نحب أحيانا الكتابة التي تجسد واقعنا الاجتماعي والنفسي، وهي تختلف عن الكتابة الأكاديمية المقننة بشروط علمية معينة. الكتابة التي تنبع من أعماق الشخص والتي تكون بعيدة عن المسؤولية الأكاديمية يكون لها صدا مختلفا تماما عن مثيلتها من الكتابات. يكفي أن نحس ونحن نكتب عن أشياء اجتماعية ونفسية بحرية مطلقة في سرد الأفكار والأحداث. لا أحد يراقبك وأنت تأخذ قلمك من على مكتبك لتسرد أحداثا شخصية معينة عن نفسك، في أسلوب أنت الذي تختاره. تسرد أحداثا بالطريقة التي تريد أنت، لا وجود فيها لمقدمة أو خاتمة. هي كلها أحداث واقعية تجسدن تاريخك كيفما كانت طبيعته. ما نكتبه أحيانا عن دواتنا هو الحقيقة الحقيقية التي لا نعلمها إلا نحن. عندما كنا صغارا كنا نكتب أسطرا قليلة بطريقة همجية لا نراعي فيها أي شيء، لا الفاصلة ولا النقطة ولا علامات أخرى، كما أننا لم نكن نراعي فيها سلامة اللغة التي نكتب بها ومع ذلك كنا نسرد أحداث، إما عاطفية أو دينية أو سياسية أو اجتماعية، بمتعة كبيرة. لماذا ؟ لأن مثل هذه الكتابات تأتيك من العمق، وربما أنت لن تستطيع السيطرة عليها لتكبحها أو لتقوم بإخفائها، بل هي التي تأتيك دون أن تشعر أنت، لتجد نفسك في النهاية تكتب أشياء عن نفسك أنت لا تعرفها، وهي تشكل شخصيتك الحقيقية. بهذه الطريقة فقط، يمكن أن تعرف أشياء عجيبة عن نفسك. القلم أحيانا يساعدك وأحيانا أخرى لا يساعدك. يدك ترتعش وأنت تأخذ القلم، لا تعرف من أين تبدأ وماذا ستكتب أساسا وبماذا ستنتهي، كل هذه الأشياء تأتيك عندما يطيعك القلم ويرضخ لإصرارك على الكتابة. تبدأ في الكتابة دون أن تنتهي وتأتيك الأحداث بطريقة متسلسلة وممنهجة دون أن تحتاج لتصميم معين تكتب على أساسه. القلم لا يمكن أن يخونك بعدما تنطلق في الكتابة، تجده مستقيما وسلسا ومطيعا. هكذا أجد نفسي وأنا آخذ قلمي لأكتب. كنت في الأيام القليلة الأخيرة زرت بلدتي التي توجد في نواحي مدينة تازة البعيدة. تبعد بلدتي عن مدينة تازة بحوالي 45 كلوا متر. مند أكثر من خمسة أشهر لم أزر هذه البلدة العجيبة لأسباب اجتماعية واقتصادية ونفسية أيضا. العطالة الملعونة هي التي تمنعني من زيارة عائلتي في بلدتي. وأنا أدرس في جامعة محمد الخامس بالرباط في سنوات الإجازة وما بعد الإجازة كنت أزورها باستمرار وبنفسية عالية، أما الآن فالوضعية مختلفة تماما. في ليلة مقمرة سافرت في القطار ليلا إلى مدينة تازة. أحسست بشعور غريب وأنا على القطار. هدوء ونفحات من نسيم رياح تأتيني كلما اقتربت من نافذة القطار. أحب أن أستنشق هذا الهواء. كنت وحيدا لا أكلم أحدا. أخذت كتابا كنت أحمله هو للشاعر والكاتب محمد بنيس اسمه شطحات لمنتصف النهار، قرأته سابقا أكثر من مرة. تصفحت بعض الصفحات القليلة بسرعة، يحكي فيها محمد بنيس ألمه مع السفر، حيث كان قادما من مدينة فاس إلى مدينة المحمدية صحبة زوجته أمامه. يتحدث عن السفر بطريقة شعرية عجيبة. أغلقت الكتاب وفتحت حاسوبي المحمول كما جرت العادة أن أفعل قبل نومي، قرأت بعض الرسائل التي وصلتني في بريدي الإليكتروني، ثم تصفحت بعض الجرائد الإليكترونية وبعض المواقع التي تخص المجموعات المعطلة في شوارع الرباط. الوقت يمر بسرعة وأنت تشتغل على الحاسوب. أغلقت حاسوبي وقمت بجولة بسيطة في القطار، حيث جميع المسافرين نيام، إلا قلة قليلة. بالصدفة التقيت بأحد الزملاء. كنا ندرس معا في أيام الثانوية بمدينة سلا. تبادلنا الحديث بشكل مطول عن فترة الدراسة الثانوية والجامعية أيضا. هو الآن يشتغل أستاذ اللغة العربية بالجهة الجنوبية، حدثني عن مشاكل التعليم في المغرب وعن الإكراهات الحقيقية التي تصادف رجل التعليم، وحدثته أيضا عن الوضعية المزرية لأبناء الشعب المعطلين حاملي الشواهد العليا بالرباط، طبعا لم يكن مترددا في التعاطف مع هذه النخبة المثقفة وأخبرني هو نفسه بمستجدات الملف وكأنه واحد من الأطر المعطلة المتواجدة بالرباط. وطبعا كان مصدره هو الجرائد الوطنية، خصوصا وأن الجرائد هذه الأيام تتحدث في صفحاتها عن المعطلين بشكل مستمر. لم أكن أريد أن أتحدث في هذا الموضوع، لذلك فضلت أن أسأله عن أحواله الشخصية والارتباط العائلي. ابتسم وقدم لي زوجته التي تجلس بجانبه وقال لي تزوجنا مند سنة تقريبا، فرحت لهذا الخبر وهنأتهما معا. بجرأة كبيرة قال لي " الله أسهل عليك وتكمل دينك حتى انت"، ابتسمت في وجهه وقلت له الإدماج في الوظيفة العمومية أولا. ودعته وأتممت المسير في القطار وأنا أحمل حاسوبي وكتابي، وجدت بعض المقاعد فارغة فنمت لبعض الوقت. كنت في مدينة تازة على الساعة الخامسة صباحا، وتوجهت إلى المنزل مباشرة، أخذت قسطا قليلا من النوم ثم استيقظت. وجدت بعض أفراد العائلة في المنزل والبعض الآخر في البادية، حيث كانت بعض المناسبات الاحتفالية هناك. كنت متشوقا لزيارة البادية لذلك قررت الذهاب إليها صحبة باقي أفراد العائلة في اليوم الموالي. وبقيت هناك لمدة أسبوع. أشياء عجيبة في هذه البادية كل شيء يختلف عما يوجد في الرباطالمدينةوتازةالمدينة. مناظر طبيعية خلابة وجو ربيعي هادئ ونقي، لا وجود في هذه البادية لمشاكل الدنيا، كل سكانها يعيشون ببساطة كبيرة وبسعادة لا تنتهي. عائلتي الصغيرة هناك كانت سعيدة جدا بقدومنا وبقدوم مولود جديد لأخي الأكبر. وأنا شخصيا كنت سعيدا بهذا الصغير الذي أسميته أنا سعد نسبة لأحد زملائي المعطلين، وأخبرت صديقي بذلك بعد عودتي إلى الرباط. وأنا في هذه القرية الجميلة كنت أحاول أن أتناسى مشكل العطالة الملعونة ولكن ذلك لم يكن ممكنا، أصدقائي في الرباط كانوا يهاتفونني من وقت لآخر ليخبروني بمستجدات الملف خصوصا وأن هذا الملف يعرف تحولات عديدة بين ليلة وأخرى. ملامح وجهي كانت تتغير عندما أفكر في مشكل العطالة فكانت أمي الحبيبية تحس بألمي في صمتها ولا تريد أن تشعرني بالنقص وأنا وسط هذه الجموع من العائلة. أبي العزيز لا يحس بشيء هو مريض مند أيام طويلة، يرقض على فراش الموت لا يحدث أحدا. زاد ألمي وأنا أرى أبي في هذه الحالة الصعبة، زوجة أخي هي التي تتكلف بمأكله ومشربه وملبسه وأيضا بنقائه. وأنا تمنعني العطالة الملعونة من أن أقوم بهذا الدور الذي هو من واجبي أنا. قضيت خمسة أيام في هذه القرية، كنت أحس أحيانا بغبطة كبيرة وأحيانا أخرى بألم قاس. كلما اقترب موعد العودة إلى مدينة الرباط زاد ألمي لأني سأفارق أبي وأمي وربما لن أراهما فيما بعد. وفي صبيحة يوم الخميس قررت العودة من جديد إلى الرباط وكان ألم العودة كبيرا. قبلت أبي دون أن يقول لي أي شيء سوى أن سقطت من على عينيه دموع ببرودة كبيرة، وتركته في فراشه كما وجدته. أما أمي ساعدتني في حمل بعض حقائبي إلى الخارج ودعتها هي أيضا بقبلات حنونة، فقالت لي بصوت خافت "الله يردي عليك وإسهل عليك أولدي" أبكيتها وأبكتني، لتنتهي رحلتي إلى قريتي وتبدأ معاناتي من جديد كمعطل في شوارع الرباط الملعونة، على أمل أن تنتهي هذه المعانات قبل الخامس عشر من ماي وهو الموعد الذي وعدنا فيه كمعطلين بتسوية ملفنا العادل والمشروع وهو الإدماج في الوظيفة العمومية بطريقة مباشرة وشاملة وفورية.