذه التظاهرة بدأت قبل 13 سنة، حيث كنا نصادف، في طريقنا إلى بيوتنا بعد صلاة المغرب، مواطنين يضطرهم غياب وسائل النقل إلى البقاء في الشارع دون إفطار، وهكذا فكرنا في تنظيم موائد إفطار مجانية يستفيد منها أمثال هؤلاء". ويتابع قائلا: "انطلقنا في السنة الأولى بتقديم وجبات إفطار لفائدة 50 شخصا، وأخذنا نضاعف الرقم كل عام إلى أن وصلنا الآن إلى ألفي وجبة.."، مؤكدا أن هذه الموائد تعد فرصة ليس فقط للفقراء والمحتاجين، بل يفطر عليها من لا يستطيع الذهاب إلى منزله كالسائقين وعابري السبيل ورجال الشرطة.. وكل الذين يدركهم المغرب وهم في أماكن عملهم، فتكون هذه الموائد فرصتهم الوحيدة للإفطار.. في جو عائلي.