شاءت الأقدار أن تصنع منه وزيرا ينتعش كلما سمع كلمة "معالي" أو "سعادة الوزير" عوض كلمة "الزميل" التي لازمته قرابة عقد من الزمن، عندما كان مديرا مساعدا ومدير تحرير جريدة "ليبراسيون" لسان حزب الاتحاد الاشتراكي المفرنس، وعكس المتوقع شاءت رياح الاستوزار أن تجري بما تشتهيه سفنه المحملة بالآمال والأحلام، "الوردية طبعا". فبعد إبحار شاق في عالم الصحافة،بدا كمن يسبح في يم من الحبر الأسود، مستعينا بقلمين للتجديف بغية الوصول إلى الأفق المنحوت بخطوط حمراء متوازية، لكن عاصفة الرياح الشرقية أو الاشتراكية رمت به إلى شط وزارة عجوز تسعى أن تظهر بمظهر فتاة في كامل عذريتها، قيل إنه ولج الوزارة برجله اليمنى حاملا معه جرأة القلم وحيوية الصحافي التي فرضتها عليه مهنة المتاعب، فرغم ضعف الإمكانات المخصصة لقطاع حساس (الشباب) إلا انه عرف كيف يسلط على نفسه الأضواء، خصوصا لما اضطلع على حقيقة وزارة الشباب التي تجعل الداخل إلى أروقتها عجوزا في سن السبعين، فقد قاد حملة تطهيرية داخل دواليب الوزارة، ليحول مكتبه إلى قاعة للتحرير، حتى راجت أخبار من كون وزيرنا أو كاتب الدولة في الشباب، حسب التسمية الرسمية، أنه نقل إلى مكتبه نخبة من أصدقائه وزملائه السابقين كمعاونين ومستشارين في إدارة الوزارة، ولما لا مؤنسين ما دام القطاع شبابيا مائة بالمائة. آمن هذا الشاب بأن لا شيء ينفعه لتحديث قطاع الشباب وإزالة البقع السوداء التي أحدثتها ترسبات الماضي سوى "صابون تازة"، لهذا ابتدع أفكارا جديدة من شأنها أن تعيد للأشياء قيمتها ومن ضمنها "الكتاب" الذي أقسم أن يعيد له هو الآخر زمنه وقيمته، حتى أنه خاطب وناشد الكتب أن تعلن تمردها لتغادر الرفوف التي سجنتها لسنوات طوال، ممهدا لها طريقا آخر، حتما سيؤدي إلى رفوف الوزارة. فبعد سنتين من تولي الملك الراحل الحسن الثاني حكم المغرب، أي في 30 شتنبر 1963، سمعت صرخة محمد الكحص مدوية في سماء تازة مصحوبة بزغاريد حسب العادة المغربية، فقد استطاع هذا الوليد أن يزرع الدفء في صفوف الأسرة التي تعيش في جو تازة البارد آنذاك، ترعرع هناك، وأخذت ملامح الشباب تلتهم براءة طفولته، لكن والديه لم يخطر ببالهما يوما أن ابنهما سيظل شابا مع أنه طرق منتصف عقده الرابع، عيناه الذابلتان، شفتاه المائلتان شيئا ما تخفيان أسنانه البارزة، يهوى تسريح شعره ناحية اليسار تماشيا مع توجهه عندما ولج الاتحاد الاشتراكي أول مرة وعمره 14 سنة، فهو عكس بعض الوزراء الذين تدلت كروشهم بفعل المأكولات الرسمية، إذ رغم تقلده لحقيبة وزارة غير مكتنزة، إلا أن ملامح السمنة لم تظهر عليه بعد، لذا قال أحد معارفه "لو التقى مواطن مغربي وجها لوجه محمد الكحص، وليست لديه عنه أدنى فكرة، فحتما سوف لن يدري أن الذي أمامه وزير يحمل على عاتقه هموم وشغب الشباب"، تناقضت الآراء من حوله، فهو بالنسبة للبعض مجرد إنسان عادي بسيط، مشبع بثقافة التازيين، حتى أن شكله قبل تقلد حقيبة وزارية، يوحي بأن الرجل شعبي حتى النخاع مع ميله للانطوائية. لكن في نفس الوقت يرى فيه البعض الآخر، شابا منفتحا على ثقافة الغرب بحكم تكوينه في أوروبا، فقد تابع محمد الكحص دراسته بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية بجامعة نانسي 2 بفرنسا، ليعرج في اتجاه آخر، سالكا دربا وعرا عنوانه الأبرز "الخبر مقدس والتعليق حر". كانت محطته الموالية بمدرسة الصحافة بستراسبورغ، ليعود إلى المغرب وبحوزته شهادة "الميتريز" في العلوم الاقتصادية ودبلوم الدراسات المعمقة في التسيير وكذا دبلوم الدراسات العليا في الصحافة، مما جعل أبواب جريدة "ليبراسيون" مشرعة أمامه، ليشغل بها منصب مدير التحرير سنة 1993. كما أنه أنجز عدة بحوث، أهمها كان في التدبير الاستراتيجي والعلاقات الأورومغاربية، وبحثا آخر في مجال التسويق السياسي والتيكنولوجيا. تسلق محمد الكحص أدراج الحزب، وأبان عن علو كعبه في عدة مجالات، صرخ واحتج وانسحب وضرب براحته المنصة مثل زميله فتح الله ولعلو، لذا كان لزاما أن يتأثر الشاب بالرواد في الدفاع عن هموم المواطنين، ولما لا الاستوزار مثلهم، حتى قيل إنه في أواخر عهد اليوسفي، كان الكحص يميل إلى كفة أستاذه محمد اليازغي الذي قاد تيارا داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، تاركا عبد الرحمن اليوسفي يسبح في تياره مع الآخرين، لهذا ذهب البعض إلى كون اليازغي هو من مهد الطريق وعبّدها للكحص للمرور بسهولة إلى رحاب الحكومة، خصوصا أنهما تحملا معا مسؤولية إدارة جريدة "ليبيراسيون"، وهناك من الصحافيين من علق ساخرا بقوله إنه لم يكن يتوقع أن يرى الكحص بجلباب أبيض وطربوش المخزن الأحمرء، وسط جموع البرلمانيين في بهو مجلس النواب، وهو نفسه الكحص الذي صرح بكونه يعتبر البذلة الرسمية وربطة العنق جزءا من مهنته، فالصحافة من منظوره الخاص لها تقاليدها وطقوسها شأنها في ذلك شأن المهن الأخرى، وتضيف المسؤولية الرسمية لها نمطية معينة، يجب قبولها، والأمر في غاية البساطة، حيث يمكن القول حسب تعبيره إن هناك مصالحة تاريخية قد وقعت بيني وبين ربطة العنق، لكن هذه الأخيرة ربما خنقت أنفاسه، لما رن هاتفه في ساعة متأخرة بإحدى الليالي الصيفية سنة 2005، ليقف على هول الفاجعة التي راح ضحيتها أطفال في سن الزهور في إحدى المخيمات بمدينة إفران، فقد توفيت عدة فتيات من ضمنهن شقيقتان إثر إهمال بعض الأطر"غير التربوية" للأطفال، الأمر الذي أدى إلى نشوب حريق بإحدى الخيمات ذات اللون الأخضر خلال آخر يوم من المرحلة التخييمية الأولى التي كانت تحت شعار "عطلة بنكهة الحياة"، لكن لهيب الشمعة التي تسببت في الفاجعة امتد ليلا ليمس سعادة الوزير، الذي حسب البعض، انشغل بهاجس الكم على حساب الكيف والجري وراء البحث عن تضخيم الأرقام عوض البحث عن تحقيق الجودة، الأمر الذي أدى إلى ما أدى إليه، حتى أن كتابة الدولة في الشباب آنذاك عاشت وضعا مسبقا خلال تاريخها. فقد ساد في دواليبها، حسب مصادر مطلعة، الفوضى والصراعات بين مختلف هياكل الوزارة، أهمها الصراع الذي دار بين الوزير والكاتب العام، حتى أن الوزير فشل في إزاحة الكاتب العام من منصبه وكذا مدير الشباب والطفولة رغم محاولاته العديدة. في حين ذهب أحدهم إلى كون الكاتب العام يمثل الوزير الأول إدريس جطو المسؤول الأول عن قطاع الشباب داخل كتابة الدولة، مما جعل الأسئلة عالقة تنتظر حلها، إلى درجة تساءل الموظفون عن المسير الحقيقي لكتابة الدولة، هل الكحص، أم التكنوقراطي جطو من خلال الكاتب العام. بعض الاتحاديين يرون في الكحص المهدي المنتظر الذي قد يعيد للحزب أمجاده، خصوصا أن دماءه "الوردية" من شأنها أن تشبب الحزب المهدد بالشيخوخة بالرغم من قاعدته الشبابية الواسعة. أما بعضهم الآخر فيلقبونه بالوزير البوليميكي، لكونه يمتلك بعد نظر خارق، فهو يقضي أوقاتا كثيرة في التأمل، وتأمله ينم عن مخاض عسير داخل وعاء رأسه الذي أخذت فيه بعض الشعيرات سراحها، والمخاض هذا، أنجب عدة مبادرات، من ضمنها، الجامعات الشعبية، العطلة للجميع، زمن الكتاب ومسرح الشباب، غير أن أبواب هذه المشاريع مهددة بالإقفال، خصوصا أن الكحص هو الذي يمتلك مفاتيحها، وبمجرد مغادرته للوزارة، ستصبح عبارة عن انجازات تزخر بها سيرته الذاتية، غير أنه ينفي هذه التكهنات، واصفا إياها بأنها مشاريع وطنية، وسياسة دائمة، مبشرا باستمراريتها في ظل سيادة الوزارة. وصفه البعض أيضا بالمحظوظ، لا لشيء سوى أنه استوزر بعد أول مشاركة له في درب الانتخابات، فقد انتخب في مدينة الدارالبيضاء بتراب عمالة البرونوصي زناتة، ليلج مباشرة إلى عالم الاستوزار، بعد أن عينه الملك محمد السادس كاتبا للدولة في الشباب سنة 2002. المتعاطفون مع الكحص يرون فيه رجل المبادرات وصاحب المواقف الحاسمة، جريء، لا يتنازل عن إبداء فكرته خصوصا عندما يتم استدعاؤه إلى إحدى البرامج التلفزية ولو اقتدى الحال إتمامها في بعض الجرائد، كما يحبون فيه رؤيته المتجددة، مما يضفى عليه لمسة شبابية تلائم تربعه على عرش الوزارة. غير أن منتقديه لهم وجهة نظر أخرى في محمد الكحص، فهو من منظورهم، حداثي أكثر من الحداثيين، لا يترك الفرصة تمر دون أن يوجه نقده للإسلاميين، مثلما حصل في برنامج "بوليميك" في القناة الثانية الذي استضافه إلى جانب لحسن الداودي من حزب العدالة والتنمية على إثر نتائج تعزيز إحدى المؤسسات الأمريكية، التابعة للحزب الجمهوري، ومنهم من وصفه بميدان للمصارعة، ففي داخله يتعارك الوزير والصحافي، لكن من سيحظى في الأخير بإعلان سيادته على شخص الكحص؟ ومع أن الكحص، الذي صرح لإحدى المجلات، أن بإمكان أي شاب مغربي أن يصبح وزيرا، فإنه حتما كان مخطئا، فهناك من يقول إن الوزير الصحفي، انطلق في حكمه هذا من تجربته الشخصية، فهو ينحدر من أسرة تازية فقيرة ويضيف: قد تصح النظرية إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ الرجل، لنقل انه لم يصل إلى مصاف النخبة، إلا لأن المؤسسة الحزبية كانت وراءه، فهو كان قد انخرط في الاتحاد الاشتراكي في سن 14 سنة وأقام بفرنسا لمدة ليست هينة، وأكيد أنه عرف كيف يستغل ذلك التواجد، إذ بمجرد عودته إلى المغرب سنة 1993 انخرط في هيئة التحرير بجريدة "ليبراسيون" الناطقة باسم الحزب، وبعد تسع سنوات من دخوله المغرب، كان بجلبابه وسلهامه الأبيضين في باحة القصر الملكي يقبل يد الملك وهو يقلده مهمة كاتب الدولة في الشباب. كخلاصة للقول فإن الرجل الشاب يعتبر لبنة أساس تنضاف إلى اللبنات التي وضعها الملك محمد السادس لتشبيب القطاع الوزاري، وأحد أهم الصحافيين بالمغرب، غير انه حسب العديد من المتتبعين لمسار الرجل، فإن عسل الوزارة أنساه حلاوة تعتصر من شهد مهنة المتاعب، ومهما يكن فسواء كان تقييم أدائه بين السلب والإيجاب، إلا أنه لا زال حديث العهد في مجال الاستوزار، وما أدراك ما الاستوزار. ""