أثارني مفهوم " مغاربة العالم" الذي أصبح متداولا خلال هذه السنوات القليلة ، والذي يعبر عن دلالات عميقة ، يمكن الوقوف عندها من خلال تفكيك الكلمتين الدالتين لهذا المفهوم وهي : مغاربة / العالم. ما المقصود بمفهوم :مغاربة العالم؟ سؤال إشكالي يحدد تواجد المغاربة بباقي دول العالم ، وانتشارهم في جميع أنحاء المعمور شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا. لماذا ؟ وكيف ؟ ومتى ؟ ولم ؟.. أدوات استفهامية تفرض نفسها ، وتتطلب أجوبة عن ظاهرة الرحالة المغاربة في سوق البحث عن الذات. لا ينكر إلا جاحد ما أصبحت تعرفه الأسر المغربية ، من تفكيك بنيات علاقات القرابة وتباينها نتيجة الزواج المختلط الذي أصبح السمة المميزة لعلاقاتنا بالآخر ، بحيث أصبحت أواصرها تتلاشى شيئا فشيئا ، نظرا للمحدد الجغرافي المتباين ، والاختلاف اللساني والعقدي، ناهيك عن تاريخ البلد وعاداته وتقاليده.. فالهجرة إلى الضفة الأخرى أصبحت عند شبابنا فرصة أمل، يتوخى من خلالها رسم معالم حياته الآنية والمستقبلية وفق منظور يطمح إلى إثبات الذات ، بالعمل على توفير إمكانيات تعود بالنفع عليه سواء ببلاد المهجر أو ببلده الأصل. فقد لا يخلو بيت مغربي من مهاجر "ة" أو أكثر ، سواء إلى دول الخليج أو إلى القارة العجوز أو إلى أمريكا أو القارة الأفريقية أو آسيا..أين ما وليت وجهك شطر بلد ما ، فستجد مغربيا "ة" هنالك. بالطبع تختلف الوسائل كما تختلف الأهداف . فهناك من هاجر ليتابع دراسته العليا في تخصص غير موجود ببلده ، وهناك من هاجر من أجل البحث العلمي لانسداد أفقه ببلده ، وهناك من هاجر للبحث في الأنفاق عن كوة ضوء، وهناك من هاجر لجني الطماطم وتوت الأرض، وهناك من هاجر من أجل "البيزنيس" وهناك من هاجر من أجل دراسة الفن ، وهناك من زلت قدمه في آبار العفن. وهناك من....وهناك من....... تبقى الهجرة المأسوف عليها والتي تترك شرخا في منارة العلم والعرفان ، وفقدان بوصلة تدبير الشأن العام ، هجرة الأدمغة التي تستقبل بالأحضان من قبل الدول المؤمنة بدور العقل في رسم خرائط النهضة والتقدم إلى الأمام. العديد من الشباب و الشابات ضاقت بهم "بهن" مساحة بلدهم الفسيحة، لأسباب موضوعية يتجلى أهمها في انتشار البطالة ليس على صعيد من لم يتمم دراسته وتعليمه سواء بالسلك الإعدادي أو الثانوي أو الجامعي ، بل تعدت ذلك إلى أصحاب الشواهد العليا من دكتوراه وما ستر.. وهذا سبب من الأسباب الذي يجعل باب الهجرة مشرعا للعديد من الطاقات الشابة التي ترى في الضفة الأخرى المنقذ من الضلال، سواء بطريقة مشروعة أم بغيرها. مما يجعل العديد ممن تطأ أقدامهم أسفلت قارة من القارات - وبالأخص منهم من ينحدر من الأرياف والأحياء الهامشية في المدن - بالبحث عن زيجة كيفما رمت بها ظروف الزمكان ، لا يهم فارق السن ولو كان ربع قرن. المهم تصفية وضعية الإقامة بالبلد المتواجد به بطريقة قانونية تسمح له بالتمتع بالمواطنة الكاملة ، كأي مواطن ينتمي لتلك الديار. ومن ثمة حرية التنقل من وإلى البلد الأم بطريقة مشرفة تجعل الأسرة و الأصدقاء والجيران و أصحاب الدرب.. معتزون بالوافد الجديد من الخارج بطريقة تختلف عما علق بأذهانهم عندما كان بالداخل. ويصبح الداخل والخارج موضوع الساعة لثلة الشباب الذين يستقرؤون تجربة صديقهم، ومحاولة النسج على منوالها لتكرار تجربة آخر. العجيب والغريب فينا نحن المغاربة ، أننا رغم معاناة الغربة ، فالوطن منقوش بقوة في جوارحنا وقلوبنا وذاكرتنا..نحبه حبا ينسينا الندوب التي تركها الزمن المغربي مرتسمة على محيانا أينما حللنا وارتحلنا. بحيث المغربي تواق إلى تغيير وضعيته كلما وجد الظروف ناضجة ، ومجال الحريات مفتوح على مصراعيه. عنذاك تجد الإبداع و الإتقان والجودة في كل درب من دروب الحياة سواء كانت تتعلق بالاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة أو الفن أو التعليم.. فبإطلالة قصيرة على وضعية المغاربة المتواجدون في العالم ، يتبين لنا مدى عبقرية الإنسان/المواطن المغربي ، ومدى كفاءته كمسئول عن تسيير وتدبير أي مجال من المجالات ، سواء كانت مقاولة صناعية أو تجارية أو فندقية، بل حتى على مستوى التمثيلية السكانية إن في الجماعات المحلية أو في البرلمان، وخير مثال على ذلك مغاربة هولندا وبلجيكا و ألمانيا ، ولا ننسى جمعيات المجتمع المدني التي تنشط بإسبانيا وفرنسا وإيطاليا.. فالمغربي والمغربية في ديار المهجر أصبح لهما دور أساس في تنشيط حركية المجتمع في شتى الاختصاصات، نتيجة تكتلهم في بوتقة جمعيات مدنية تهتم بكل ما من شأنه الرفع من مستوى المهاجرين المغاربة بشكل خاص ، والعرب بشكل عام. هذه الطفرة التي عرفها " مغاربة العالم" في صيرورتهم بدول المهجر ، جعلت الدولة المغربية تفكر مليا في إطار يلم شملهم . ولهذه الغاية أحدثت مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج طبقا للقانون 19-89 بالظهير الشريف الصادر بتاريخ 13 يوليوز1990 هدفها هو العمل على ضمان استمرار العلاقات الأساسية التي تربطهم بوطنهم، وعلى مساعدتهم على تخطي الصعوبات التي تعترض اغترابهم. ونظرا لانتشار المغتربين بدول المهجر ، وتكاثر أعدادهم عبر أجيال تختلف باختلاف التغيرات التي عرفها العالم انطلاقا من الحرب الباردة وسقوط النظام السوفياتي إلى انهيار سور برلين وحرب الخليج.. وانتشار التطرف والعنصرية بنوعيهما والحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة..كل هذه الأحداث المتواترة جعلت من المهاجر المغربي يعيد النظر في ترتيب أولوياته انطلاقا من تجاربه الذاتية المطعمة بتجارب البلد المضيف. ومن ثمة بدأ التفكير في إيجاد صيغة من الصيغ لتجميع الطاقات والفعاليات التي يحبل بها عالم المغاربة المتواجدين بالخارج ، وبالتالي إسماع صوتهم عبر منابر ومؤسسات حكومية وغير حكومية لتجاوز المثبطات التي تعوق إدماجهم واندماجهم بالبلد الأم. وما خلق المجلس الأعلى للجالية المغربية وتمتيعه بالتمثيلية لأغلبية الفعاليات الفردية والجماعية التي تنشط داخل حقل الهجرة، لخير دليل على إفساح المجال لأكبر عدد ممكن من أبناء الجالية لتدارس ملفات إخوانهم و أخواتهم في المهجر وإيجاد الحلول لها . وهو المسلسل الذي قاده المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، بعد تكليفه من طرف الملك محمد السادس لاعتبارات تعود إلى طبيعة تمثيليته المتعددة. وقد قام الفريق المكلف بهذه المهمة بزيارة العديد من الدول ، أمكن من خلالها التواصل مع 1500 مغربي"ة" مقيم بالخارج. وقد شملت هذه المشاورات فعاليات مدنية وسياسية في أوربا والولايات المتحدةالأمريكية وكندا ، وبلدان المشرق العربي وأفريقيا. علاوة على كل المشاورات تناولت اللقاء مع مجموعة من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، كما تم توظيف شبكة الأترنيت، حيث تم وضع استمارات تم تعميمها على حوالي 2000 فاعل جمعوي مقيم بالخارج. ماهي المعايير المعتمدة في اختيار أعضاء المجلس الأعلى للجالية المغربية ؟ من بين المعايير المعتمدة : مدى تشبث أعضاء المجلس الأعلى بثوابت الأمة، ومقومات الهوية الوطنية الموحدة ، الغنية بتعدد روافدها، وكذا العطاء المتميز في مجال الهجرة ، والدفاع عن قضايا الجالية. وقد تم الحرص في تركيبة المجلس الأعلى على احترام التوازن الجغرافي ، والتوازن بين الأجيال ، وتمثيلية المرأة بشكل متقدم وكذا كافة المشارب الروحية والثقافية والاجتماعية للمغاربة في الضفة الأخرى . ويمكن القول أن الدولة نهجت مقاربة انتقائية ، اعتمدت فيها على اختيار أفراد مندمجة ، وذات كفاءة عالية ، ولها مراكز هامة داخل بلدان الإقامة ، وذلك من أجل ربط الجسور بينها وبين وطنها الأم للاستفادة من خبراتهم والعودة بالنفع على بلدهم. ومع ذلك فالملاحظ أن تشكيلة المجلس الأعلى ما زالت تسيل الكثير من المداد عبر العديد من المقالات التي تتطرق إلى فقدان الديمقراطية في انتخاب أعضاء المجلس واختيار تمثيليتهم ، وذلك باختلاف مغاربة المهجر المتواجدون بالقارات الخمس. فالمغربي المهاجر إلى الديار الأوربية ، ليس كمثله بالولايات المتحدة الأميركية ، وليس كمثله أيضا من هو بأفريقا أو آسيا. وفي الختم يمكن أن نقر بأن المجلس الأعلى للجالية المغربية يمكن اعتباره إطارا مؤسساتيا ، يعمل وفق آليات تتوخى الحد من العوائق التي تتعرض لها الجالية المغربية في أي بلد من الدنيا. قد تكون البدايات متعثرة ككل بداية ، لكن الأفق المنظور وفق العمل الجاد والمثمر ينبي بتجاوز المثبطات نظرا لما تتوفر عليه قشدة الجالية المغربية من طاقات وفعاليات أبانت بجدارة واستحقاق عن كفاءاتها في جل المجالات والتخصصات التي اقتحمتها نتيجة فرص الحرية التي منحت لها ، والإمكانات والموارد التي رصدت لها. فهنيئا لنا بكوادرنا الذين خرجوا من النوافذ ، ورجعوا إلينا عبر الأبواب.