منذ هجمات 11 شتنبر 2001 تصاعدت الدعوات على منصات التلفزيون في البرامج الإذاعية والملتقيات من كل نوع، وظهر نموذج جديد من الفاعلين، خبراء في الخوف يستمدون مشروعيتهم من أرضية أمنية تتناقض دون تبصر مع لا وعي الباحثين. وبتهميش كلمة المتخصصين في الظاهرة الإسلامية (الإسلاموجيون) وعلماء الاجتماع والسياسة، استطاع هؤلاء الخبراء الجدد في الجغرافية السياسية فرض أنفسهم كمراجع في مادة الإسلام والحركات الإسلامية، متلاعبين فوق ازدواجية المنزلة بين المنزلتين: مستشار الأمير والباحث العلمي. أخطر من ذلك حصولهم أحيانا على دعم غير منتظر من بعض الباحثين والجامعيين (ميشيل تريبالا- ب. أ. طاغييف- س. تريغانو. إلخ..) الذين فضلوا تحليلات أمنية، باسم الاستنكار المشترك للأخطار الأصولية، وأداروا ظهرهم لكل الأدبيات المهنية، سواء في مناهج التحقيق أو طرق تحليل المعطيات. الاستعلامات والبحث العلمي هكذا تتشكل ملامح تواطؤ مقلق تمنح ورقة الدخول -باسم معركة مشتركة ضد الإسلامية واليهودوفوبيا- لمؤلفين يحيط الغموض بمصادر معلوماتهم. وخليط الأنواع هذا (خبرات، أوساط استعلاماتية وبحث علمي) يسهم بلا شك في ترقية وتطبيع الإسلاموفوبيا الجديدة التي تروج لإيديولوجيا الشك تحت زخرف من المظهر العلمي وواقعية الخبرة. ماهو أكثر إشكالا في هذا الجيل الجديد من الخبراء الأمنيين، وما يسجل قطيعة واضحة جدا مع الإسلاموفوبيا الأبوية والاستعمارية، هو بدون شك حالة ديل فال. ألكسندر ديل فال واسمه الحقيقي مارك دانا المنتمي للدوائر الغامضة لليمين الجديد (...) بنى لنفسه سمعة حقيقية في الحقل الإعلامي، وبالأحرى لدى القادة السياسيين والحزبيين (وكان ضمن لائحة رشيد كاسي في مؤتمر التجمع من أجل الجمهورية بقاعة لوبورجيه نونبر 2002) ولا تشكل سيرته شيئا كبيرا بالنسبة للمحلل الاجتماعي إلا إذا وضعت في سياق أكثر عمومية: تطبيع كراهية الأجانب داخل المجتمع الفرنسي، خلال السنوات الخمس عشر السابقة، ونشرها خاصة في الأوساط الاستعلاماتية والأمنية، وفي أوساط أخرى، هي -ويا للدهشة والمفاجأة الأوساط العلمية. عندما نشر ديل فال سنة 1997 أول كتاب له الإسلامية والولاياتالمتحدة، تحالف ضد أوروبا (في دار لاج دولوم لوزان 1997) كان ما يزال كاتبا منكرا من لدن وسائل الإعلام والجمهور الكبير: في كتابه المذكور دافع عن أطروحة تقاطع المصالح بين الولاياتالمتحدة والمنظمات الإسلامية العالمية، معتبرا أنه الهدف المشترك هو القضاء المبرم على الأمم الأوروبية، ولا يتأسى التحالف الجديد فوق المصالح الاستراتيجية فحسب (كشن الحرب على أوروبا)، ولكنه ينبني أيضا على تقارب عقدي بين البروتستانتية والحركات الإسلامية وهما إيديولوجيتان مضادتان للوطنية: يقول في هذا الصدد: الحضارتان الإسلامية والأمريكية المتطهرة تقومان معا على الاستئصال النهائي للثقافات القديمة السابقة لهما استئصال مبرر بعقيدة موجود في كتاب يعتبر هو كل شيء: القرآن بالنسبة لفرسان الله الجدد والإنجيل بالنسبة للبروتستانت البيض الأنجلوساكسون الذين يتحكمون حاليا في المجتمع الأمريكي، الحديث (...) من وجهة نظر تاريخية، تميل دائما إلى نسيان أن الحضارتين الإسلامية والبروتستانية عبرتا عن مناهضتهما لأوروبا، وأنهما تسعيان كل على طريقتها لاستئصال التراث الأصلي لشعوب القارة العتيقة (الكتاب السالف ص 257). إسلاموفوبيا ديل فال تنسجم بكل سهولة مع أمريكفوبيا باطنية ظهر أنها ستحكم عليه نهائيا بالتهميش الإعلامي والتأليفي، غير أنه في ,1997 سوف نرقب تقرب الكاتب من أوساط الخبراء العسكريين ذوي الاتجاه السيادي، الذين يتقاسمون كراهية أمريكا واحتقار الإسلام، وتوجهات مائلة للصرب، إذ أنجز ديل فال سلكا جامعيا ثالثا حول الاستراتيجيا والدفاع مرافقا بهذا العمل عددا من المتخصصين والخبراء في القضايا العسكرية: ولا نتعجب إذا رأينا عمل آنا (...) ينبثق من النظريات التي تدرس في قلب إدارة الاستعلامات العسكرية حول دور الولاياتالمتحدة ومساندتها للحركات الإسلامية الخ (روي مونزار، المسار العجيب لديل فال ص 11) . ومن جهة أخرى فمنشورات لاج دولوم حيث ينشر هؤلاء المؤلفون كتبهم الجيو سياسية، يديرها الصربي فلاديمير ديمتريتريفتش، ولها مقرها المركزي في لوزان بسويسرا، ولكن لهم أيضا مقر في صربيا، ومنشورات لاج دولوم هي نفسها التي نشرت في 1999 ترجمة مؤلف ابن الوراق (اسم مستعار) لماذا لست مسلما؟، حيث شرح الكاتب الأمريكي ذو الأصول الهندية الباكستانية أسباب إنكاره القاطع لدين أسرته، وهذا الإنكار للإسلام لم يكن فيه شيء مثير في ذاته، بقدر ما أن المثير هو تحول ذلك إلى إسلاموفوبيا في خدمة الأوساط الأمنية: لقد نشأت في أسرة مسلمة، وكبرت في بلد يفتخر بكونه جمهورية إسلامية، أبي وأمي يريدان أن يبقيا مسلمين، البعض يختار الأرثوذكسية وآخرون أقل من ذلك (...) وما أن أصبحت قادرا على التمييز الذاتي حتى رميت كل العقائد الدينية التي تجرعتها على أيديهم.... كتابات عسكرية ومن بين الكتاب الآخرين (المفضلين لدى منشورات برو-صرب الجنرال بيير ماري غالو الذي كتب تقديم أول كتاب لدو ديل فال. وقبل ذلك بسنتين كان الجنرال الفرنسي نفسه قد نشر كتابا بنغمات إسلاموفوبية تحت عنوان شمس الله تعمي الغرب محرضا الأمم الأوروبية على الوقوف في وجه الخطر الإسلامي. وهذا الموقف المتخذ أدى بفال إلى مساندة نظام صدام حسين الذي كان يظهر في تلك الآونة على أنه أحسن سد بالمنطقة ضد الإسلام السياسي. وظهر هنا أن العربفولوبيا العزيزة على المتمسكين بالديغولية، يمكن أن تتزاوج بدقة مع خطاب إسلاموفوبي. في عام ,2002 نشر الناشر الأول ل ديل فال ضمن نفس المجموعة دوافع جيوسياسية مؤلفا لم تبق فيه الإسلاموفوفيا خفية بل أصبحت عدوانية: فرنسا تحت خطر الإسلام وانحاز مؤلف الكتاب روني مارشان إلى الحل الجذري للقضية المسلمة: تهجير كل المسلمين إلى دولهم الأصلية. يقول مثلا ما لا يفكر فيه اليوم الكثيرون، هو عودة المسلمين المستقرين بفرنسا والرافضين للتفرنس إلى ديار الإسلام، أقولها بكل هدوء: هذه العودة إما أنها ستكون أو أن فرنسا ستتوقف عن الوجود. وحتى إذا لم تقع هذه العالية (كلمة يهودية تعني العودة وهذا ما يظهر وجود كراهية اليهود وكراهية المسلمين معا لدى هؤلاء) فلابد من إعداد العدة لها. الاستراتيجية تعني أيضا فن إعداد غير المفكر فيه (روني مارشان، فرنسا تحت خطر الإسلام، بين الجهاد وإعادة الفتح لوزان لاج دولوم سلسلة دوافع جيوسياسية 2002). وأعجب من كل هذا، هو المساندة التي تلقاها ديل فال من بعض الدوائر الإعلامية، إذ قام جان بيير بيرونس هوغوز -صحافي من جريدة لوموند- بكتابة خاتمة لكتابه الأول المذكور سلفا (ص 321 324). كان هذا الصحافي مراسلا لليومية الفرنسية بالجزائر العاصمة وبالقاهرة، وكان مسؤولا عن عمود فرنكوفوني من عام 1982 إلى عام ,1997 ويتقاسم ديل فال رفض أمريكا الغازية وخاصة هاجس أسلمة العالم: ولابد من الإشارة إلى أن تعبير إسلاميريكا اشتقته بيرونس هوغوز، تعبير يعكس تقارب شكلين من أشكال التوسع العالمي: التمدد الأمريكي والجهاد الإسلامي). وللرجلين معركة موحدة أخرى هي الدفاع المستميت عن الأقليات المسيحية في العالم العربي، التي يتم تقديمها على أنها ضحية قهر الاغلبية المسلمة. تلميع إعلامي وفي سنة ,1983 وقبل التحليلات الكارثية ديل فال، ج.ب. ميروتسيل هوغوز، في كتابه عوامة محمد، أكد بنبرة مخوفة، أن الخلل الديمغرافي الذي يتقوى في الحوض المتوسط لفائدة الضفة الجنوبية، يمكن أن يجعل نظرية عودة الإسلام القوية إلى أوروبا في القرن القادم شيئا ممكنا. (ص 46). وعندما نشر ديل فال كتابه الثاني الشمولية الإسلامية يهدد الديمقراطيات (منشورات سيريت باريس 2002)، أصبح يعتبر خبيرا معروفا ومعترفا به، مستفيدا من دعم عدد من الهيئات الأمنية والاستعلاماتية أشار إليها في تقديم كتابه الإسلاموية والولاياتالمتحدة: حلف ضد أوروبا ص 1)، ومن دعم منابر إعلامية مهووسة بما هو مثير وحساس. أحداث 11 شتنبر2001 شكلت بالنسبة للكاتب الشاب حدثا نادرا أخرجه من الأوساط المظلمة لليمين الجديد والمنشورات المقربة من الصرب إلى الأماكن الأمامية للمشهد الإعلامي: في بضعة شهور استضافته عشرات البرامج الإذاعية والتلفزية، خاصة LCI، وبصفة أخص القناة العمومية فرانس 5 حيث شارك ست مرات في برنامج إيف كالفي في الهواء، ومسوقا نظرياته الإسلاموفوبية للجمهور العريض.بعد 11 شتنبر، لم تتغير نظريات ديل فال تغييرا جوهريا: طور فيها المحاور الخيالية حول مشاريع غزو العالم عن طريق منظمات إسلامية، مع فارق ظاهر: اختفاء شبه تام لنغمة معاداته لأمريكا وتراجع نظرية المؤامرة العالمية الإسلامية الأمريكية ضد أوروبا. تراجع آخر سجل في الخبير الجيوسياسي: لم تعد إسرائيل كما كانت في كتاباته الأولى قمرا أمريكيا تابعا بالمنطقة وإنما صارت الضحية الأولى للإرهاب الإسلامي. وباغتساله من شكوك معاداة السامية ومناهضة الصهيونية، واستغلالا لسمعته في بعض الأوساط الموالية لإسرائيل واليهود المتطرفين، أذاع ديل فال دون أي عقدة فصاحته الإسلاموفوبية تحت غطاء الخبرة العلمية، ومنح للطبعة الفرنسية ل إسرائيل ماغازين مقابلة صحافية، حيث قدم للقراء على أنه متخصص في الإسلام، وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن الجيوسياسي يتلاعب دوما فوق ازدواجية صورته عن طريق تقديم أسماء وظائفه الجامعية و(أو) الأكاديمية المتعددة، دون أن يكون بالإمكان التأكد من حتميتها. غير أن الصورة الإعلامية الجديدة ل ديل فال لن يمكن تفسيرها باستراتيجية فردية ناجحة فقط، أي أن كاتبا استطاع بكفاءة في شهور قليلة أن يحول إسلاموفوبيته وأمريكفوبيته إلى خبرة أمنية ذات مصداقية عن طريق الأحداث المأساوية ل 11 شتنبر. نجاح أطروحاته يعود بشكل واسع إلى تطور عريض أصاب الخبراء الإعلاميين، وحتى بعض أوساط البحث الجامعي. الانتقام من الإسلامولوجيين المجاملين تهميش الفكر العلمي المتخصص في الظاهرة الإسلامية أدى حتما إلى إشباع إعلامي للخبراء الأمنيين الجيوسياسيين الذين اعتبروا متخصصين معترف بهم في الديانة الإسلامية والأصولية والإرهاب الإسلامي العالمي. ودون أن يكون لهم علاقة وطيدة بالميدان المحلي والأجنبي، يكتفي خبراء الخوف الجدد بالرواسم والكليشيهات والأحكام القبلية والمجالات المشتركة للإسلام والإسلامية، مع تفضيل زائد، للمحظوظين منهم، للحصول على مصادر بوليسية وعسكرية تعطي لأقوالهم مسحة من الخصوصية التي لا يمكن التشكيك فيها. ومن بين هؤلاء الخبراء الجدد في الإسلام والإرهاب الإسلامي يمكن أن نسوق حالة الكاتب أنطوان سفير رئيس تحرير مجلة دفاتر الشرق (لي كاييه دو لوريون- من كتبه الشبكات الإسلاميين بفرنسا وأوروبا: المجرة، منشورات بلون باريس ,1997 والمعجم العالمي للإسلامية، دار بلون باريس 2003)، وأنطوان باسبوس مدير مرصد الدول العربي، والجيوسياسي فريديريك إنسيل الذي يبلور تحليلات أكثر تنوعا من تحليلات ديل فال وكتاب لاج دو لوم، غير أنها تحمل من دون ريب أحكاما خلفية وكليشيهات حول فتيان فرنسا ذوي الثقافة المسلمة وبعض الجمعيات المسلمة (مثل اتحاد المنظمات الإسلامية ورابطة مسلمي فرنسا والتبليغ...). جمعيات ومنظمات تتهمها بأنها مهاد الإرهاب الإسلامي في الضواحي الشعبية(انظر كتابه جيوبوليتيك يوم الفناء، الديمقراطية تحت بلاء الإسلاميين، دار فلاماريون، باريس 2002). مسار ف. إنسيل مضيئة خاصة هذا مجال الغموض الدائم بين البحث الأكاديمي والخبرة الإعلامية. دكتوراه في الجغرافية السياسية من جامعة باريس 8 (له مؤلفات أخرى مثل الجغرافية السياسية لأورشليم، فلاماريون باريس ,2000 والشرق الأوسط بين السلم والحرب، جغرافية سياسية للجولان فلاماريون باريس ,20001 وفن الحرب بالمثال فلاماريون باريس 2002)، ف. إنسيل لم ينحدر من اليمين المتطرف او من اليمين الحاكم، ولكنه يندرج في التيار الوطني الجمهوري لليسار، ضمن محيط أستاذه إيف لاكوست. ومنذ سنوات قليلة، تعلق هذا الأخير باستنكار مساوئ الإسلام السياسي في العالم العربي ومخاطر العدوى في قلب المجتمع الفرنسي. المسار الفكري لإيف لاكوست بعض منشطي المجلة الجيوسياسية هيرودوت - نشرة جامعية ذات صى تحريري جيد- رمزي يحمل شعارات التيار العالمثالثي والإنساني، الذي يفقد كل معنى للتمييز عندما يتحدث عن الإسلام والأصولية المسلمة، منزلقا في بعض الأحيان نحو الترويع والتهويل الدرامي. وفي عام 1996 سبق لأب الجغرافية السياسية الفرنسية أن بلور نظرية تشكيل الغيتوهات المسلمة في ضواحي المهاجرين حيث يستغل الإسلاميون الوضع لزعزعة استقرار الأمة كلها: غير أن المناضلين الإسلاميين يجتهدون في أسلمة بعض الأحياء بالضواحي، بحثا عن توحيد وتنظيم مسلمين موجودين هناك من جنسيات مختلفة، باسم الإسلام والمسلمين، ولكن يضيفون إلى ذلك تجميع المعتنقين الجدد ودفعهم نحو العيش في أماكن خاصة. وهذه الاستراتيجية يمكن أن تؤدي إلى تشكيل غيتوهات منسجمة تحت دين واحد شبيهة بأحياء اليهود القديمة إلا أن هذه الأحياء الجديدة مسلمة... في مثل هذه الدوامة يمكن ان تنفجر المظاهرات العنيفة، بطريقة عفوية أو مقصودة لأن غالبيتها وزعماءها من المسلمين القادرين على تجميع عشرات الألوف من الأشخاص بالمناطق ذات الكثافة السكنية العالية بالضواحي أو في قلب المدن الكبرى كما هو الحال في مارسيليا. (انظر مقال إيف لاكوست مخاطر جيوسياسية بفرنسا هيرودوت، العدد الفصلي الأول 1996ص 1614). حسن السرات