أمي، تحب قصيدتك يا محمود. إلى غاية هنا، يبدو الأمر في غاية المعتاد. لكن أمي، ليست بشاعرة أو خريجة معاهد عليا، ولا حتى بعارفة لأبسط أبجديات الكلام. أمي، امرأة من عامة بسطاء القوم على سليقتها تنتمي لقوافل نساء هذا الوطن، اللواتي ظلمهن القدر والحجر والإيديولوجيا. أقصى ما تعرفه من الوجود، طبيخ وغسيل وتلطيف للأقدار. تتذكر، دائما أمي صفعة جدتي المدوية، والتي حطمت بها وجه إحدى المُدرسات المسيحيات. حينما، أرادت الأخيرة الحيلولة بكل ما أوتيت من قوة، كي تمنع جدتي من جر أمي كخروف إلى خارج الفصل، ثم تقبع في البيت حتى أبد الآبدين. تتغنى صبيحة ومساء من وراء حجاب، بحكايات حينا. لقد رفضت المدرسة، تسليم أمي لهذا المصير، وهي ترمي وجه جدتي، بكل عقول اليونان والجرمان والفرنسيس.... "ابنتك ذكية، اتركيها تتعلم !!. لكن، جدتي أقسمت بأغلظ الأيمان، أن تفي برقبتها لعقلية البيداء. فانتهت، أمي إلى حيث هي !!!. مناسبة حديثنا، كنت بين الفينة والثانية، أتأبط وأنا عائد إلى المنزل، بعض الأشرطة المسموعة لقصائد درويش. كيف، لك أن تستعيد إنسانيتك وتنام الليل بحواس شفافة ؟! وأنت، تتسلق طيلة اليوم أكوام البلادة والدناءة، كي تنتشل آخر المساء لقمة للأهل. بالطبع، كل البشرية تعرف بأننا شعب بلا كرامة، نعيش إسوة بأجدادنا الأوائل في المغاراة والكهوف. على الأقل، هؤلاء عُراة انسجموا مع أنفسهم وأوضاعهم. بينما، نحن أسمى ما تتقنه يومياتنا، تلك الفنون الرائعة المتعلقة بالتقنع والخبث. جلنا، ينحني لمجموعنا، من أجل ماذا ؟! لا أعرف !! يخبرنا العرافون في منتديات شتى، على اقتراب موعد القيامة. فمتى، الأمر ؟!. يرسم صوت درويش على امتداد ميترات شقتنا الصغيرة، خشوعا نوستالجيا. أدير، الشريط إلى أقاصي دويه. أمارس، ما أقدر عليه من حقوقي المشروعة في الكتابة والتأمل. أمي، كالمعتاد تلاحق بعينين متعبتين حُلل شاشتنا الكهلة، وهي تنصت. هكذا تستمر إلى أن تخوض سباتها العميق. الحقيقة التي غابت عن مخيلتي، كون شحنة أمي العصبية وألياف أطرافها السفلى والعليا، تجرفها دون هوادة شلالات قصيدة درويش. لم أدرك ذلك إذن، إلا حينما بادرتني أمي ذات ظهيرة ونحن نتناول وجبة الغذاء، دون درويش بل ولا طنين ذبابة. صمت مطبق، غير إيقاعات أفواهنا الرخيمة، تلوي يُمنة ويسرة ما حشوناه بها. افتقدت يومها أي جديد لمحمود، وتنكرت للموسيقى، كان رأسي بركانا مُشتعلا. توخيت من العالم، رحمة بي كل جليد حواسي، وسكينة الموتى. "هل أصابتك لعنة الكسل، أين الأسطوانات ؟ أحب محمود كثيرا، أعتبره ابنا لي أو أخي ...". صدقوني، هكذا توالت الكلمات متطايرة أشلاء من جوف أمي، وأنا متجمد من دهشة اللحظة. حقا، تفاجأت !! كيف لامرأة من سلسلة خرائطيتها الجينية، أن ينطوي لها محمود على صيغة ما. لقد استنتجت فقط، يومها معاني الجمال والصدق، وكذا المشاعر الإنسانية الباذخة. هي، ليست بأكوام الكتب والمفاهيم والتنظيرات. المعادلة الوحيدة، استكشاف لا نهائي عن أبسط خط تتواصل عبره الكائنات. بالتالي، الشاعر شاعر وانتهينا. كما أن، الإنسان إنسان وكفى. لا يحتاج الأول إلى تهليل، بقدر تمرد الثاني المطلق عن أي تبرير وتدليل. ربما، هي صورة إلهية للشاعر، لا يهمني، أن يصدر العدد إكس من الدواوين وتتناوله عشرات المقاربات الأكاديمية، وقد شعرت بنصه مجرد مداد منسكب على بياض، بلا روح ولا دفء... . في لحظة ما، من "الزهو" الفكري، كنت والأصدقاء نتهكم من التعريفات المعيارية للشعر، بأنه ذوق، تذوق وانطباع. حيث، يمتثل كل نص بجلاله إلى إشارة بسيطة لحكم قضائي على طريقة، معي أو ضدي، يعجبني أم لا يعجبني. ثم، تصير الدعوى قائمة. يوم، اقتحمتني أمي بسؤالها. أدركت فورا، معنى أن تماهي الشعر بالبهجة، ومن خلالهما الكتابة بالفؤاد. ببساطة، الكتابات الحية، الباقية، والخالدة، انبلجت حتما قطرة قطرة من أغوار عصارة آلامنا. أمي، لا تعرف بودلير ولا المتنبي، بل، ولا حتى مُقدم النشرة المسائية. لكنها، عشقت درويش. لا، تعليل منطقي. اغرورقت عيناها دموعا، حزنا، على رحيل محمود. كانت، تتملى بملامح مقفرة ومنكسرة نعش الشاعر، وقد طارت به قناة الجزيرة إلى بيتنا طريا، فتيا. كادت، أن تجهش. بالكاد، تتمالك. أترقب خُفية، بين الفينة والأخرى، نظرات أمي المتصلبة، وأنا أدندن مع مارسيل خليفة "أحن إلى خبز أمي"، إلى آخر اللحن الخالد، حتى لا تهزمني بدوري العبرات. سأظل، أفتخر بسيدة ولدتني تهتم برجال من عينة درويش. درويش، شاعر خالد. دليلي في ذلك، سيدة مثل أمي على الفطرة، تنتشي بقصيدته. فماذا عن جمال ؟ إنه، الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، الذي استحوذ على مشاعر الجماهير وأحاسيسهم، وأحلامهم. سيبقى، الاسم السياسي العربي الوحيد، الذي أرسى جغرافية ذاكرتنا القومية من الماء إلى الماء. بينما، عرائس القصب التي أفرزتها رداءة زمان العهر هذا، ربما تعرفها ملابسها الداخلية. ما علينا !!. من بين أكثر الأشياء التي أحتفظ بها، حلوة لذيذة، منذ سنوات خلت، وأنا مراهق أطوي جيئة وذهابا، أسواق مراكش الشعبية، بائعا متجولا، كي أجني بعض القروش. تلك، الجملة التي انسابت من فم رجل عجوز، انحنى ظهره تقوسا، أمام صورة لجمال عبد الناصر، يعرضها أحدهم للبيع إلى جانب صور أخرى فنتازية، مُتخيلة ومُجسمة لبطولات علي بن أبي طالب، وهو يلوح إلى عنان السماء بحسام يشبه شكله لسان أفعى الكوبرا، ثم الغول ومروض الأسود ... . "بكم، تلك الصورة ل جمال ؟!". نعم، هكذا تفوه الشيخ مستفسرا عن الثمن. يبدو، الطلب للوهلة الأولى، عاديا ومعتادا. إلا، أنه حينما نتحلى بقليل من التروي، يصير الأمر مختلفا. توظيف، جمال، هكذا كإسم شخصي متجرد من كل تأشير رسمي أو مؤسساتي. يحيل، وفق كل التخمينات على تغلغل حس عبد الناصر داخل اللاوعي الجمعي للناس. لا ينتمي الرجل الشيخ إلى جماعة الضباط الأحرار، ولا هو أحد رموز التنظير القومي. مع ذلك، يحتضن عبد الناصر بمثل تلك الحميمية الأبوية. حب، وضاء، جلي ...، دون مواربة أو مفهمة. بين محمود/أمي، وجمال/ الرجل العجوز، لحظات وجود راقية جدا. شموخ، إنساني بكل تحققاته. هو الشعر، وهو الثورة. محمود، امتداد لجمال. وجمال، حلم لمحمود. لذا، يصعب حتى في أدق حبيبات القضية مُكاشفة أحدهما، في غياب للآخر. [email protected]