على بعد 50 كلم من حاضرة قبائل صنهاجة السراير: "تاركيست"، وعبر طريق ليست كسائر طرق المملكة، ترقد جماعة "بني أحمد إموكزن" في صمت بين سفوح جبال الريف. جماعة قروية كباقي جماعات الريف العميق والمغرب الغير النافع، اختار سكانها البالغ عددهم 10 آلاف نسمة الاستقرار بها رغم قساوة الطبيعة ووعورة التضاريس، مستأنسين بجمال الطبيعة الأخاذ وارتباطهم الوثيق بأرض أجدادهم، وببساطة العيش، وبشيء يسمونه الرضا بما قسمه الله لهم. جماعة "بني أحمد إموكزن" الصنهاجية جماعة تعيش خارج التاريخ، فالزمن لم يتوقف بها فقط، بل عاد سنوات وسنوات إلى الوراء، كما أنها تعيش خارج الجغرافيا، لأن الدولة هنا قدمت استقالتها حتى من المسالك الطرقية بين الدواوير أنجزها السكان بسواعدهم وبإمكاناتهم المتواضعة. ومن فرط خجلها توارت عن الناس وارتأت أن تستقر بعيدا عن اهتمامات المركز وخارج انشغالاته. تجلس معانقة شجر الأرز واللوز، مثقلة بذاكرة تاريخية مشرقة لم تجد طريقها إلى كتب التاريخ، كما لم يجد شهداؤها الذين سقطوا في معارك بطولية مكانا لهم في أرشيف الذاكرة الجماعية وصفحات كتب المقاومة. تحكي للعابر آخر معاركها بجبال الريف بعد استسلام عبد الكريم الخطابي بنواحي تاركيست في 26 ماي 1926 ، حيث لا يزال واد "الكزار" يردد صدى دوي الطلقات وتكبيرات المجاهدين، كما لو أن الأمر كان بالأمس فقط.. ولا يزال تذكار "ثهالا ألموسطاريس" الذي بناه الأسبان تخليدا لقائد السرية الإسبانية في المنطقة الذي لقي حتفه هو وجنوده هناك، وتحول فيما بعد إلى عين ماء لا يزال يشهد على انكسار شوكة المستعمر وبطولة مجاهدي المنطقة الذين وقفوا سدا منيعا أمام القوات الغازية. لسنا نتحدث عن إحدى المدن الأفغانية أو الليبية التي خرجت لتوها من حرب أنهكت الشجر والحجر والبشر، فهي الجوهرة التي استحقت لقب "طورا بورا الريف" عن جدارة. فالحياة بها أشبه بحياة الإنسان البدائي، البساطة والبدائية والهشاشة هي كل ما يميز هذه الجماعة. حتى الأقسام الابتدائية التابعة لمجموعة مدارس بني أحمد إموكزن مهددة بالانهيار، ومشروع الإعدادية جمد لسنوات لحسابات ضيقة لأطراف سياسية بالجماعة. ولن تستغرب إن أطلعك سكان المنطقة أن من بين 10 ألاف نسمة فتاة واحدة هي من تتوفر على شهادة الباكالوريا. "فما زال أبناء المنطقة يضطرون للتنقل إلى بني بونصار أو تاركيست لإتمام الدراسة في ظل غياب إعدادية وهو ما يجعلهم ينقطعون بسرعة، أما الفتيات فلا يتجاوزن قسم السادس ابتدائي" يقول الفاعل الجمعوي إلياس أعراب وأحد أبناء المنطقة. الجماعة لم تسلم من تآمر المفسدين ولا مبالاة المركز فقط، بل كانت ضحية تآمر الطبيعة التي تجعلها تعيش عزلة تستمر لأسابيع في فصل الشتاء، وتطردهم إلى منازلهم مدحورين، وهم الذين كانوا بالأمس يقفون شامخين كشموخ جبل "تيدغين" أعلى قمة بجبال الريف مدافعين عن حرمة الأرض من دنس أقدام الغاصبين. هنا بصنهاجة الريف أو ببلاد الكيف يتبدد وهم الثراء والغنى الفاحش الذي يعيشه أهله، هنا تنكسر الأحلام و الصور النمطية على صخرة الواقع، فلا وجود للفيلات و العمارات والسيارات الرباعية الدفع إلا في مخيلة بعض المغاربة. هنا لا تجد سوى الأكواخ ومنازل مشيدة من تراب وقصدير، ودواب رباعية الأرجل، ورائحة مياه الصرف الصحي التي تزكم الأنوف، فاختيار السكان لهذه الزراعة لم يكن أبدا من باب البحث عن الغنى، فالجميع هنا بالكاد يضمن ما قوت عيشه، فهنا يرقد أحفاد المرابطين في سجن فسيح بتهم ثقيلة تخص زراعة الكيف و الإتجار في المخدرات. يا لسخرية القدر! من وقفوا يوما على أبواب الأندلس حاملين أرواحهم في كفهم و البندقية على أكتافهم صاروا اليوم عبيدا عند بارونات المخدرات وأجهزة الأمن والسياسيين، يبتزونهم و يسرقون قوت يومهم بل وأصبحوا دمى في أيديهم يحركونها كيفما شاءوا. نبتة الكيف لم تخدر متعاطيها ببني أحمد ومنطقة صنهاجة ككل، بل جعلت من مزارعيها وساكنتها قططا ودودة ومطيعة تقرأ في عيون أطفالها قصص المعاناة ومواطنة من الدرجة الرابعة، وتلامس في تقاسيم وجوه عجائزها الشعور بالأسى و الحرمان. فالخوف هي اللغة الوحيدة التي تتكلمها العيون هنا رغم ما تحاول أن تخفيه ابتسامة الأمل لديهم. الربيع الصنهاجي ينطلق من "بني أحمد إموكزن" هكذا كانت الحياة بالجماعة، وهكذا كان يجب أن تستمر...لكن يد الله تعمل في الخفاء. فحتى قبل احتجاجات تاركيست وبني جميل، وآخرها كتامة وإساكن، وحتى قبل أن تنطلق حركة 20 فبراير سنة 2011 ،ففي 15 أكتوبر من سنة 2010 عندما كان نساء جماعة "بني أحمد إموكزن" اللواتي تعودن حياة الشقاء يتحسسن نور العلم ويهتدين بنوره في إحدى أقسام محاربة الأمية بعد يوم متعب وشاق،ع مد رئيسهن قطع التيار الكهربائي عن حجرة التدريس لسبب لا يعلمه إلا هو، لتلجأ المستفيدات من برنامج محو الأمية إليه طالبات راغبات في إعادة التيار الكهربائي للحجرة لعله ينير حياة أميتهن بنور حروف يتهجينها بصعوبة، ولضمان حقهن في التعلم وحلمهن في التمدرس الذي حرمن منه أيام طفولتهن، وكسرته أعراف القبيلة والشقاء داخل البيت وخارجه، لكن الرئيس كان له رأي آخر. قام بطردهن بعد أن زحفن إلى مكتبه ذليلات متوسلات ليكون ذلك الطرد الشرارة الأولى التي أشعلت احتجاجات جماعة "بني أحمد إموكزن" التي دشنها نساء الجماعة بوقفة احتجاجية أولى كانت صباح يوم الجمعة 22 أكتوبر من سنة 2010 . كان شكلا احتجاجيا فريدا، اصطفت فيه النساء بانتظام بينما حملت فيه مناضلة غير مصنفة "نجاة أعراب" مكبر الصوت لتخطب في النساء والرجال بلغة حماسية مؤثرة، وبكلمات بسيطة تحمل من الفصاحة والبلاغة ما يأسر القلوب، فكلماتها الممتزجة بحرقة الظلم ومرارة الواقع كانت كافية لشحذ الهمم و لإيقاظ الغافلين، وكانت كالنور الذي يهتدى به في الظلام القاتم. وما هي سوى مسألة أيام حتى هبت رياح الربيع الصنهاجي الأمازيغي، فكسر شباب الجماعة حاجز الخوف ليعلنوا انتفاضتهم ضد رئيس جماعتهم، وليخرجوا رافعين في وجهه شعار "ارحل" ملتحفين أعلام وطن تنكر لهم بعد الاستقلال. "مسلسل الاحتجاجات الأسبوعية التي أبدع فيها شباب بني احمد استمر إلى أوائل يناير 2012" يقول محمد بن يحي أحد متزعمي الحراك وعضو جمعية صنهاجة الريف، ويضيف: "مطالبنا كانت تتلخص في بناء إعدادية، وإيفاد لجان من المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للإدارة الترابية للتحقيق والتدقيق في ملفات جماعة أنهكها الفساد، وتنفيذ الحكم القضائي الذي صدر من المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 22 يونيو 2009 تحت رقم 912 ملف عدد 2009/10/222 يقضي بعدم أهلية الرئيس لترأس المكتب المسير بحكم أنه لا يتوفر على أي مؤهل دراسي يسمح له بذلك ومطالب أخرى تتعلق بحقنا الدستوري في التنمية ومختلف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية". الاحتجاجات التي أطلقتها النساء بالجماعة، وقادها الشباب وانخرط فيها الأطفال والشيوخ، واستمرت لسنتين دفعت الرئيس إلى التغيب عن الجماعة لما يزيد عن 6 أشهر، بل أرغمته على نقل دورات المجلس ومختلف الاجتماعات إلى مقر جماعة بني بونصار المجاورة. فالاحتجاجات ببلاد الكيف لم تكن يوما متوقعة وحتى إن بدأت نيرانها فسرعان ما يتم إخمادها، وهذا ما لم يحصل مع احتجاجات بني أحمد رغم المحاولات المتكررة. مسلسل الاحتجاجات ما كان ليقف بتخريب حجرة تدريس تابعة لجمعية لمحاربة الأمية أخرجت الناس من كهوف الأمية و العبودية الاختيارية، فقد كان لابد من وسيلة لتهديد السكان وثنيهم عن التظاهر و محاولة ترويضهم و تخويفهم وترهيبهم. وما هي إلا شهور حتى بدأت الشكايات المجهولة والكيدية التي بلغ عددها أزيد من 24 شكاية تتقاطر على مصالح الدرك الملكي ضد متزعمي الحراك من الشباب بل وحتى من النساء بتهم تتعلق بزراعة الكيف. ورغم ذلك لم تفلح جيوب الفساد في إخماد الحركة الاحتجاجية، لتلجأ يوم 10 من شهر غشت 2011 إلى أساليب أخرى أكثر ترهيبا، حيث دفعت بمجموعة من البلطجية مدججين بالهراوات لاعتراض إحدى المظاهرات وشرعوا في سب المتظاهرين وتهديدهم، بل كانت هناك تهديدات للبعض بالتصفية الجسدية، ومع ذلك استمرت الاحتجاجات ولم يستطع أحد النيل منها. فالشيء الوحيد الذي نال من الاحتجاجات الأسبوعية ومن نفسية المتظاهرين وعزيمتهم هو الوقت وعدم اهتمام السلطة ولا مبالاة المركز بمطالبهم، ليفقد الجميع الأمل ويسلموا أمرهم لله وللأقدار. معركتهم ضد الفساد وضد التهميش لم تكن كمثيلاتها مع المستعمر، لكن مع ذلك فالاحتجاجات عجلت بتنفيذ الحكم القضائي الذي كان من المفروض أن يفعل قبل ثلاث سنوات، لكن مع ذلك شاءت الأقدار أن يتم إعادة انتخاب نفس الرئيس للمرة الثانية بعد إدلائه بشهادة مدرسية . "معايير الديمقراطية ببلاد الكيف ليست كمثيلاتها بباقي جماعات المغرب، فانتخاب الرئيس يخضع لمعادلة العصا والجزرة، كما أن ورقة زراعة الكيف تكون حاضرة بقوة وتجعل العديد من المستشارين يصوتون رغما عنهم وضدا على إرادتهم وإرادة من انتخبوهم خوفا من شكايات كيدية تزج بهم وبأقربائهم في السجن، ويوم انتخاب المكتب كانوا يستحضرون جيدا كيف تم اعتقال أحد المستشارين المعارضين بسبب شكاية كيدية" يشرح محمد بن يحيي. بشائر التغيير .. تحقيقات ثم عزل ومتابعة بعدما سلم جميع المتظاهرين أمرهم لله، وعادوا إلى منازلهم مدحورين، بعد إن ابتلعوا بمرارة خسارتهم لمعركة التغيير، وهم الذين كسروا شوكة المستعمر، وتركوه جثثا متناثرة بالوديان، حملت الجريدة الرسمية خبرا سارا لهم حيث نشرت في عددها 6207 ل 25 نونبر 2013، مرسوم عزل رئيس جماعة بني أحمد إموكزان بدائرة تارجيست، أحمد المنصوري، والذي صدر في 9 أكتوبر المنصرم، الموافق ل 3 ذي الحجة 1434 تحت رقم 2.13.814. وذلك بعد توالي تحقيقات كل من لجنة إقليمية أواخر شهر ماي 2012 ، وبعدها لجنة من الداخلية شهر غشت 2012 في عملية توظيف أربعة أفراد وصفها الناشط محمد بن يحيى والذي سبق له وراسل وزير الداخلية في الموضوع بأنها مشبوهة، ومرت دون احترام للمساطر القانونية المعمول بها.ليتم بعدها توقيف الموظفين الجدد بقرار من الوالي السابق أيدته المحكمة الإدارية بفاس شهر مارس 2014 ومثول رئيس الجماعة أمام قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالحسيمة بتاريخ : 30/01/2014. لكن مع ذلك أبدى العديد من شباب المنطقة توجسهم من تعامل القضاء مع الملف، حيث عبر الناشط محمد بن يحيى المتضرر من عملية التوظيف المشبوهة "عن خوفه من طي الملف بطريقة او بأخرى ،فالملف يعرف بطئا شديدا "يقول بن يحيى الذي سبق واستمعت له الشرطة في الموضوع ليضيف:" الرئيس لا زال يتحكم في المكتب المسير، وتم تعيينه كاتبا للمجلس ضدا على القانون رغم عزله ومنعه من تولي أي مهمة داخل المكتب المسير" على حد قوله.