شدد فضيلة العلامة يوسف القرضاوي رائد مدرسة التجديد والإصلاح في العصر الحديث على أهمية تناول العقيدة وفق منهجية جديدة تقوم على غير منهج التلقين والحفظ والفلسفة وعلم الكلام، بل على منهج يهتدي بالقرآن والسنة، ويجمع بين العقل والنقل، ويستعين بحقائق العلم الحديث، ويخاطب العقل والقلب معا، ويجمع ولا يفرق، ويضيق في التكفير. وانتقد تجربة تدريس العقيدة في الجامعات الكبيرة، وعند السلفيين المعاصرين. جاء ذلك في ندوة بعنوان "منهجية القرضاوي في العقيدة" أقيمت مساء الاثنين بجامعة قطر حضرها حشد كبير من الشخصيات الدينية والقضائية والأكاديمية والدبلوماسية والطلابية. (1) لا لمنهج التلقين في دراسة العقيدة ومن أولى الأسس التي تحدث عنها فضيلة القرضاوي مسألة التلقين في تدريس العقيدة حيث قال إنه في السابق كانت العملية التدريسية في مجال العقيدة لا تعدو عن كونها عملية تلقينية وأنا أحد الأشخاص الذين تعرضوا لمثل هذا التدريس ولكنني كنت أقف مطولا أمام ذلك وأعارضه، فمثلا حاولت أن أفهم الفرق بين صفة الحياة وكون الله عز وجل حيا وأنه سميع وكونه سميعا، وحتى اليوم لم أفهم. وأضاف "حتى في الأزهر كنا نتلقى التدريس بشكل تلقيني في هذا المجال ونحفظ متونا مغلقة في العقيدة عن ظهر قلب. وظللنا ندرس الجملة الأولى من متن الجوهرة في التوحيد شهورا.. وهذا أمر في واقع الحال لا يفيد بشيء. مشيرا إلى أنه يلاحظ أن السلفيين يعتمدون على أسلوب التلقين والنقل. وقال إن هذا الأسلوب التلقيني الذي يعتمد على الحفظ الخارجي لا يعطي مفهوما حقيقيا للعقيدة ولا يحرك الفكر والوجدان لدى الإنسان. لقد كان الأزهر وغيره من المدارس في السابق يعتمدون أسلوب التلقين في تدريس منظومات لا تفيد شيئا، لأنها تعرض قضايا قديمة شغلت الناس في عصر معين مضى، لذا كان لزاما علينا اللجوء إلى التجديد والتحديث حتى نتمكن بالفعل من تكوين مفهوم حقيقي للعقيدة وتكوين عقيدة واضحة للمسلم. (2) دراسة العقيدة من خلال القرآن واستعرض فضيلة الدكتور القرضاوي خلال محاضرته ذكرياته خلال الدراسة بجامعة الأزهر بكلية أصول الدين موضحا أنه كان يحلم وهو في صغره بالالتحاق بهذه الكلية ورغم تفوقه فيها وحصوله على المركز الأول في السنة النهائية بها إلا أنه كان معترضا على المنهج الأزهري في تدريس العقيدة للطلاب واعتماد طرق وأساليب علم الكلام والفلسفة وحفظ أبيات كثيرة من الشعر ومناقشة موضوعات فرغ الناس منها وعفي عليها الزمن، فالأقوام الذين كنا نرد عليهم لم يعودوا يشكلون أي مشكلة لدينا. وقال فضيلته: إنني أرى أن أفضل أسلوب لتدريس العقيدة الإسلامية يجب أن يتم من خلال القرآن الكريم باعتباره أساس العقائد وما يبينه من صحيح السنة بحيث تكون السنة النبوية من حكم القرآن الكريم، وأن نكمل هذا بالعلوم الكونية الحديثة نثبت بها وجود الله تعالى وصفاته. فإذا لابد أن نستخدم كلمات القرآن وطرائقه واستدلالاته في تناول العقيدة. ولهذا عندما نشرت كتابي الإيمان والحياة، استخدمت كلمة الإيمان مع أنني كنت أنشر المقالات التي جمعتها في هذا الكتاب تحت عنوان "العقيدة والحياة". وهذا لا يعني أن هذا المصطلح مرفوض، فالعبرة بالمضامين. (3) دراسة العقيدة في ضوء العقل والنقل أضاف سماحته أنه لابد من اعتماد العقل والنقل في دراسة العقيدة ومناقشة أعداء الدين بالعقل . ودلل على أهمية إثبات العقيدة بالعقل بمثالين هما قطعيان لا جدال فيهما: إثبات وجود الله عز وجل والنبوة والوحي. فالعقل يثبت قضيتين هامتين هما وجود ووحدانية الله عز وجل والنبوة فكيف نؤمن مثلا أن الله تعالى موجود وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله؟ ويضيف قائلا "هنا يتدخل عمل العقل الذي يثبت بالأدلة العقلية وحدانية الله ونبوة الرسول. لهذا فالأشاعرة يقولون بأن العقل أساس النقل وأنا مع هذا الرأي فلا يجوز إلغاء عقولنا. ولكن الغزالي يقول إن العقل بعدما يثبت النقل يعزل نفسه ويصبح متلقيا من النقل، ومع ذلك يبقى العقل أساس فهم النص والنقل". وقال إن الكون والمخلوقات من صنع الله ولا يمكن أن يأتي كل من على الأرض مصادفة أو عبثا. ولهذا فالإلحاد وإنكار وجود الله أمر نادر في البشر، مشيرا إلى أن الرسالات السماوية أتت بضوابط تحكم مسار الناس وأن الذين ينكرون وجود الله عبر التاريخ هم قلة لا تذكر لكن المشكلة لدى الكفار أنهم يشركون بالله فالتوحيد الذي جاء به الأنبياء جميعا لكن الشرك ضلل البشر. وضرب هنا مثالا على ذلك قائلا قد توجد أمة في التاريخ بدون قلاع أو حصون أو حدود إلى غير ذلك لكن لا توجد أمة أو مدينة بدون معابد، وهذه المعابد تعددت أشكالها وألوانها واتجاهاتها وشكلت في خارج إطار الدين الإسلامي شركا بالله وهذا هو الخطر الذي أضل البشرية. (4) الاستفادة من الأدلة العقلية في القرآن ودعا فضيلته إلى الاستفادة من الأدلة العقلية الموجودة في القرآن الكريم، فقد جاء بأدلة عقلية متعددة وكثيرة تثبت وجود ووحدانية الله عز وجل "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون"، فكل معلول له علة فكيف يكون هؤلاء المشركين والكافرين قد خلقوا أنفسهم؟ وكيف يستطيع العدم إنشاء الوجود؟ كما أن السماء والأرض خلقت قبل الإنسان فكيف يدعون ذلك؟ لهذا لم يدع مدعو الألوهية مثل النمرود وفرعون أنهم خلقوا السماوات والأرض لأنها خلقت قبلهما. وأشار د. القرضاوي إلى أن هذه مناقشات قرآنية تحتاج إلى الالتفات إليها بالدراسات العقلية ولابد هنا من الجمع بين العقل والنقل وعدم الاعتماد فقط على مسألة النقل والتلقين كما كان الحال سابقاً لأن ذلك لا يفيد الإنسان شيئاً ولا يحرك مدارك الفكر والوجدان. وأضاف أنه "لابد من استخدام العقل في التعامل مع القضايا الدينية، فالله وضع لنا النصوص في كل شيء وهي متناهية بينما الوقائع غير متناهية وأي شيء يرفضه العقل لا يقبله الإسلام". وقال فضيلة القرضاوي لكن "نحن للأسف نستسلم حالياً للخرافات التي يجب التخلص منها باستخدام العقل. في هذا الإطار إن الاستسلام للخرافات أمر في غاية الخطورة على حياة وعقيدة الإنسان. فهناك من يقول إنه سمع أصواتاً من القبور وغير ذلك من الأقاويل التي نسمعها هنا وهناك ولا تعدو كونها مجرد خرافات دخيلة على العقيدة الدينية. وهنا لا بد لنا من تنزيه العقل عن تلك الخرافات" في إشارة إلى آخر تسجيلات للشيخ عبد المجيد الزنداني حول سماع علماء الأرض أصوات تعذيب أناس في الطبقات الدنيا من الأرض. ونبه إلى أنه كيف يعقل سماع تلك الأصوات في قاع الأرض بينما القبور تحت سطحها مباشرة. وتابع يقول "أنا شخصياً أؤمن بأن نجمع بين العقل والنقل ولا يوجد أي تناقض بين حقيقة عقلية وحقيقة دينية قد تتناقض بعض الفرضيات ولكن الحقائق لا تتناقض فالحقيقة الدينية هي قول الله. والحقائق العلمية الكونية فعل الله. ولا يتناقض قوله مع فعله سبحانه". (5) الاستفادة من العلم الحديث في دراسة العقيدة كما دعا فضيلته إلى الاستفادة من حقائق العلم الحديث في دراسة العقيدة وعرضها. واستشهد هنا بكلام عالم أمريكي ألف كتاباً يرد فيه على أحد الملحدين الذي قال إن الإنسان يقوم وحده فرد عليه بأنه لا يمكنه ذلك وقدم أدلة علمية على ذلك وان الإنسان بالتالي بحاجة إلى إله وتمت ترجمة الكتاب بعنوان "العلم يدعو إلى الإيمان"، مؤكدا أن العلوم تؤكد أن الحياة البشرية لم تكن بالمصادفة وأشار كذلك إلى أنهم في الغرب كي يثبتوا الإيمان بالمسيحية لجئوا إلى العلوم الكونية لإثبات ذلك "فلماذا لا نستخدم نحن كمسلمين أصحاب العقيدة الصحيحة هذه العلوم لإثبات صحة عقيدتنا وما جاء به القرآن والسنة من نصوص؟". وذكر أيضا نموذجا آخر لكتاب "الله يتجلى في عصر العلم" الذي ألفه 30 كاتبا وعالما أمريكيا وكل واحد منهم في اختصاصه يؤكد أن العلم يقودنا إلى لله، وكتب أخرى مثل "مع الله في السماء". ونوه د . القرضاوي إلى الاعتماد على الحقائق العلمية وليس الفرضيات في الاستفادة من العلم الحديث في تأسيس منهاج عقائدي يقوم على القرآن أساسا ويستفيد من حقائق العلوم الكونية الحديثة الطبيعية والرياضية والحيوية. (6) تأسيس العقيدة على اليقين لا على الظنون أشار فضيلة الشيخ إلى أنه لابد من تأسيس العقيدة على اليقين وليس على الظنون فالظن لا يغني من الحق شيئاً، فالعقائد الأساسية كوجود الله والآخرة، لا بد من نص قاطع للظنون والاحتمالات. ولذلك اختلف أهل العلم هل يصلح حديث الآحاد لإثبات العقائد؟ وأنا أقول إن العقائد الأصلية لابد فيها من نص قاطع، أما العقائد الفرعية كرؤية الله تعالى في الآخرة فلا بأس أن نأخذها بالظن الراجح الموجود في خبر الآحاد. أما رد خبر الآحاد في العقائد مطلقا فغير مقبول ما دام الأمر ليس محالا عقلا. (7) مخاطبة العقل والقلب معا قال فضيلته إن الإيمان الذي نريده هو الذي يخاطب العقل والقلب، لأن الإنسان عقل وروح لهذا لابد من مخاطبتهما معا ومشكلة الأمة أن عندها إيماناً ولكنه مُخدّر لا يتحرك عند الأزمات والشدائد لأننا لا نفهم الإيمان جيدا فليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. كما لا بد من التحرر من الخرافات التي عصفت بالكثير من الناس مثل بعض الصوفية التي يمكن أن نسميها الصوفية المرتزقة أو المخالفة فنحن بحاجة للإيمان المحرك للوجدان والعقل وليس الإيمان الجدلي فالإيمان الجدلي لن يحرك فينا الوجدان للتعاطف مع إخواننا المسلمين الذين يتعرضون للقتل في فلسطين والعراق مثلاً. (8) الإيمان الذي يجمع ولا يفرق كما حث الدكتور الشيخ القرضاوي على ضرورة اتباع الإيمان الذي يجمع الأمة ولا يفرقها. قائلا: نحن نريد الإيمان الذي يجمع ولا يفرق ولا نريد أن نخرج جمهور الأمة من الإيمان. وأنا من المتشددين في قضية التكفير وأرى أنه ينبغي أن نقتصد في التكفير ولا أكفر إلا من ثبت كفره بيقين فالأصل أن كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهو مسلم ولابد أن نضيق من قضية التكفير وأن نستبعد أمة الإسلام منها، فالشرك الأكبر هو الذي نكفر به أي شخص. وأوضح أن منطق بعض الناس في التكفير يكون بلا ضوابط ولا حدود وهذا يؤدي إلى الغلو وينبغي الاقتصاد فيه إلا من ثبت كفره بيقين، فلابد أن نحسن الظن بالمسلمين ونحمل حالهم على الصلاح. ولذا فأنا لا أكفر الشيعة إلا الغلاة منهم ولا العلمانيين، لأن الراجح ألا نكفر باللوازم فكيف نكفر أحدا وهو يصلي ويصوم ويقول «أشهد أنه لا إله إلا الله» وأضاف فضيلته "نحن نكفر غير المسلمين سواء كانوا مسيحيين أو يهوداً كما أنهم يكفرون المسلمين"، وقال "من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بشرط أن تبلغه بلوغا صحيحا. فنصف العالم يعيشون ويموتون وهم لم يسمعوا عن الإسلام شيئا وبعضهم بلغه بلوغا مشوها فقط". قضية أبدية النار وعرج فضيلته في ختام الندوة العلمية على الحديث عن أبدية النار‚ وقال: هي قضية فرعية أثيرت ومن قضايا الدين المهمة التي يتساءل عنها الناس، واستشهد حولها برأي عالمين جليلين هما: ابن القيم وابن تيمية اللذين ذكرا أن النار ليست أبدية وستنتهي بعد زمن، وأشار إلى أن ابن القيم استشهد بثلاثة أدلة في سور الأنعام وهود والنبأ واعتمد أيضا على ما جاء به بعض السلف في تعذيب الناس في قبورهم‚ وعن رأيه في أبدية النار قال: إنني أميل إلى الألوهية الرحيمة واستند إلى قوله تعالى «إن ربك فعال لما يريد» فالنار ستفنى بعد زمن وهذه من رحمة الله وقوته وبره فماذا سيصنع ببشر يعذبهم لمئات وألوف السنوات، وما الحكمة في ذلك؟ وأرى أن الألوهية الرحيمة وسعت كل شيء. أوضح د‚ يوسف القرضاوي أن عبارة «فعال لما يريد» تبين عدم جزم الله ببقاء النار ولا بفنائها، إنما هو أمر متروك لألوهيته عز وجل وتبارك شأنه. الدوحة – محمد أحمين