لمفهوم التنمية تعاريف كثيرة لعل أشملها ما ورد في مقدمة الإعلان العالمي عن الحق في التنمية الصادر في دجنبر من سنة 1986، و جاء فيه أن التنمية هي " عملية اقتصادية و اجتماعية و ثقافية و سياسية شاملة تسعى للتحسين المستمر لرفاهية السكان بِرُمّتهم و الأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم الحرة و الهادفة في التنمية و في التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها" من خلال هذا التعريف، يتضح أن التنمية عمليةٌ مركبة ذاتُ بعد شمولي، غايتها الأولى تحقيق السعادة و الرخاء للمجتمع، جماعاتٍ و أفرادًا دون تمييز. و يُلحّ هذا التعريف على الدور التشاركي للسكان في الاستغلال و الإنتاج و الاستفادة. دشن المغرب ما يعرف ب "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" منذ سنة 2005 بغاية تحسين وضعية الفآت الهشة في الأحياء الحضرية الفقيرة و الجماعات القروية التي تعاني التهميش و الإقصاء. مبادرة تسعى إلى خلق فرص شغل دائمة و البحث عن موارد جديدة للعيش. لا ينبغي أن ننظر إلى "التنمية البشرية" من زاويتها الاجتماعية فقط بل هي تتقاطع مع مفهوم أعم و أشمل هو "التنمية المستدامة" و الذي يقوم على ركائز ثلاث : الرخاء و الأرض و البشر. هذا العنصر الأخير يُعتبر بمثابة قطب الرحى بالنسبة للعنصرين الآخرين. فالإنسان هو المنوطة به مسؤولية الحفاظ على الأرض (البيئة) لا تخريبها و هو الذي يتحمل أمانة جعلها مصدرا لسعادته لا لشقائه، و هو المستهدف الأول و الأخير بمخططات الدولة و سياساتها التنموية الاقتصادية و الاجتماعية. لكن يلاحظ أن التنمية في بلادنا تسير بِوَتيرَتيْن مختلفتين، إحداهما بسرعة القطار الفائق السرعة (TGV) الذي سيربط بين الأقطاب الاقتصادية الكبرى، و الأخرى تَدِبُّ بخطى متثاقلة كالدابة العجفاء، المنهكة في منعرجات جبال الأطالس الوعرة. في محور طنجة، الرباط، الدارالبيضاء، مراكش، فُتحت أوراش ضخمة للاستثمار و تحقيق الرفاه، من شركاتٍ عالمية و مصانعَ عملاقة و معاهدَ متخصصة للتكوين و التأهيل و الإدماج الاجتماعي و مؤسساتٍ متكاملة بأحدث التقنيات لتقديم العروض الصحية و مشاريعَ لتوفير السكن بشروط مريحة. لنا أن نفتخر بهذه الإنجازات التي تجسد جانبا من الحكامة الجيدة و صرف الأموال في أوجهها الحقيقية، فهي ستجعلنا في مَصافِّ الدول المحترمة و ستحسّن من ترتيبنا الدولي لدى المنظمات الدولية. و إذا كانت التنمية عملية شمولية تستهدف السكان دون تمييز، فالواجب ألا تقتصر على الحواضر الكبرى في المحور الذي سبق ذكره. من المفروض أن ينال سكان الأطالس نصيبهم من هذه الأوراش. من حق الدولة عليهم أن توفر لهم ظروفا مواتية للعيش الكريم. الرخاء هدف يبدو بعيد المنال بالنسبة لهؤلاء في الوقت الراهن على الأقل، في ظل ما عانوه و يعانونه من تهميش و إقصاء و عزلة طيلة سنوات. هم في حاجة مُلِحة فقط لضمان كرامتهم الإنسانية و حقوقهم كمواطنين: سكن لائق، تعليم بشروط كاملة و خدمات صحية كافية و طرق تفك عنهم العزلة. هذه أبسط الحقوق التي تجعل من أي إنسان كيفما كان يحس بانتمائه للوطن و يعتز بمواطنته. من غير المستساغ أن تَنْعَم مناطقُ بمستشفيات جامعية و مُركباتٍ صحية تقدم خدمات مختلفة من الأمراض المزمنة إلى النفسية إلى التشوهات الخلقية و الترويض الطبي بينما تفتقر أخرى لمجرد مستوصف صغير أو دار للولادة، و حتى إن وُجدا فبدون طاقم طبي و بلا معدات و لا أدوية. أليس من المُخجل أن تتواجد في الأطلس عائلاتٌ تتدفأ بإحراق الأحذية البالية و القطع المطاطية و المتلاشيات البلاستيكية لتقيها من لسعات البرد القارس و تُعرّض نفسها مُكرهةً لأمراض خطيرة كالحساسية و الأمراض الصدرية و الجلدية. فضيق ذات اليد و الفاقة الشديدة يجعلان الحصول على الحطب أو الغاز أمرا صعب المنال. ليس قدرا محتوما أن تبقى هذه المناطق، بسبب موقعها و تضاريسها الجبلية، مهمشةً إلى الأبد. هي مصدر غنيٌّ للثروات و خزّانٌ مهم للموارد الطبيعية لكنّ خيراتِها غيرُ مستثمرةٍ بطرق جيدة أو أنها تعود بالنفع على غير قاطنيها. أنهارٌ و وديان تخترق جبال الأطلس طولا و عرضا و تُغذّي الفرشاة المائية فيستغلها أهل السهول في زراعاتهم المتطورة، المعدة للتصدير. ليس لأهل الجبل نصيب منها غير الفيضانات التي تتسبب في تخريب أكواخهم و تشريد عائلاتهم و نفوق بهائهم. أليس من الضروري أن تساهم المناطق الميسورة المستفيدة من هذه الخيرات بقدر يسير من مداخيلها لصالح المناطق المتضررة و لو من باب التضامن بين الجهات؟ الغابات مورد اقتصادي هام يوفر الأخشاب و الفلّين و الأعشاب الطبية. قوافلُ من الشاحنات تنطلق منها يوميا تجاه المراكز الصناعية لتحويلها إلى مواد استهلاكية. لماذا لا يتم التفكير في تشييد هذه المعامل في عين المكان لإعطاء المناطق المجاورة إشعاعا اقتصاديا يُمكِّن من جلب الاستثمارات و يتيح تزويد الساكنة بمتطلبات الحياة الكريمة و بذلك نوفر عناء التنقلات و نقتصد في الطاقة و النفقات؟ مورد اقتصادي آخر لا يقل أهمية عن سابقيه، بقي معطلا لسنوات و حان الوقت لاستغلاله بشكل منتج و معقلن. يتعلق الأمر بأراضي الجموع التي يشكل المجال الرعوي فيها النصيب الأكبر و المُقدّر بحوالي 12,6 مليون هكتارا. إن الواقع المعبش و التحولات السوسيو اقتصادية و الثقافية الطارئة على بنية المجتمع تُحتّم على الدولة إعادة النظر في طرق الاستغلال و وسائل الإنتاج المعتمدة في هذه الأراضي بغية إحداث تغييرات في أنماط العيش الحالية التي لم تعد مجدية، بشكل يحقق التنمية المستدامة كانتظام ذوي الحقوق داخل تعاونيات فلاحية و جمعيات تنموية. على الدولة أن تفكر بجدية في هذا الاتجاه بإدماج هذه الأراضي في الدعامة الثانية من المخطط الأخضر، و الرهانُ معقودٌ على ما سَتُسفِر عنه الحواراتُ الوطنية حول هذه الأراضي من توصيات و إجراءات. صحيح أن الجهاتِ الوصيَّةَ سَعَت منذ عام 2004 إلى إدماج الجماعات السلالية في مسلسل التنمية البشرية و الاقتصادية المستدامة بفتح المجال أمام المستثمرين، لكن هذه الإستراتيجية لم تحقق الهدف المنشود، بل ربما ساهمت في تأزيم الوضع و جلبت مآسيَ إضافية لذوي الحقوق. فالمداخيل تُضَخّ مباشرة في صندوق مجلس الوصاية و المستثمرون يستنزفون خيرات البلاد بجشع و دون احترام لدفاتر التحملات، أما الأرباح الطائلة التي يجنونها فيتم "تهربيها" إلى خارج المنطقة. لا تجني الساكنة من وراء ذلك غير الأضرار المصاحبة للمشروع كما في حالة المقالع و المناجم. لا نَصِيبَ لهؤلاء المغلوبين على أمرهم، غيرُ الغبارِ و الأتربةِ التي تؤثر على صحتهم و ماشيتهم و زراعتهم المعيشية. السياحةُ الجبلية عنصرٌ اقتصادي مهم يُمْكن أن يساهم في تنمية المنطقة لو أُحسِن استغلاله. مناطقُ الأَطَالِس تزخر بالعديد من المؤهلات كالمنتزهات و البحيرات و الضايات و الغابات و المناظر الطبيعية، منها ما هو مُصنف تراثا عالميا، و تصلح كلها لأن تكُون مداراتٍ سياحيةً بامتياز. غيابُ البنيات التحتية و المركبات السياحية و وكالات للأسفار يحدّ بشكل كبير من مردودية هذا القطاع الحيوي و يُفوِّت فرصا ثمينة لتنمية هذه المناطق. حان الوقت كي تفكر الدولة في اقتسام عادل للثروات و استفادة متكافئة من مشاريع التنمية. لا ينبغي أن تُوجَّه العناية الكاملة للحواضر الكبرى و ما يجاورها بينما تقتات باقي المناطق على الفتات و تعيش على الكفاف. ليس منطقيا أن يزداد القوي قوة و الغني غنى و في المقابل يبقى الضعيف ضعيفا و الفقير فقيرا. الأجدر أن نأخذ بيد الواهن و نُمكِّنه من الإقلاع الاقتصادي تحقيقا للعدالة الاجتماعية. في القرن الماضي، ركزت الحكوماتُ في العالم مُخطّطاتِها الإنمائيَّةَ على الأراضي المنبسطة و تهاونت في معالجة معضلات الفقر و العجز في المناطق الجبلية، لكن هذه النظرة تغيرت بحلول سنة 2003 التي اعتبرتها منظمة الأممالمتحدة "سنة دولية للجبال" و أوصتْ منظمةُ "الفاو" بضرورة " ضمان الرفاه الاقتصادي و الاجتماعي لمجتمعات الجبال." لقد أضحى لزاما على الدولة أن تسارع إلى إخراج تشريعات تُنصِف سكان الجبال و تعيد الاعتبار للمناطق الجبلية و تعمل على تنميتها عبر إحداث صناديق و وكالات لدعمها.