هل تعتبر الكتابة على الجدران وبداخل المراحيض العمومية دفاتر مفتوحة للمجانين? أم أنها مجالات لتفريغ مكبوتات المراهقين? أم هي ملاذ لاحتماء المقموعين والمحرومين? أم أنها وسائل لانتقام الجبناء والكائدين؟ وهل الكتابة على الجدران موهبة? أم تعبير عن رفض لواقع معين? أم هي وسيلة سهلة للثأر؟وهل هي وجه من أوجه التعبير الفني؟ لا تكاد تمر من شارع دون أن تثير انتباهك عبارات مكتوبة على الجدران، قد تختلف طبيعتها ومدى كثافة كلماتها، إلا أن القاسم المشترك بينها هو بعثها رسالة، تختلف هي الأخرى في مضامينها ما بين آهات المغرمين والمحبين، والناصحين المرشدين، الذين تكاد عباراتهم تكشف عن مستواهم المعرفي والثقافي، وما بين الكلام النابي البذيء الذي يكشف عن نفوس مصابة بمرض الجبن فتتستر خلف سطور كلمات على الجدران وبالمراحيض العمومية، لتنفث فيها جام غضبها وحقدها على من تخشى مواجهتهم، كما قد تصبح الجدران, وخاصة منها واجهات المؤسسات الرسمية، منابر سياسية لتصريف خطاب جهات متطرفة أو سياسية، لاعتقادها أن ذلك هو المكان الأمثل لتوجيه رسائلها لمن يهمهم الأمر أو لكونها لا تتوفر على إمكانية التعبير بحرية عن أفكارها. ظاهرة مجتمعية والكتابة والرسم, سواء على الجدران المكشوفة على الهواء الطلق أو بداخل الفصول الدراسية وخلف أبواب المراحيض العمومية وعلى جذوع الأشجار، تصبح ظاهرة مجتمعية تعبر عن رغبة لدى أصحابها في التعبير عنها، إنْ بغرض السخرية والهزل فقط أو من أجل بعث رسالة قد تكون جدية أحيانا عندما يتعلق الأمر بقضية سياسية مثلا، أو أنها تصبح تعبيرا عن الحاجة إلى تخليد شيء ما أو حدث ما، أو إشراك الآخر في ذلك سواء كان معلوما أو غير معلوم، كما يرى ذلك, الباحث في علم الاجتماع السياسي، رشيد بكاج. وعندما يخط أحد على الجدران فإنما يكون ذلك نتيجة انفعال نفسي، بحسب ما يراه علماء الاجتماع، الغرض منه هو إما لفت انتباه الآخرين لفعل شيء أو الامتناع عنه، أو التعبير عن شعور كامن بالداخل قد يكون حسنا كمن يتذكر اسم حبيب، أو قد يكون سيئا كمن يسب شخصا ويسيء إليه بكلام حاقد وبذيء بغرض النيل منه، كما قد يكون الغرض من خلال الكتابة على الجدران هو بعث خطاب ذي حمولة ثقافية أو سياسية لدى فرد أو جماعة، من أجل استقطاب أتباع أو لفت اهتمام المسؤولين. ظاهرة حديثة في الثقافة العربية وللكتابة والرسم والنقش على الجدران، كظاهرة، دلالات في المجتمع المعاصر تبرز من خلال الرغبة في التعبير، وبرزت بالخصوص في الثلاثينيات من القرن الماضي، بحسب الباحث بكاج، عندما اتخذتها النازية وسيلة فعالة لتمرير خطاباتها السياسية. لكن بالعودة إلى الكتابة على الجدران في التاريخ العربي، فإن المهتمين يرون أن الظاهرة حديثة، على الرغم من أنها تعود إلى قديم الأزمان حيث كان الإنسان البدائي ينقش لغاته التواصلية على الصخور معبرا عن آماله وآلامه المختلفة. وقد أورد المؤرخون مقولة «مكتوب على الجدران»، التي جاء ذكرها في التوراة، والتي تعني «انقضى الأمر»، ليستنتجوا أن الكتابة على الجدران ضاربة جذورها في التاريخ، تماما كما عند الرومان أيضا الذين نقشوا كثيرا على آثارهم مختلف قصصهم وأخبارهم، لكن عند العرب يعود أول حديث عن الكتابة على الصخر، إلى ما نُقل عن رواية السيرة الشعبية «الزير سالم»، حيث كُتب على صخرة بدم كليب كلام يحض الزير على الثأر من قاتليه. رسائل سذج.. وسياسة! يكفي تفحص واجهة أحد الجدران لتكتشف مزيجا من القواميس المختلفة، التي امتزجت في ما بينها لتعبر عن رغبات مختلفة لأنماط عدة من الأشخاص منهم الساذج ومنهم من يبدو ذا قدر من التعليم, كما منهم من يبدو كأنه أحمق؛ فتقرأ عبارات أحدهم يكشف فيها عن شعوره إزاء حبيب أو فريق رياضي أو فنان، كما يمكنك أن تجد كلاما نابيا ينم عن حقد دفين أو رغبة في انتقام من أشخاص بعينهم، وقد تجد أيضا رسائل سياسية موجهة إلى سياسيين أو إلى ذوي القرار في بلد معين، كما تلفت انتباهك أحيانا صور خليعة خادشة للذوق العام أو عبارات آمرة تنهى عن فعل شيء أو الأمر بفعله في مكان معين، كمن ينهون عن التبول على جدران والتي غالبا ما تأتي بأسلوب ركيك وانفعالي ككتابة «ممنوع رمي الأزبال.. أو ممنوع التبول هنا..يا حمار»، مما يعني الرغبة في إيصال رسالة لطالما تم تبليغها، هذا بالإضافة إلى أن الجدران، وخاصة بفضاءات المراحيض العمومية، قد تتحول أحيانا إلى أجندات ملأى بالأرقام الهاتفية التي تكون في الغالب مرفوقة بأسماء لعاهرات أو لشواذ جنسيا، كما قد تكون الأرقام الهاتفية وُضعت بغرض الانتقام من أشخاص وتشويه سمعتهم، بحسب شهادات تم استقاؤها. هي فن كذلك! وتختلف ردود فعل الناس، في عصرنا الحالي، حول ظاهرة الكتابة على الجدران ما بين رافض ومؤيد لمثل هذه التصرفات والسلوكات التي يصفها البعض بالمرضية, بينما البعض الآخر لا يرى فيها سوى وسيلة تعبير عن رأي؛ حيث يذهب الفريق الأول إلى أن غياب التربية السليمة لدى شباب أي مجتمع مهما كان، تكون هي السبب في إقدام الأشخاص على مثل هذه التصرفات، هذا بالإضافة إلى أن هناك عوامل أخرى تساهم إلى حد كبير في اعتبار الكتابة والرسم على الجدران عوالم غير مراقبة لتفريغ الكبت لدى شرائح واسعة من الشباب، خاصة في ظل غياب مؤسسات اجتماعية قادرة على استقطاب هؤلاء، خاصة منهم ذوو المستوى التعليمي المحدود أو المنعدم، يقول أحد الشباب الذي أكد على التماس العُذر لمثل هؤلاء الذين يجدون ملاذهم في الجدران للتعبير عن مختلف أحاسيسهم، رغم أنه أشار إلى أن قصور المجتمع في مجال الإنصات إلى مختلف متطلبات الشباب، لا يمكن اتخاذه كذريعة للإخلال بالحياء العام، من خلال العبارات والصور البذيئة في الشوارع. إلا أن الفريق الثاني، ومن خلال تصريحات مختلفة ل«المساء»، اعتبر أن ظاهرة الرسوم والكتابة على الجدران تنم في غالب الأحيان عن مواهب متفتقة لأشخاص لم تتح لهم الإمكانيات للتعبير عما يجيش بخواطرهم من أفكار، والتي تأتي أحيانا في شكل خطوط ورسوم يمكن إدخالها ضمن فن «الكرافيتي»، وهو الفن الذي يحمل قيمة جمالية ذات معنى نبيل من خلال إيحاءات تحيل الناظر أو القارئ على نبل رسالة صاحبها، كما يرى ذلك أيضا الباحث في علم الاجتماع السياسي، رشيد بكاج، الذي أثارت الرسومات والخطوط على واجهات محلات «الحرايفية» وبالأماكن العامة، فضوله الأكاديمي فأبى إلا أن يخصص لها دراسة علمية يرصد فيها مختلف تجليات تلك اللوحات الفنية الجميلة، بحسبه، والتي تؤثث فضاءات الهواء الطلق، مما يجعل المسؤولين أمام أمر واقع يحتاج إلى كبير اهتمام من أجل صقل مثل هذه المواهب، التي قد تنتج بحق لوحات فنية وجمالية ذات أبعاد «استيتيقية»، ليصبح بذلك هذا النوع من الإدمان على التخطيط والرسم في الجدران شكلا من أشكال التعبير الحر غير المقيد بضيق المساحة أو الوصاية مهما كان نوعها أو مصدرها. بكاج: الكتابة والرسم على الجدران قد تتخذ أبعادا فنية وجمالية يرى الباحث في علم الاجتماع السياسي، رشيد بكاج، أن ظاهرة الكتابة والرسم على الجدران سببها هو الحاجة إلى تخليد شيء ما أو حدث ما أو إشراك الآخر في ذلك، سواء كان معلوما أو غير معلوم، وهي ظاهرة قديمة تناولتها الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية وكشفت عن أهميتها عند الإنسان منذ زمن بعيد؛ حيث نقلت الكتابة والرموز أو رسوم واقع وآمال ومعاناة الإنسان في تلك الأزمان ارتباطا بالتنظيمات الإنسانية التي كان يعيش فيها، وكذا بالمحيط البيئي الذي عاش فيه. لكن هل لهذه الطرق التعبيرية علاقة بالطبيعة الاجتماعية لدى الإنسان؟ يتساءل الباحث الجامعي، الذي أجاب بأن المكون الاجتماعي لدى الإنسان هو شيء مكتسب وليس طبيعيا، وليس صحيحا قول «الإنسان اجتماعي بطبعه»، لأن الإنسان لا يولد كذلك وإنما يتعلم كيف يكون اجتماعيا، ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار أن هذا الشكل من الكتابة، هو حالة من حالات الوجود الاجتماعي للإنسان على المستويين الفردي والجماعي. ولذلك نجد أن هناك مجموعة من المجالات المختلفة كالتاريخ والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها، لازالت تتخذ من موضوع الكتابة خارج مجال الورق موضوعا لها؛ وبالمجتمعات العربية ومنها المجتمع المغربي بالخصوص فلازالت الظاهرة لم تتطور شكلا وأسلوبا وأداء، وربما يعود ذلك إلى خصائص الواقع الاجتماعي والسياسي المغربي والعربي الذي لا يسمح بذلك ويعتبره من الممنوعات في سياق الوصاية على حرية التعبير والتفكير، بخلاف الحركات العنصرية مثلا بإسرائيل التي نشطت على مستوى الكتابة على جدران بيوت الفلسطينيين. ويضيف الباحث الجامعي أن للكتابة على الجدران خصائص متنوعة تتجلى أساسا في طريقة تناول المواضيع؛ حيث تعتمد بساطة الخطاب التي يرجى منها الانتشار الواسع للمعلومة، وعلى التقنية كاستعمال الصباغة والنقش أو استعمال الفحم. ومن دواعي الكتابة على الجدران التعبير عن الحاجة الملحة للتواصل قصد خلق حالة انفعالية أو عاطفية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نقل معلومة تتعلق بانتصار أو تمرير خطاب سياسي أو التعبير عن رفض. وبالنسبة إلى المغرب فإن الظاهرة غير حاضرة بنفس القوة التي هي عليها في بلدان أوروبية، ربما لاعتبار الظاهرة سلبية وتؤثر سلبا على المجتمع، ولذلك فقد ظل هذا النوع من الكتابة محدودا لأسباب لها علاقة بحرية التعبير، وكذلك بسبب توجه الشباب إلى ميولات أخرى كالتعبير باللغة الدارجة من خلال تظاهرات فنية من قبيل «نايضة» و«كازا بولفار». إلا أن الكتابة على الجدران، يخلص الباحث الجامعي، رشيد بكاج، قد تحمل أوجها فنية وجمالية «استيتيقية»، ومهما يكن فإن الكتابة أو الرسم على الجدران تبقى شكلا من أشكال التعبير الحر قيد المقيد..