عندما بدأت نشاطي المهني في " المشعل"، كنت أمارسه في ظل مراعاة تامة لمبدأ الاحترام المتبادل بيني وبين زملائي ممن شاركوني مهنة المتاعب، وحين ألمت بالزميل إدريس شحتان "مصيبة " السجن، ظل هذا الأخير وفيا لالتزاماته معي، والحجة في ذلك، الاستمرار في التحويل البنكي لأجرتي الشهرية، كان هذا على الأقل مكسبا جيدا ، رغم أنني رفقة زميل عزيز آخر، كنا نحضر إلى مقر الجريدة في غياب تام للجرائد اليومية و الأسبوعيات التي كنا نتوصل بها باستمرار، فحتى الإنارة أصبحنا نُطالَب بالتقليل من استهلاكها، أما استعمال الهاتف فحدث ولا حرج (...) غير انه ومنذ شهرين، لم أعد أتوصل بأجرتي الشهرية، رغم كل الوعود التي أتلقاها بشكل مستمر عبر الهاتف من زميلي القابع حاليا في سجن عكاشة بالدارالبيضاء، على خلفية ملف يتعلق بنشر أخبار زائفة عن صحة جلالة الملك محمد السادس. حين قرر الزميل شحتان التخلي بجرة قلم عن بقية الزملاء الصحافيين و التقنيين، قلت له والتاريخ شاهد على ما دار بيننا آنذاك، إنني أفضل أن أغادر رفقة زملائي على أن أضع نفسي في موقف حرج لا ينسجم مع مبادئي وقناعاتي، أو أن أسير مع مرور الوقت نحو مرحلة، سيكون فيها القرار بيد جهة ستضع حتما الجميع كالرهائن لديها، جهة تدفع بزميل للشهادة ضد زميل آخر. بعد اقتياد الزميل شحتان بتاريخ 15 أكتوبر 2009 إلى السجن، أضحى الحضور بشكل يومي إلى مقر "المشعل " يشبه إلى حد كبير الحضور الصارم إلى ثكنة ، لكن لا يهم ، فالتزاما مني بعملي ووفاء لمهنيتي والسمعة التي اكتسبتها من خلال ربع قرن من الممارسة، و التي اعتبرها وساما يشرفني وشهادة عليا افتخر بها، كنت احضر باستمرار رغم كثرة السؤال عن ساعات الدخول والخروج، وهذا مثبت في ورقة الحضور، ومقابل هذا الالتزام، حين كنت أطالب بحق متفق عليه ومكفول قانونيا كالأجرة الشهرية مثلا ، اسمع تارة، كلاما معسولا وتارة أخرى أعذارا ما انزل الله بها من سلطان ، فكل مرة يُطلب مني الانتظار حتى يتم استخلاص "شيك " ما وحين أُحضر هذا الشيك أو ذاك – وهذا عمل بسيط من الأعمال التي كنت أقوم بها مادامت "المشعل " متوقفة عن الصدور - لا اعرف أين تصرف قيمته ومن الجهة المستفيدة منه !!؟( لقد تم خلال شهر ابريل استخلاص شيكين من الشيكات التي كنت اعتقد أنها ستكون بمثابة الاحتياط الاستراتيجي الحقيقي لإعادة صدور المشعل). وبالرغم من كل ذلك، فأنا أتضامن مع زميلي في محنته، لكن المنطق يفرض أن يتضامن معي زميلي في محنتي ، تضامنا بالكلام الصادق وليس بالانتقام ولغة التسويف و المماطلة و الانقلابات، فأنا بدوري لدي التزامات أسرية وعائلية ، ويعرف زميلي شحتان الذي أسست معه رفقة زملاء خيرين " المشعل "، بسهر الليالي الطوال والمشي على الأقدام لكيلومترات والاتصال بالأصدقاء و المعارف للاستفادة من صفحات اشهارية لا تعد ولا تحصى (...)، يعرف زميلي أنني لا املك أموالا تتجاوز 100 مليون مكدسة في حساب سري بالبنك ، وليست لدي سيارة رباعية الدفع من نوع " الهامر " (المطرقة) ،أو لدي فيلا أو شقة أو شقتان في ملكيتي أو ملكية غيري، فانا الذي لم أتوصل لمدة شهرين باجرتي ، بعت سيارتي القديمة و المهترئة ، وغارق حتى الإذنين في الديون ، اقلها سلف صغير حصلت عليه من البنك لمواجهة ظروف صحية، سلف ستنتهي مدة تسديده بعد مرور ثلاث سنوات من الآن؛ وما احمد الله عليه كثيرا، أنني رغم ذلك لم أصب بمرض نفساني أو بداء السكري. لقد آمنت دائما بأن الكتابة الصحافية اختيار وهاجس فكري، لا يسعى صاحبه إلى امتلاك المال الزائد عن مصاريف الطبع والتوزيع، أوصرف أجرة من يكدون ويعرقون تعبا لتقديم منتوج إعلامي جيد للقراء ... ، لم تكن يوما الصحافة – وهذا من وجهة نظري - بوابة للتفكير في فتح مصنع للخياطة أو مطعم أو مقهى ، فهدفي دوما كان هو وضع الأذان على نبضات قلب عامة الناس ، للإنصات لهمومهم ولإبعاد قدر الامكان الجور و الظلم عنهم وحمايتهم من النصابين والمشعوذين...، ولم يكن همي أبدا مراكمة الثروة التي تأكل في النهاية أصحابها، وتجعل من الذي تعب عليها أول ضحاياها . لم يخني حدسي مطلقا ، ففي يناير الماضي استشعرت الخطر القادم، وذلك حين قررت زوجة زميلي - التي تعمل الآن كمديرة مالية مفوضة لشركة " المشعل " الجديدة، وهذا مثبت في وثيقة لدى إحدى المؤسسات وبحضور مدير نشر ومدير وكالة دولية للتصوير وكذا في جل وثائق المعاملات الحالية - قررت إيقاف أجرتي التي كنت أتوصل بها أوتوماتيكيا من البنك ، قلت حينها لزميلي شحتان عبر الهاتف لثلاث مرات، إنني أفضل الانسحاب في هدوء، وأعدك وعد الشرفاء، أنني سأستأنف العمل معك ، حين تنتهي فترة العقوبة الحبسية المحددة من طرف القضاء في سنة سجنا نافذة، لكنه رفض اقتراحي، وحجته في ذلك، انه لا يريد إعدام " المشعل "، إذ أن تواجد صحافي أو اثنين في المقر بشكل يومي، قد يعطي الانطباع للآخرين، بأننا ما زلنا متشبثين بذلك الخيط الرفيع ..؛ فهل الاستمرار في الحضور و بتحرير مقالات بشكل دوري ومحصور في شخصين أو ثلاثة، سيثبت للعالم أن "المشعل " لن تعدم ، إن الاستمرار الحقيقي ل" المشعل " هو عدم المشاركة في إعدام الصحافيين والتقنيين بشكل مسترسل و مدروس، فهل من الأخلاق و الشهامة أن تؤدي مقاولة إعلامية جل مصاريفها، بما فيها مصاريف الأصول والفروع ، وحتى أجرة حارس العمارة والسائق و المبتدئ و المتدربة ، ويبقى الصحافي بدون أجرة ؟ فهل معنى ذلك أن الصحافي خلق ليعمل إلى ما لانهاية ك " مناضل " أو رهينة مغلوب على أمره فاقد للحركة ولا قدرة له على اتخاذ القرارات الصائبة؟. إن أزيد من خمس سنوات التي قضيتها ب" المشعل "، كانت رائعة على مستويات عدة، فكل الأشخاص الذين مروا من " المشعل "، على اختلاف مستوياتهم ، كانوا يحملون معهم تجاربهم الخاصة، وهي التجارب التي أغنت هذا المنبر، رغم سوء الفهم الكبير الذي كان بين كل هؤلاء الأشخاص، خاصة فيما يتعلق باختيار الأغلفة و الملفات و العناوين والافتتاحيات والضيوف...هؤلاء الأشخاص الصادقون رغم العمر القصير ل"المشعل "، يشتغلون اليوم بكفاءة ومهنية ومسؤولية كصحافيين وغير صحافيين ، منهم من ادمجوا في قناة رياضية، وفاز واحد منهم لم يدرس الصحافة بجائزة متميزة للإعلام ، وآخرون يمارسون في أسبوعيات و يوميات متعددة ... فمنذ اليوم الذي طرقت فيه باب " المشعل "، كنت دائما افعل الشيء الصحيح، رغم أن ذلك جعل البعض ممتنا والبعض الأخر حاقدا و حاسدا، فلم أكن يوما متملقا أو متمسحا، و الكلام لشرح هذا كثير، لن تكفي لحصره رحلة على القدمين من الدارالبيضاء إلى أعلى جبل من جبال هذا الوطن الجميل، و خير ما اختم به هذا الجرد المتواضع للأسباب التي قد تدفعني لمغادرة "المشعل "، أو اللجوء إلى القضاء، قوله تعالى في محكم تنزيله " وعند ربكم تختصمون ". *الحامل لبطاقة الصحافة المهنية رقم 639