يأساً من التغيير، كثيرا ما يراودني إحساس فظيع بخواء المعنى. في كلّ مرةٍ تتحفّز الكلمات في داخلي مُنذرةً بالرجة الكبرى، فتندفعُ مني مُستعدةً لتثير وتفجّر وتستفز وتُرعب وتهزّ الآخرين، لكنها حين تنطلقُ أماماً تصطدم باللاشيء فتتلاشى، وفي أروع الحالات تلتصق بالعابرين عرَضاً ولا بها بعد ذلك يأبهون. لهذا السبب أفكر أحيانا في التوقف تماما والخلود للصمت لأن الأمر واضح جدا: ليس من الحكمة مواصلةُ توبيخِ الجثث بعدما تعفّنت. كنتُ قبل هذا اليوم أمتلئ يقينا بأني واحد ممن اختارهم التاريخُ لمهمة مُثلى يصنعون بها لهذه الأمة منعطفا جديدا وحاسما. كنتُ أرى في مهمتي رجاءَ الملايين من البسطاء والفقراء والمحرومين، وكنتُ أراني السيفَ الذي ظل يتطلع إليه الثوار والمناضلون والحالمون بالتغيير... فلم أتردد لحظة في الانحياز إلى ضمير خوّاف؛ يخاف من الله ويخاف على الوطن. لم تتلعثم منذ ابتدأتُ المهمةَ خطواتي وأنا أتقدّم نحو مغارات اللصوص وأنفاق الفاسدين. وكم كدتُ أبكي مثل طفلٍ منتشياً بالوصول إلى من ظنوا يوما أن الوصول إليهم مستحيلٌ ظناً مني أني أنجزتُ المستحيل. وماذا بعد؟ لا شيء، لا تغيير. لقد عانيتُ كثيرا كي أسوّد آلاف الإشارات عن مجرمين محترمين بأسماء عائلية محترمة نهبوا وسرقوا وما زالوا يواصلون جرائمهم، ومجرمين تابوا مرغمين ولكنهم ما زالوا يستمتعون بغنائمهم دون وخزة ضمير كأنهم لم يسرقوا وكأني لم أكشف سرقاتهم. هاهم يسخرون مني ويقرعون أنخاب الشماتة فيّ، ولا أرضى. كم أكره ومضة التحدي الخسيسة التي تشع من عيونهم إذ ينظرون إليّ وأنا أحمل إذْنَ محاسبتهم ولا أملك سلطةَ معاقبتهم! كم أشعر بحقارة ما فعلتُ وما كتبتُ حين أراهم يقرأون كلامي عنهم ويقهقهون! كنتُ أتوقع أن أراهم يخجلون مما فعلوا ويعتذرون، أو يعيدون للشعب ما سرقوا من الشعب، ويهربون. فلماذا لم ينتفض أنصار الفقراء ليشعلوا النار في الأصابع التي تسللت إلى أموال الفقراء فاختلستها وبددتها؟ أيةُ قوة يمتلكها المفسدون أكبر من قوة القانون وسلطة الدولة وغضبة الشعب؟ لا أريد أن أفقد كل أمل في التغيير، لأني لا أريد أن أيأس من قدرتنا جميعا على التغيير. أو قدرتكم أنتم تحديدا؛ أنتم أيها العقلاء الحكماء الرابضون خلف المكاتب والميكروفونات. بين أيديكم كتابٌ أسود سطرتُه عن لصوص الوطن، فرجاءً لا تهملوه. يمكنكم به أن تنظفوا مؤسساتنا وشوارعنا وحياتنا منهم. صدقوني، إنهم ليسوا كما تظنون. إنهم مجرد بشر كانوا يوما مثلنا وبمكرهم وصمتنا تجبّروا فصرنا نخافهم. هم بشر بأحجام طبيعية وليسوا ماردين يمكنهم أن يقطعوا رأس ألف رجل بضربة كف واحدة كما في الأساطير. فقط، عليكم أن تؤمنوا بقدرتكم على التغيير، وتهتفوا بصوت واحد: نعم نستطيع. أما أنا فأعترف: أبدا لا أستطيع. [email protected]