1- سبق لي أن كتبتُ في مقال سابق، بأن القرآن الكريم كتاب تأمّل وتدبّر وليس مدرّجا موسيقيا لتمرين الحناجر على الغناء! واليوم أعود إلى نفس الموضوع، من زاوية أخرى. فإذا كنت قد تحدثت في المقال السابق (القرآن كتاب تأمل وتدبّر وليس سلما موسيقيا !) عن المقرئين الذين يتلون القرآن فرادى، سأتحدث في هذا المقال عن تلاوة القرآن بشكل جماعي، وهي حالة خاصة لا توجد في بلدان إسلامية كثيرة، حيث ما يزال البعض يعتبرها بدعة لكونها لم تكن موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وتوجد في بلدان أخرى، ومن بينها المغرب، ويعتبرها المغاربة خاصية فريدة يتميزون بها، ولكن هذه الخاصية مع الأسف، إذا أردنا أن نتحدث عنها بقليل من الواقعية، سنجد أنها ربما، تجلب في أحايين كثيرة اللعنات لأصحابها! 2- كيف؟ في القرآن الكريم هناك شرط إجباري يَلزم كل من يرغب في تلاوة القرآن الكريم إن يتحلى به، ويتمثل هذا الشرط، في الترتيل أو التجويد، ويقول الله تعالى بهذا الخصوص: "ورتّل القرآن ترتيلا". سورة :المزّمل، الآية 4. وإذا كانت القراءة الجماعية التي يُتلى بها القرآن في المساجد، عقب صلاتي المغرب والفجر، أو ما يسمّى بتلاوة الحزبين الراتبين لا بأس بها، وإن كانت تعتريها بعض النواقص من ناحية قواعد التلاوة المتعارف عليها، من قبيل عدم الالتزام بالإدغام والإخفاء، فإن هناك قراءة أخرى، ليس لدي أدنى شك في أن الذين يتلون بها القرآن، ينطبق عليهم القول المأثور: "رُبّ قارئ يقرأ القرآن والقرآن يلعنه"! 3- هذه القراءة الجماعية تسمى "تحزّابت"، وتقام بالخصوص في المآتم وفي بعض المواسم الدينية، أشهرها على الإطلاق في المغرب موسم "تعلاّط" في إقليم اشتوكة أيت باها، والذي يقام في شهر مارس، (سيقام موسم هذه السنة يوم الخميس 18 مارس الجاري) حيث يجتمع عشرات المئات من طلبة المدارس العتيقة، ويتلون فيها القرآن جماعات، طيلة يوم الخميس وليلة يوم الجمعة، في أجواء روحانية نادرة، لا يعكّر صفوها سوى أن الطلبة لا يلتزمون باحترام قواعد تلاوة القرآن، ومن ذلك مثلا، أنهم، عند الوقف يطلقون صرخات مدوية، وكأنهم يتابعون مباراة في كرة القدم. وأنا لا أعرف أصلا ما الداعي إلى مثل هذه التصرفات التي لا ضرورة لها، ولا أشك في أن الذين يقومون بها، لم يسبق لهم أن تساءلوا مع أنفسهم عن الداعي إلى تلاوة القرآن بتلك الطريقة الغريبة، وهنا تكمن مشكلتنا العويصة، فنحن لا نفكر بعقولنا أبدا، بل نسير تقريبا بلا تفكير، وفْق مبدأ: "إنا وجدنا عليها آباءنا..." 4- وقبل يومين فقط، كنت في مأتم لتعزية أهل أحد المعارف، وكنت جالسا في القاعة التي يجلس فيها "الطلبة" الذين تم إحضارهم لتلاوة القرآن، وهنا سأقول بأن أكبر مناسبة "كاياكْل فيها القرآن الدّقّ" هي هذه المآتم بالتحديد، أو ما يسمّى ب"السّلْكة"، وممن؟ من حفظة القرآن بأنفسهم! عندما شرع الطلبة الذين كنتُ جالسا وسطهم في تلاوة سورة "يس"، كنت أقرأ معهم، لأن القراءة كانت عادية، وإن كانت لا ترقى إلى درجة التجويد والترتيل كما هو، لكنهم، عندما انتقلوا إلى التلاوة بطريقة "تاحْزّابْتْ" توقّفت عن القراءة وصمتّ، وظللت أنصت إلى تلك الطريقة التي يعلو فيها الصراخ، وتقترب في أحيان أخرى من درجة النهيق، أما المرحلة التي يُتلى فيها القرآن بطريقة أفظع وأبشع، فهي لحظة قراءة "التفريق"، حيث توزع أجزاء من القرآن على الحاضرين، يحتوي كل جزء على خمسة أحزاب يقرأها كل شخص على حدة، وقبل البدء في القراءة، كان أول شيء قمت به هو أنني نظرت إلى ساعة يدي، كي أرى ما هي المدة الزمنية التي سيتلو فيها السادة "الطلبة" خمسة أحزب، وكانت المفاجأة الكبرى أن شخصا كان بجانبي، أتمّ التلاوة في عشرين دقيقة! كي دارْ ليها؟ الله أعلم. 5- كنت سأسأل هذا الشخص كيف استطاع أن يقرأ خمسة أحزاب كاملة في عشرين دقيقة، أي بمعدل أربع دقائق لكل حزب، لكنني لم أفعل، لأنني، سبق لي أن حضرت أكثر من مرة في هذه "السّلكات" عندما كنت طالبا للقرآن في مسجد قريتنا، وأعرف جيدا أن طلبة القرآن يقرؤون تلك الأحزاب الخمسة بسرعة جنونية يستحيل معها التعرف على ماذا يقولون. أكثر من ذلك، هناك من يقرأ وفي الآن ذاته يلهو بهاتفه المحمول! وهناك من يتلو القرآن وبين فينة وأخرى يتبادل الهمسات مع الشخص الجالس بجانبه، وهذا يعني، أن الخشوع والتدبّر اللذين هما أساس التلاوة، هما آخر شيء يمكن العثور عليهما في مثل هذه المناسبات القرآنية! 6- بعد الشخص الذي "حطم الرقم القياسي" بعشرين دقيقة، شرع "الطلبة" الآخرون في طيّ "التّفاريق" واحدا تلو الآخر، وأبطأهُم لم يتعدّ نصف ساعة في القراءة، في ذلك الوقت، كنت أنا، بالكاد قد وصلت إلى الحزب الرابع، على الرغم من أنني حاولت أن أقرأ بسرعة، مع الالتزام بقواعد التلاوة، وما كدت أصل إلى الحزب الخامس، حتى طلب مني المكلف بجمع "التفاريق" الانتهاء، لأن موعد الدعاء قد حان، وإذا كنّا نعرف أن تلاوة "التفريق" يعقبها مباشرة دعاء الختام، سنفهم أن "الطلبة" يقرؤون بتلك الطريقة الجنونية كي يختموا العزاء في أقصى سرعة من أجل الانصراف. والخلاصة التي يمكن الخروج بها من كل هذا الكلام هي أن من مات له قريب، وأتى بالسادة "الطلبة" لتلاوة القرآن على روحه، عليه أن يشترط عليهم أن يقرؤوا القرآن مُجوّدا ومرتلا وعلى مهل، ويلزمهم بقضاء ساعة ونصف الساعة على الأقل في تلاوة "التفريق"، وإلا فإن الميت لن يجني أي أجر من هذه التلاوة التي تُوهب لروحه، ولن يجني منها أهله أي خير، هذا إذا لم يكونوا قد جنوا منها اللعنات وغضب الله هم والفقهاء الحاضرون! [email protected]