هل يمكن نعت" رمضنة " بعض الناس في هذا الشهر الفضيل ، شهر رمضان الأبرك ، رياء و نفاقا؟ و هل يمكن اعتبارا " ترمضين "البعض منهم عزوفا لا شعوريا عن فعل الصوم ، ذلك الفعل الذي يعبر في أقصى معناه عن الامتثال لأوامر المولى جل و على و نبيه الكريم ( ص ) ؟ تتخذ " الرمضنة " شكل إقبال بعض الناس ، بشكل ملفت للانتباه ، في شهر رمضان على ارتياد المساجد و الاعتكاف فيها من اجل الصلاة و الذكر و التسبيح طلبا لغفران الذنوب و المعاصي . فهي ، بهذا المعنى ، نوع من كرنفالية جماعية تصل لحالة الذروة و في أقصى تجلياتها الروحية في صلوات التراويح و عند أداء صلاة الفجر و الصبح . " الرمضنة " هي إذن إقبال على الدين و التدين في شهر رمضان بشكل مبالغ فيه عكس ما نجده في شهور السنة الأخرى من إقبال نسبي ، شيء ما ، على التدين في أوساط المغاربة . أما " الترمضين " فهي عكس " الرمضنة " يمكن النظر إليها على أنها تعبير ساخط عن أجواء رمضان وما يرتبط بتلك الأجواء من نرفزة وغضب . ف"المترمضن " يفقد جادة صوابه لأتف الأسباب وقد يدخل في ملاسنات كلامية أو شجار قد لا تحمد عقباه مع الصائمين . يحدث هذا كثيرا في الأسواق العمومية ، وقت الظهيرة أو ما بعدها ، حين تنشط حركة البيع و الشراء ، إذ تصل " الترمضينة " أقصى درجات تجلياتها الدراماتيكية عندما يشتد إحساس الباعة المتجولين بالجوع و بالعطش و تقل نسبة النيكوتين والكافايين والتيتايين في دمهم، حيت تصبح تلك الظاهرة تمشي بمنطق عنترية مغامرة بكل أوراقها ، وتكون شبيهة بعنترية الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم : ألا لا يجهلن علينا أحد فنجهل فوق جهل الجاهلينا " الرمضنة " و" الترمضين " بهذا المعنى ، هما وجهان لعملة واحدة . إذ تتخذ هذه العملة صورة نمطية أو سمة سوسيو نفسية و ثقافية بارزة في كل مشهد رمضاني يقدم نفسه على أنه مفعم بالقدسية و الروحانيات التي اقتضتها ظروف الصوم . وهنا في هذا الإطار ، يتبادر إلى الذهن السؤال الكبير التالي : إذا كان صيام رمضان فرض واجب على كل مؤمن و مؤمنة ، كسائر الفرائض الأخرى ، و أن من صامه " إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " فهل يتقبل بعض المغاربة ، بنفس القدر و القدرة ، صيام رمضان ، بالإيمان و الاحتساب ؟ لماذا يقبل هؤلاء المغاربة على الدين و التدين ، بشكل كبير ، في رمضان ، و و لا يقبلون عليه بنفس لهفة الصائم في باقي أشهر السنة الأخرى ؟ كيف يتمثلون ، إذن ، هذا الشهر الفضيل شهر رمضان المعظم ؟ لا أدعي امتلاك أجوبة شافية على هذه الأسئلة المؤرقة للأجفان ، فأهل الاختصاص من علماء النفس و الاجتماع و هم أدرى بشعاب ميادينهم المعرفية ، فهم مدعوون إلى مقاربة مثل هذه الظواهر السوسو ثقافية مقاربة علمية و موضوعية . فطرح الأسئلة على واقع مليء بألوان من المتناقضات شيء واجب تقتضيه الأمانة الأخلاقية و العلمية . أعترف أن المتناقضات التي تطفو، كل سنة، على المشهد الرمضاني المغربي ملفتة للانتباه تستفز كل ذي عقل و تجعله، من حيث يدري أو لا يدري يطرح الأسئلة تلو الأسئلة بغية استنطاق ذلك الواقع. كثيرة هي الدروس الرمضانية التي تلقى في المساجد أو في خيام ضيوف الرحمان التي تعرض وجبات الفطور ، مجانيا لعابري السبيل من الصائمين ، و التي تتناول بالتحليل أثر النفاق و الرياء على الصائم ، لكنها تبقى سجينة الوعظ و الإرشاد و لا ترقى إلى مستوى فهم الظاهرة في شموليتها و أبعادها . في حقيقة الأمر ، لا يمكن ، في اعتقاد جل المغاربة ، تصور رمضان في المغرب ، رغم " رمضنة " بعض المغاربة أو " ترمضينيتهم " إلا كتجل لازدواجية سلوك تتحد حدود طرفيه لتعبر عن فرح قادم من عمق تاريخي ، فرح يعبر عن حياة تريد أن تتشبث بكل الخيوط التي تقود لسعادة الدنيا و الدين . فالمغرب مهد الحضارات و أرض تعدد الثقافات ( أمازيغية ، فينيقية ، قرطاجية ، رومانية ، وعربية إسلامية و أندلسية ) المغاربة ، بهذا المعنى إذن ، و انطلاقا من هذا الإطار السوسوتاريخي ، شعب يتميز بالوسطية و عدم الغلو في أي شيء : لا ضرر و لا ضرار . . اعمل لدنياك كأنك ستعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنك ستموت غدا . المغاربة ، كبارا و صغارا ، كغيرهم من مسلمي بقاع العالم ، يستقبلون رمضان استقبال الفرح بقدوم هذا الضيف العزيز على نفوسهم . فهم يولونه كبير الاهتمام ، نظرا لمكانته القدسية باعتباره الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى و رحمة للعالمين . فتراهم في كل بيت مغربي يتهيئون ، منذ حلول شهر شعبان ، لاستقبال هذا الوافد العزيز و ذلك بإعداد صنوف الحلويات ( الشباكية و المخرقة و السفوف ) و اقتناء أجود التمور من الأسواق الشعبية و العامة التي تقام خصيصا لمثل هذه المواسم ، ناهيك عن اقتناء لمستلزمات الحريرة من عدس و فول و حمص و غيرها . ولإضفاء الطابع القدسي على ليالي رمضان ، خاصة ليلة القدر ، تقتني النسوة المغربيات أنواعا من البخور ( الجاوي ، صلبان ، الطباطيل ... ) لإبعاد الشياطين و درء النحس و قلة الحظ عن أنفسهم و أولادهم. المشهد الرمضاني المغربي ، هو زمان يؤطر كل الفضاءلت و كل الأمكنة تأطيرا قدسيا مفعما بالروحانيات الشفافة و في نفس الوقت يؤطرها تأطيرا دنيويا خال من كل الرتوشات . فالعلاقة بين المقدس و الدنيوي في المغرب علاقة تفاعلية و جدلية . ففي رمضان تتكشف كل الإشراقات الدنيوية و الإشراقات الروحانية و تنحل كل العقد . ففيه يتمظهر الناس و يتشكلون وفق كرنفالية ذات جرعة روحية زائدة لكنها مفعمة بحب الدنيا و الإقبال على ملذات الحياة . يتقن المغاربة ، بامتياز كبير ، فن الجمهرة و التجمهر و الاحتفالية و الكرنفالية خاصة في المدن التي لها عمق تاريخي حيث تتأصل فيه المدنية ، كفاس و مراكش و الرباط و الصويرة و غيرها من المدن العريقة . فكلما اتسعت المساحات و الفضاءات والأمكنة إلا و نجدها قد ضاقت بفعل الكرنفلات الرمضانية ، . و كأني بهذه الثقافة الموروثة هي تعبير لاشعوري عن روح تسكن المغاربة مغرمة بثقافة الملء و الامتلاء ( ارتياد المساجد و أماكن العبادة ، ارتياد أماكن السهر و السمر من مقاهي و مطاعم ، التجوال في الساحات العمومية و الشوارع الكبرى ...). المشهد الرمضاني المغربي هو فضاء يتيح مناسبة لا تعوض لتمظهر الفرح والغبطة المغربيين : " للصائم فرحتان فرحة عن إفطاره و فرحة عند لقاء ربه " فالمؤمن و المؤمنة يتمثل فرحهما برمضان بالإيمان و الاحتساب امتثالا لأوامر المولى عز و جل الذي أمرهما بالصيام طلبا منه تعالى للمغفرة و للأجر و للثواب. تتغير الأجواء و تنتعش الأمكنة لتكتسي حلة جديدة بألوان طيفية رمضانية زاهية ، منذ حلول أول ليلة رمضانية حتى أيام عيد الفطر السعيد: فالمساجد تصبح بين عشية و ضحاها عامرة بالعباد و الزهاد و أهل الذكر ، فتمتلئ جنباتها الواسعة بهم ، و أصوات التهليل و التكبير و التسبيح و الحمدلة الصادرة من أبواق المآذن تسمعها في كل زاوية من الزوايا . كما تسمعها من أفواه الوعاظ في أشرطة التسجيل التي تمتلئ بها المحلات التجارية تحث المؤمنين على أن يذرفوا دموع الندم و يرتدوا رداء الطاعة و الطهر و التقوى . يتيح المشهد الرمضاني المغربي أيضا ، في الجهة المقابلة ، مناسبة لفرح آخر : مناسبة لاستقبال الضيوف من الأهل و الأحباب في البيوت على نكهة الجاوي و البخور و الأمداح النبوية و الطرب الأندلسي و الغرناطي . مناسبة لعرض ما لذ و طاب من المأكولات و النشويات و الحلويات . مناسبة لمشاهدة برامج التلفزيون و الدراما المحلية و العربية التي تتنافس مختلف القنوات العربية على عرضها على المشاهد بغية إرضاء ذوقه . مناسبة لاستباق النساء على شراء المقتنيات التي تعرضها المحلات و الأسواق التجارية الكبرى استفادة من التخفيضات في الأثمان . مناسبة لارتياد المقاهي و المطاعم، التي تجدها غاصة بالرواد و أهل المغنى و عشاق الليل والسمر يسمرون حتى بزوغ أول خيوط الفجر. مناسبة للاستعراض في ساحات المدن العمومية التي تعيش عرسا كرنفاليا من الغادين و الرائحين ، بكل فئاتهم و بمختلف أعمارهم ، يجوبون الشوارع يتناولون المثلجات و الفرح يغمر محياهم . باختصار، المشهد الرمضاني ، في نظر المغاربة ، تجارة رابحة و مربحة لكل من يريد أن يربح خيرات الحياة الدنيا و يربح أجر و ثواب الحياة الأخروية. و تبقى "الرمضنة "و "الترمضين " شاهدا طريق طويلة لمعالم صوم يتوق ، دائما ، إلى رسم دائرة الاكتمال الذي جبل عليه الإنسان . رمضان مبارك سعيد للجميع، وكل عام و أتنم بألف خير.