الأمة فكرة جيو سياسية في الحقيقة إن الامة فكرة جيوسياسية بل انها المفهوم الجيو سياسي الجوهري. ذلك ان الامر بالنسبة لكل امة ا ساسا هو مسألة سلطات، استقلال، لغة، وتراب. أعتقد ان تأملا من نوع جيو سياسي يساعد على التطرق بطريقة جديدة نسبيا لمشاكل الامة. فهمها بشكل افضل، إفهامها على نحو افضل. غير ان محاولات اخرى مثل مساعي المؤرخين، علماء الاجتماع و المشتغلين بالمجال السياسي، ستكون ضرورية، من جهة اخرى ليس كل شيء يدور حول الرهانات السياسية لفكرة الامة. ثمة كذلك اكراهات اقتصادية، مالية ونقدية جسيمة. في الواقع ان البدايات الخجولة لظهور «كلمة» جيو سياسي ترجع الى اعوام ليست بالطويلة جدا. وقد ظهرت الكلمة على صفحات الجرائد باستعمال من طرف الصحفيين. وقد كان لهؤلاء دور مهم في نشر الكلمة واعطوها ضمنيا مدلولات جد متنوعة تبعا للحالات التي كان عليهم التعليق عليها. نفس الشيء كان كذلك منذ مايزيد عن خمسين سنة بخصوص كلمات مثل «التخلف» و «العالم الثالث» التي عرفتا نجاحا مهما واصبحتا مفاهيم علمية الي حد ما، وهذا بفضل اعمال وسجالات علماء الاقتصاد، علما ء الاجتماع علماء الدراسات السكانية، مؤرخين وجغرافيين. واذا كانت مشاكل الامة قد خضعت لتعامل الحرب الباردة، فانها اليوم تتصور في سياق جيو سياسي اخر، وبالتالي ضمن حالة نفسية مغايرة سيبدء ظهور مفهوم »الجيو سياسية« خلال حرب فيتنام، لكن بشكل غير واضح، حتى بعد ان انتهت الحرب في 1975 لكن في 1979/1978 خلال نزاع الفيتنام كامبودج بدأت كلمة جيو سياسي تظهر في الصحافة - جريدة لوموند - لقد اقترنت الجيو سياسية بالتراب والامة في ذهن الصحفيين. جيو سياسي، اذا اختصار كلمة «جغرافيا» يشير بدقة الي التراب، فاننا نستغرب من استعمال كلمة سياسة التي تحيل بالطبع الى مشاكل الحاضرة والي دور المواطنين. بيد انه بواسطة الحرب تعالج الخصومات الترابية بين الدول. غير ان الجغرافيين الالمان اضطروا الى خلق تعبير جيو حربية جغرافية الحرب - او «جيو استراتيجية» فقد كتب كلوزويتر: «ليست الحرب غير جزء من العلائق السياسية بدعم من وسائل اخرى» كتاب (عن الحرب اخيرا) 1882 بيد انه داخل امة - باستثناء ما اذا تعلق الامر بالمأساة المروعة اجماعا. وهي الحرب الاهلية - فا ن ماهو مبين قبيل السياسة بين المواطنين يختلف تماما عن الحرب التي يخوضها هؤلاءضد عدو يعتبر اجنبيا (مثلا استعملت كلمة «الجيو سياسية» في 1918 من طرف الجغرافيين الالمان في سياق حربي. وتم نبذ استعمالها في بداية الحرب الباردة لانها اعتبرت ذات جوهر نازي لكنها عادت خلال حرب فيتنام الكامبودج، نزاع العراق / ايران، الحرب اسرائيل/ العرب، حرب لبنان. حرب افغانستان الخ. هكذا اصبحت كلمة «جيو سياسية» بفضل الصحفيين تعبيرا عن روح العصر. و بدت - بالتباس الى حد ما كطريقة جديدة لتحليل النزاعات وذلك باعطاء اهمية كبرى للخرائط، للرهانات الترابية وللمنافسات المحلية على السلطة. وكذلك للايديولوجيات والمواجهة الكبرى كونيا للثنائية الرأسمالية / الشيوعية، في فترة معينة من التاريخ الحديث. في ماذا تعتبر الامة فكرة جيو سياسية؟ في حين انه في اغلب الحالات تستعمل كلمة «جيو سياسي» للاشارة الى نزاع، منافسة على السلطة في تراب معين - وهو ما يفترض وجود على الاقل متنازعين اليس من التعسف استعمال هذا النعت لتمييز الفكرة التي نكونها عن امة. من المؤكد ان بامكان امة ان تكون معنية بعلاقة جيو سياسية مع دول الجوار - مثل الدولة التي تنتمي اليها - وبقدر ما يكون هذا النزاع مؤثرا، بقدر ما يتم التعبير عن الشعور الوطني، الى حد ان الامر يأخذ في بعض الحالات اشكالا قصوى. لكن هل بامكان فكرة الامة نفسها ان تعتبر جوهريا كجيوسياسية؟ في ماذا تشكل طريقة النظر هذه تقدما في التأمل بخصوص الامة؟ الامة، الوطن، التشعب والبلاد تستمد اسباب نجاح تعبير« جيو سياسي» داخل الرأي العام منذ بداية الثمانينات اقل من التعبير عن نزاعات مما يستمد من ابراز رهانات ترابية محددة المكان اساسا، في مواجهة اقليمية لا في منافسة ايديولوجية و سياسية ذات مدى كوني تقريبا. فالذي اعطى نجاحا للجيو سياسية هو الاحالة الى تراب والى الرهانات التي تمثلها، وهذا ما اعطته كجديد لفكرة الامة. في الواقع ان التعريفات المعتادة للامة لا تحيل البتة الى تراب، وبصفة خاصة الى ترابها، في كثير من التعريفات تم تغييب هذا الأخير بصفة تامة، في تعريفه للامة يقول ايرنيست رونان: «تعتبر امة تضامنا كبيرا، تتشكل بواسطة الشعور بالتضحيات التي قدمناها وبالتضحيات التي نحن مستعدون للقيام بها ثانية. الامة تفترض وجود ماض، انها تتلخص مع ذلك في الحاضر بواسطة امر ملموس: الموافقة الجماعية، الرغبة المعبر عنها بوضوح في استمرار الحياة المشتركة». في هذا التعريف ليس هناك تلميح الى تراب او الى لغة. لا تعني الاشارة الى اواصر الامة وترابها، انني احاول ان اعتبر الامة كنوع من الاحساس الجيو سياسي من الوعي المجالي من روح الامكنة من انبثاق متولد من ارض ليس فقط ان الامة فكرة جيوسياسية - الشيء الذي لا ينقص من طابعها التاريخي، بل بالعكس - انها المفهوم الجيو سياسي الجوهري. في الواقع انه من اجل الدفاع او استعادة او تحرير جزء من التراب الوطني دخلت الدولة / الامة، بل كذلك الامة وان هي منزوعة من دولة لانها لم تكن بعد مستقلة، دخلتا في حروب بطولية، فظيعة ومدمرة في الحقيقة. لكن رهاناتهما الرمزية - الاستقلال والحرية - تتجاوز بكثير المصلحة الاقتصادية للمناطق الترابية، موضع النزاع في جانب المقارنات الجيو سياسية، ما الفرق بين شعب وامة؟ «مرحلة» تسبق مرحلة الامة. في الواقع ان المسار السياسي للشعوب المستعمرة في وقت ما داخل العالم الثالث، يكشف ان تلك التي كان غزوها - من طرف الاوربيين - سهلا نسبيا، وكانت تمثل خصوصيات شعب، توقفت السيطرة عليها - بعد فترة طويلة او قصيرة الى حد ما ، ذلك ان فكرة الاستقلال شاعت بالنظر لمتغيرات مختلفة: اصبحت فعلا امما. من جانبي اقول إنه بخصوص المسار التاريخي، بالنسبة لنفس المجموعة من الساكنة المتحدثة تقريبا بنفس اللغة والمتواجدة فوق نفس التراب، فإن الفرق الذي يمكن القيام به بين الفترة التي كانت فيها «تلك المجموعة شعبا» والفترة التي «اصبحت فيها امة»، يستمد اساسا من ظهور وانتشار فكرة الاستقلال. ليس من غير المفيد ان نتأمل في معنى هذه الكلمات: الامة، الوطن، الشعب، البلاد، يمكننا البدء بالمدلول الاكثر ابتذالا (في الواقع، الاكثر تبخيسا) الذي نعطيه اليوم في الغالب لكلمة «امة». ساكنة دولة، الامة اذن مجموع «سكان نفس البلاد». نحن نعرف ان كلمة «بلاد» تستعمل منذ امد طويل تفضيلا وإيثارا على كلمة «دولة» التي لها مفهوم سياسي. الامة في تغيير آخر هي «جميع سكان نفس الدولة، نفس البلاد الذين يعيشون خاضعين لنفس القوانين ويستعملون نفس اللغة». من الصعب جدا التمييز بين مصطلح «شعب» عن اصطلاح «امة»، ذلك انهما غالبا مرتبطان كمرادفين كما ان معناهما متشابك. اليوم نجد ان «امة» «شعب»، «بلاد»، «وطن» كلمات محملة بقيم وبمدلولات متشابكة، في بعض البلدان اصبحت كلمة «امة» التعبير الرسمي، في حين ان كلمة «وطن» محملة بمشاعر واحاسيس. الامة فكرة بسيطة تحليلها ضروري ان النقاش حول الامة نقاش لافكار ولا يختزل في ارقام للاقتصاد. يتوجب على الخبراء، الاقتصاديين او السياسيين، الذين يتداولون على نحو مفصل بخصوص بطلان الامة ان ينتبهوا الى ان كلامهم يبدو شائنا او خاليا من أي معنى، فالمشكل الاساسي الذي يثير فكرة الامة هو مشكل علائقها مع الدولة. فهذا التكتم يترك جانبا المسألة الجيوسياسية الرئيسية، أي ما يتعلق بالامم بدون دولة، وهي في الواقع مسألة استقلال الامة، من ثم تستمد قوة فكرة الامة بالفعل من كون الناس كافحوا من أجل الدفاع او انتزاع الاستقلال. اذن ليست الامة فكرة بسيطة، بإمكانها ان تبدو جد خطيرة، لكن من الاخطر، في بعض الحالات الجيوسياسية، ان تتجاهلها او ان ننكرها «الامة» مجموعة قارة، مكونة تاريخيا، خلقت علي اساس وحدة لغة، تراب، حياة اقتصادية، تشكل نفسي يترجم في وحدة للثقافة». صاحب هذا التعريف هو استالين، الذي كتبه في 1913 (الماركسية والمسألة الوطنية). في هذا التعريف لايوجد أي مفهوم سياسي اطلاقا. بيد انه سيكون مفاجئا من دون شك، بل شائنا، الاحالة الى استالين، الذي يعتبر بالاجماع رمزا، اذا لم يكن المسؤول الرئيسي عن افظع طابع استبدادي للنظام الاشتراكي المزعوم، غير أن هذا التعريف يعتبر تعبيرا عن أحد التأملات الجدية النادرة المتعلقة بالامة. أهمية هذا التعريف هي انه ظاهريا بدون خلفية سياسية. لهذا يظل التعريف الذي اعطاه استالين للامة - بالنظر للمظهر العملي لهذا التعريف ولنزعته الكلاسيكية - مهما نظرا للاهتمام الذي اولاه له شيوعيو جميع البلدان، وهذا رغم كون فكرة الامة تسير ظاهريا في تعاكس مع نظرية صراع الطبقات. بعودتنا الى تعريفات «الامة» نجد ان ثمة تعبيرات تمثل: «مجموعة من الناس تفترض فيهم اصلا مشتركا، مجموعة بشرية واسعة بصفة عامة تتميز بالوعي بوحدتها (التاريخية، الاجتماعية، الثقافية وبإرادة حياة مشتركة، مجموعة بشرية تشكل وحدة سياسية قائمة فوق تراب محدد او مجموعة تراب محدد ومجسد بواسطة سلطة سيادية». لايعني تجسيد او شخصنة الامة ان هذه الاخيرة هي من قبيل المخيال فقط. يتعلق الامر في المعنى المبدئي ب «تمثلات» و«تماهيات» الى عهد قريب كان يتم الحديث - في العلوم الاجتماعية، كما في العلوم الانسانية، عن «البنية» . كان يقال انه لم يكن ينبغي التشبث بالمظاهر الملتبسة والمتحركة للظواهر الاجتماعية، بل بالاحرى ببنياتها المتسترة. وكان الفلاسفة، الانطروبولوجيون، علماء الاجتماع، الباحثون الاقتصاديون الخ، الذين كانوا جميعا الى حد ما «بنيويين»، يزعمون انهم يكشفون بنية او بنيات المجتمع. لنعد الآن الى الامة، الى فكرة الامة، يجب ان نعتبرها هي ايضا كتمثل، بل كتمثل حيث يكون الدور السياسي اساسيا. لكن يجب ان ننتبه الى شيء: ان القول بأن فكرة الامة هي تمثل، لايعني انها ماهي الا وهم مفروض من طرف بعض الانظمة. فالفكرة (او الافكار) التي تكونها عن الامة هي بالطبع محملة الى حد ما بقيم عاطفية، لكن الامة لاتتعلق فقط بالمخيال، بل انها تحال بوضوح الى ما يمكن ان نسميه «واقعا»: تراب، جهاز دولة، رجال ونساء، بدأ اسلافهم تدريجيا في التحدث بنفس اللغة. لكن فكرة الامة هي كذلك تمثل للعلائق التي تقيمها مع هذا «الواقع». من المهم ان نجعل من الامة تحليلا جيو سياسيا، لذلك من اجل جعل مسار فكرة الامة تصبح مفهومة بشكل افضل، فمن المهم جعل المواطنين يميزون بين الامة والدولة، لانهم يخلطون بين فهم الكلمتين، ولأن الامة ليست فكرة بسيطة ويمكن ان تبدو خطيرة، فإنه يتوجب تحليلها بتأن، بالاخذ في الاعتبار مختلف التصورات التي يمكن تكونها عنها، والشروط الجيوسياسية للحاضر وللماضي. هامش: (1) كتاب Vive la nation لإيف لاكوست ص 340 .