إن الحالة التعسة التي تعيشها جماهير الأمة الإسلامية تعود في جزء منها، إلى أنها ألغت العقل إلغاء شبه كامل، وحقرت دوره وعطلت استثماره، بل إنها فعلت ذلك أحيانا باسم الإيمان توهما منها أن من مستلزمات الإيمان الصحيح أن يقوم الإنسان بكبح جماح العقل ولجم أسئلته المزعجة القلقة المشاغبة، التي قد تؤدي إلى زعزعة إيمانه وتذبذب يقينه. وهكذا كان الحصاد المر لقرون الانحطاط والمتمثل في شيوع الخرافة والشعوذة وتعاطي السحر وتصديق التنجيم، والاعتماد على العرافة والكهانة على مستوى الاعتقاد وكان شيوع التواكل، والفوضى، والجهل والكسل الذهني والعزوف عن العلم على مستوى السلوك، وتوج ذلك بإغلاق باب الاجتهاد وسيطرة التقليد فالتعصب المذهبي، فتقديس السابقين فالرضا بفقه الفروع الجاهز، وهو العلم الذي تعب فيه الأوائل ولكنه ليس علما قابلا للتطبيق في كل مكان أو صالحا مطلقا لكل زمان لأنه ليس وحيا، ولكنه اجتهاد عقل في زمان ومكان محددين لتنزيل الوحي على واقع محدد. وعندما يتغير هذا الواقع، نحتاج إلى إعمال الذهن من جديد في كل مقتضيات الفقه، ولهذا نفرق بين الفقه وبين الشريعة، وهو تفريق لا يجد مسوغه إلا في هذه الحقيقة. وأخيرا، انتهينا إلى التخلف التكنولوجي الذي أثمر تحكم الغرب فينا فأذلنا أيما إذلال، فنحن نشحذ منه لقمة الخبز كما نشحذ الصاروخ والطائرة، وهذا عجز قاتل، ولكنه عجز لا يتعلق بتوفير مقتضيات القوة والتدافع، فعندنا منها الكثير، وإنما يتعلق بهذه الجذور التصورية والمعرفية المتسلسلة من سوء الظن بالعقل والخشية منه على الإيمان، إلى وجود خلل في العقيدة وخلل في السلوك وضياع على مستوى الرؤية والمنهج، إن علينا أن نعيد الاعتبار إلى العقل بصفته نعمة من الله سوف نسأل عنها، وبصفتها وسيلة من وسائل التكريم والبقاء والتدافع، وبصفته قرين الإيمان لا نقيضه، فالعقل هو الذي يصون الإيمان تماما كما أن الإيمان هو الذي يصون العقل؛ ذلك أن الإيمان بدون عقل يصبح خرافة كما أن العقل بدون إيمان يسقط في براثن الإلحاد. المقصود بالتدبر"اقرأ" لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتدبر في كتابه، وأمرنا من خلال كتابه بالتدبر في كونه وخلقه وشؤونه، أمرا يأتي في مساق الاستفهام الإنكاري: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟) والآية تشير بطريقة غير مباشرة بأن مآل من لا يتدبر إلى الختم على قلبه وهكذا، تصبح الحالة الفكرية السلبية مؤشرا على الحالة الإيمانية السلبية. ولهذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم في حاله ومقاله يدعو إلى التدبر ويمارسه ويستثمره وينجزه في أرض الواقع منهج دعوة وواقع دولة. وكيف لا وهو يقرأ قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)، ليقول معقبا في خشوع وتهيب: (ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن). وليس المقصود مجرد التدبر الإيماني المحض، فهذا من ضرورات العقيدة، وإنما يراد بذلك أيضا التفكر العقلي الخالص والتأمل الذهني العميق الذي يفضي إلى الكسب المعرفي الصحيح، إنه لابد أن نعود إلى الأصول، إلى القرآن الكريم، لنستقي منه ضوابط وأسسا لوضع منهجية عامة باعتماد منهج التأمل الخالص. ولقد فعلت شيئا من ذلك، لأكتشف أن القرآن الكريم، ومن الانطلاقة يبسط المنهج الصحيح بهذا الصدد. تكون المنطلقات دائما تأسيسية، وفي المنطلق نجد أن القرآن الكريم يعيد الاعتبار للعقل ويضعه في مقام خاص في منطلقيه التأسيسيين: المنطلق النسقي والمنطلق التاريخي. أما المنطلق النسقي فيتمثل في أول كلمة نزلت من القرآن الكريم ألا وهي "اقرأ" وهنا وقفة لابد منها حتى نفقه هذه الأولية، فليس الأمر متعلقا بأهمية القراءة وقيمتها وأهمية العلم وقيمته فقط، ولكن الأمر أعمق من ذلك لقد كانت الجزيرة العربية آنذاك تغرق في الشرك فلعها أحوج إلى أن يكون أول ما ينزل: "وحد" وكانت تغرق في الكفر فلعلها أحوج إلى أن يكون أول ما ينزل "آمن" وكانت تعيش ظلما اجتماعيا قاهرا للمرأة والطفل والعبد والضعيف، فلعله كان أولى أن يكون أول ما نزل هو: "اعدل" لقد كان في قريش من عتاة وصناديد الملأ المكي وهم طاغوت يصد الناس عن دين الله ما لعله يحوج أن يكون أول ما نزل هو "جاهد". إلا أنه لم تنزل "آمن" ولا "وحد" ولا "جاهد" وإنما نزلت "اقرأ"! وليس لذلك في رأيي إلا تفسير واحد يتمثل في أنه لابد من تأسيس كل هذه الأفعال بدءا على هذا الفعل، فعل المعرفة السليمة، ذلك أن الإيمان بلا "اقرأ" سيصبح خرافة، وأن الدعوة بلا "اقرأ" ستصبح تنفيرا، وأن العبادة بلا "اقرأ" ستصبح بدعة، وأن الجهاد بلا "اقرأ" سيصبح إرهابا، وهكذا كان لابد من إنارة العقل بالعلم، فتنزل "اقرأ" هذه على رجل أمي في مجتمع أمي، يعتز بثقافته الشفوية. وأكثر من ذلك نرى أن التأسيس النسقي لم يكن فلتة في بداية الوحي، وإنما انتشر في نسيج القرآن من أوله إلى آخره، ويكفي أن نقول أن لفظة العلم ومشتقاتها وردت 057 مرة في القرآن الكريم، وهذا كلام الله المبني على إعجاز الإيجاز، ومن مقتضيات الإيجاز عدم التكرار، فلا يكرر في مساق الإيجاز إلا ما كان ضروريا أن يكرر لأهميته. إن الشخص العاقل إن حدثك لا يحتاج أن يعيد كلامه نظرا لثقل اعتباره في وعيك وقلبك، فكيف إذا كان المتكلم هو الله؟؟ إنه ليكفي أن يأتي الأمر مرة واحدة في القرآن الكريم حتى يحتل في نفوسنا ووعينا المكان الذي يليق به، فكيف إذا تكرر بهذا الرقم الهائل؟ اختيار "غار حراء".. لماذا؟ ونواصل بيان البناء العقلي في القرآن، مركزين على لحظة عظيمة هي المنطلق التاريخي للوحي متمثلا في اختيار "غار حراء" مكانا لنزول أوله، بعد أن عرضنا في الحلقة السابقة أهمية المنطلق النسقي متمثلا في اختيار كلمة "اقرأ" كأول كلمة نزلت من هذا الوحي. أول ما يلفت الانتباه بهذا الصدد، هو أن اختيار غار حراء، مخالف بكل المقاييس للمنهج العام للدعوة الإسلامية، ذلك أنها كانت تتقصد دائما أن تبتعد عن مواطن الشبهات التي قد تثير في وجه الخطاب الدعوي النبوي زوابع التشكيك، فلقد اختير الرسول صلى الله عليه وسلم في سن الأربعين حتى لا يقال غلام، واختير كامل الخلق حتى لا ينتقص من خلقته، ويكون الاستهزاء به حاجزا بينه وبين دعوة الناس، واختير أميا حرم نعمة القراءة حتى يقطع الطريق على من سيتهمونه بنقل الكتب السابقة، وكلها اختيارات لا صلة لها بأصول الإسلام، وإنما هي مجرد مراعاة حكيمة للوضع، تجنبا للتشويش بالشبهات. ولا يكاد يشذ عن ذلك سوى اختيار مكان انطلاق الوحي، فعوض أن تختار لحظة من اللحظات الواضحة للرسول صلى الله عليه وسلم وهو وسط الناس، تحسبا لأن يتهم بما هو شائع في الثقافة السائدة آنذاك، بأنه شاعر أو كاهن أو ساحر يتصل بالجن في الأماكن النائية، اختيرت لحظة قد تلقي بشيء من ظلال الشك على مصدرية الوحي، بأن تربط نزوله، بشكل آلي، مع ما هو سائد في الثقافة الشعبية آنذاك. إن اختيار غار حراء مع ما يمكن أن يثيره من شك، لابد أن يكون من ورائه غاية أعظم أحوجت الإسلام إلى أن يركب هذا المركب الصعب وأن يتحمل هذا المثير المشكك من أجلها، وأظنها تكمن في إشارة سميائية إلى كون الغار المنعزل، في مكان شاهق، يوفر للرسول صلى الله عليه وسلم لحظة تأمل عقلي خالص، فمقامه بغار حراء لم يكن للعبادة، إذ لم يكن عنده شرع يعبد الله به، وما يليق به أن يفعل ما تنزه عنه "الحنفاء" المعاصرون له، حين توقفوا عن العبادة قائلين: >اللهم لو نعلم الوجه الذي نعبدك عليه لفعلنا< ولم يكن مقامه فيه للدراسة، فلقد كان أميا وليس عنده كتاب. كان إذن يتأمل! التأمل بما هو فعل تركيز جواني لتمرين الملكات العقلية والذهنية، أي بما هو إعداد فكري لمن سيحمل المشروع تبليغا وتطبيقا، إعداد استغرق أزيد من خمس سنوات، وفي كل مرة كانت "الدورة التدريبية" تستغرق أياما وأحيانا أسابيع! ولا يعقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي صنع على عين الله وأعد برعاية الله، وهيئ بأن شق صدره، وطهر وأدب فأحسن تأديبه، فصار على خلق عظيم، لا يعقل أبدا أن يكون شيء من محطات حياته قبل البعثة عبثا، أو غير مندرج في إطار إعداده لهذا الوحي. لقد أطال السلف الوقوف عند محطتي الإعداد النفسي والإعداد التربوي، ونحن نوافقهم على هذا، لحاجة النبي صلى الله عليه وسلم للأول في أداء أمانة التبليغ، والثاني في الصبر على الابتلاء، لكن هناك إعدادا ثالثا أغفل أو لم يأخذ حظه في الحديث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وهو الإعداد الفكري، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعد للتبليغ فقط كالمسيح عليه السلام، لكان يكفيه الإعدادان النفسي والخلقي، أما وهو يهيئ أيضا لبناء دولة الإسلام ويؤسس المشروع الإسلامي والحضارة الإسلامية، فإنه لا يكفيه حسن خلق ولا جميل صبر، بل لابد من ذهن لامع يقوم بتنزيل هذا على أرض الواقع، وللواقع فقه خاص به له مقتضيات وشروط، وهذا يحتاج إلى العقل ولا ينفع فيه القلب وحده. إن الإعداد العقلي، لا يمكن أن يأتي من فراغ، بل لابد من بناء وتهيئة ولقد كان ذلك عن طريق الخلوة في الغار، استعدادا لاستقبال أمانة الوحي، وقد استغرق ذلك ما بين الخامسة والثلاثين والأربعين، من أجل بناء ملكات العقل إن الإعداد الخلقي يتم قبل الخامسة عشرة "شاب نشأ في طاعة الله"، والإعداد النفسي يتم قبل العشرين، فهناك تتأسس البنية النفسية للإنسان، أما الإعداد العقلي فيترك إلى المحطة الأخيرة لاكتمال النضج، وقد تم اختيار لحظة من لحظات هذا الإعداد وصل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قمة اكتمال تفتحه العقلي وتهيئه الفكري بالاستغراق العميق في التأمل الجواني المفصول عن الواقع بالظلمة المطبقة والصمت الأشد إطباقا، لتكون هي اللحظة التي اختيرت لنزول الوحي! إن الاقتران بين ما هو نسقي وتاريخي اقتران له دلالته، وإن هذا الاقتران له أهمية تستحق معه أن تكابد لحظة قد تثير شبهة، رغم أن منهج الإسلام هو الابتعاد عن الشبه كلها. إنه ليس هناك أي تفسير آخر لاختيار غار حراء لنزول الوحي غير هذا، إلا أن يكون هذا الغار في نفسه شريفا، أو يكون أرضا مقدسة، ولا دليل على ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعد قط إلى غار حراء منذ نزول الوحي، ولا ذكره، لأنه مكان دلالته في وظيفته (الإعداد للتأمل)، حتى إذا انتهت الوظيفة انتهى الانتباه إليه، ولهذا لم يشرع لنا في مناسك الحج أن نزوره، ولا شرع لأهل مكة يوم يقومون فيه عنده بنسك، بل إن ذلك يعتبر بدعة، ومعنى هذا أن الأمر كان محض اقتران وظيفي لا علاقة له بقدسية المكان، سوى أنه مكان احتضن تأمل الرسول صلى الله عليه وسلم وتحنثه، وأنه شهد الدقائق الأولى لنزول الوحي، وأنه كان مسرحا للقاء الأول بين جبريل الأمين وبين الرسول صلى الله عليه وسلم. أبو زيد المقرئ الإدريسي المغرب