على بعد بضع كيلومترات من مدينة وادي زم الشهيدة، وبين أحضان هضاب يتوسطها مجرى مائي، تحفه أشجار التين والزيتون، وبالضبط قرب الولي الصالح امحمد بلبصير انعقد ككل سنة الملتقى العلمي لحفظة القرآن الكريم على مدار ثلاثة أيام في آخر شهر غشت الماضي. الزائر لهذا المكان ينعم بجماله وروعته والسكينة التي تعمره، والتي قد لا تعهد في غيرها من المواسم؛ فالخيام تنصب شامخة وبقايا قصبة السلطان المريني تبدو طالعة، وعين السلطان تجري منحدرة، فالناظر بعين متفحصة ليدرك بحق أهمية الموقع وسحره الخلاب الذي يستولي على النفوس. فليس المجال للتباهي والتفاخر، ولكنه فرصة للتأمل والتدبر مع صوت القرآن الذي يأخذ بمجامع القلوب، ويفتق الأبصار لتنظر في ملكوت علام الغيوب. فكم تغمرك الفرحة وأنت تنتقل بين خيام الحفظة: شيوخا وشبابا يتلون كتاب الله، رجالا بلغوا من الكبر عيتا ما زالوا على أتم الحفظ، وأحداثا صغارا يتغنون به، وينساب من أفواههم انسيابا، ويتنافسون في ذلك تنافسا، ولا ريب في ذلك فهم أهل القرآن، أهل الله وخاصته. إن هذا المشهد ينقلك بحق إلى العهود الزاهية من تاريخ الأمة الإسلامية، إذ كان السلف الصالح يتمسك بالقرآن حفظا ومذاكرة ومدارسة وملازمة للأعمال والآداب الظاهرة والباطنة. فكل خيمة من هذه الخيام وكأنها تشكل حلقة من حِلق العلم في مسجد جامع، فكلما قرؤوا ما شاء الله أن يقرؤوا توقفوا عند آية أو بضع آيات وتجاذبوا أطراف الحديث، خصوصا وأن بين أحضانهم بعض أهل العلم الذين يزورونهم بين الفينة والأخرى. وكم يأخذك الفضول لتناقش وتستفسر معهم، خصوصا إذا كنت من طلبة العلوم الشرعية حول بعض الأحكام الفقهية، وعلوم القرآن وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام. إن أول ما يقدمه الحفظة للزائر في هذا الملتقى قبل وجبة الشاي أو الطعام آيات من الذكر الحكيم، وكم يكون المشهد أروع بعد صلاة المغرب أو بعد صلاة الصبح، حين يجتمع الكل في خيمة واحدة كبيرة يتلون حزبا من القرآن، ويردفونه بأدعية وأذكار، فتسمع القرآن يجلجل في سماء هذه المنطقة وكأنه أزيز النحل، ولا ضير في ذلك، فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب وهو يجهر بالقرآن فسأله عن ذلك، فقال له: أوقظ الوسنان وأزجر الشيطان. إن إحياء مثل هذه المواسم الدينية، وعلى الشاكلة الدينية وإن كان قليلا لمن شأنه أن يزرع في نفوس الأجيال المتلاحقة روح العلم الشرعي، ويربط الخلف بالسلف، ويحبب إليهم حفظ القرآن؛ فهو حبل الله المتين ونوره المبين والعروة الوثقى والمعتصم الأوفى، فلا تنقضي عجائبه ولا تتناهى غرائبه وهو الذي أرشد الأولين والآخرين. طويل الزايدي