منذ أن بدأنا ننشغل صحافيا بالشأن السياسي ونحن نحاول الاقتراب من فهم المقاصد الحقيقية الباطنية للممارسات والمبادرات السياسية، أي فهم منطق الفعل السياسي بالمغرب. في الحقيقة، كنا دائما نشعر بنوازع تقودنا إلى الدفاع على المنطق (العقل) مقتنعين أن العمق النفسي والعقلي للفاعل كيف ما كان مستوى سلطته يبقى مغمورا بالنوازع الإنسانية الطبيعية كالعطف، والحنان، والرحمة، والوداعة، والقناعة، والموضوعية وما تولده من فضائل كبرى كالشجاعة، والرزانة، والعدل، والإيثار، والشهامة، والحلم، إلخ. لم يختر ببالنا أن البيئة التي يعيش فيها المسئول (صاحب سلطة) وتعوداته، وطبيعة محيطه، والخطابات والاستشارات التي تتبادر منه وإليه بشكل مستمر.. تجعله محاصرا بمنطق سياسي خاص وبنزعات خاصة غالبا ما تكون معاكسة ومخالفة لنزعات النخب المناضلة، ولطموحات الطبقات الوسطى، ولآمال الجمهور. إنها في أغلب الأحيان نوازع تتعلق بضمان الاستمرارية في منصب المسؤولية بالتمسك بالنوازع المؤثرة بصفة دائمة قارة لدى الجمهور ولو كانت غير صالحة أو غير منطقية (رجعية أو تقليدية مثلا). في الحقيقة، ما جعلنا نعير اهتماما لهذه الحقيقة هو الكتاب الأخير للمفكر عبد الله العروي المعنون "من ديوان السياسة". إنه كتاب شامل بفقرات في غاية الأهمية ومرتبطة فيما بينها ارتباطا منطقيا. لقد شكل لنا مرجعا وضعنا في وضع اضطراري لإعادة ترتيب أفكارنا. لقد مكننا من خلال إعادة تركيب كل ما نومن به وتعلمناه في محيطنا العائلي والسياسي والمدني وما اكتسبناه عبر احتكاكنا بكتابات المفكرين والمثقفين، من استنتاج كون انبعاث نوازع جديدة لدى الجمهور كآلية تمكن المجتمع من تغيير حاله، ووعيه، وتحسين وضعه، يبقى مرهونا إلى حد بعيد بمدى استعداد السلطة المركزية ومستويات المسئولية التسلسلية الترابية التي فوضت لها سلطة تمثيلية أو سلطة الفعل العمومي على الانخراط في منطق جديد يعمل على ترسيخ التأويل الديمقراطي الحداثي. إنها مسؤولية ثقيلة وجسيمة لكون المنتظر منها هو إبعاد نوازع المسئولين والجمهور من سمات الحيوانية بإخضاعها لقوة أعلى سماها العروي بالعقل. وفي هذا الصدد، وأعتقد أنكم ستتفقون معي، أنه كلما ازدادت سمات الحيوانية في محيط المسئولين كلما اشتدت حدة نوازع الطمع، والولاء، والخوف، وضعفت نوازع الطموح، والمبادرة، وبالتالي تتوسع الهوة بين القلة الحاكمة والجمهور. وفي هذه الحالة (حالة استفحال الهوة) يصبح نموذج الدولة المغربية الذي تكلم عليه العروي مهددا (نموذج تتداخل فيه "دولة الواحد"، و"دولة القلة"، و"دولة الجمهور") نتيجة التغييب الإرادي أو اللاإرادي للجمهور. وكلما ساد العقل، كلما أصبحت النخب حرة، مبادرة، عاقلة، ومالكة لنفسها، وخادمة للجمهور بنجاعة قوية. ونحن كمغاربة عرب ومسلمون ننتمي إلى القوات الشعبية لا يمكن أن نتناقض في سلوكياتنا مع ما قاله جان جاك روسو :"الإنسان خلق طيبا وأن ما يفسده هو المجتمع (المحيط)". ولا يمكن لنا مبدئيا أن نطمح في السياسة إلا إلى تحقيق مبادئ العقل المجرد وعلى فرضية الفضيلة الفطرية. لقد أسس روسو علم السياسة على ذلك لأنه كان مقتنعا أن الطبيعة كلها خير. آمن بالفضيلة بالرغم من التجارب المرة التي عاشها والتي كادت أن تدفعه إلى الجنون. وهذا هو حالنا، نعي ونعلم في أغلب الأحيان بحيوانية المسئولين المتفاقمة، ونصنف طبيعتها، ونتفاعل معها ليس بمنطق الصراع بل بمنطق التأثير والتأثر السياسي باستحضار ما تعلمناه من أفكار وبراهين. نحاول تغيير المنطق بالتفريج عن العقل المختنق ونحن نعلم أن المنطق الحيواني يوازيه الطمع، والسلطة، ومنطق الغنيمة، ومنطق الاستقطاب، وقوة آليات التغرير بالطامعين من النخب. نفعل هذا ونحن نعيش في ضيق مفتعل لإكراهنا على الاقتناع بأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان. حافزنا هو الأمل أن تكون لأقوالنا تأثيرا متراكما قد يدفع الدولة في يوم من الأيام إلى العمل على استكمال الشروط اللازمة لتسخير كل مصادر السلطة، وعلى رأسها قدسية شخص الملك، في الدفع بالمجتمع بكل مكوناته في اتجاه الانسلاخ عن مؤثرات التربية الأولى، تربية الأم (تحقيق حالة اللاأمية كما يسميها العروي). "" وفي إطار دعوته إلى تجاوز التأويل التقليدي السلفي للدستور والاحتكام للتأويل الحداثي، يرى العروي أن مؤسسة البرلماني وممارساتها السياسية تشكل عائقا أساسيا لعقلنة العمل السياسي بالمغرب. وابتدأ حديثه عن الغرفة الأولى (مجلس النواب) بسؤال محوري ومهم جدا:" على من ينوب النائب في الغرفة الأولى من البرلمان؟ أيتكلم كفرد مقيد بانتماءاته الأصلية؟ يلهج بلهجته، يفكر بثقافته، يصدع بمطالبه؟. ونظرا لأهمية تناول موضوع مهام البرلماني وتفاعله مع سلط العامل أو الوالي في النظام السياسي المغربي، سنحاول في فقرة أولى القيام بقراءة لمفهوم البرلماني "الأمي" للمفكر عبد الله العروي في كتابه "من ديوان السياسة"، وفي فقرة ثانية التطرق، من خلال استحضار ما استوعبناه من استنتاجات لمجموعة من البحوث والدراسات، لإشكالية تداخل المركزي بالمحلي في منطق ممارسة السلطة بالمغرب. وقبل البدء في مناولة الفقرتين، وجدت نفسي مضطرا لأقول كلمة في حق عبد الله العروي. إن كتابه "من ديوان السياسة" يعتبر بالنسبة لنا مرجعا للتائه الذي اختلطت عليه الأوراق ليعيد وضع النقط على الحروف في شأن معظم الإشكاليات السياسية بالمغرب. إن قراءة جمله بإمعان ومحاولة فك رموزها تمكن المتتبع من إعادة تحيين وتنظيم مقاصد معتقداته السياسية خصوصا ما يتعلق بمنطق ممارسة السلطة. إن فكر العروي أصبح اليوم بكتابه الأخير نظارات من نوع خاص تمكن القارئ المتتبع والمصر على فهم حقائق أمور السياسة في بلادنا من رؤية جوهر منطق ترابط قضايا المغرب السياسي، والمغرب الاقتصادي، والمغرب الثقافي، والمغرب الاجتماعي. لقد أحاطنا بما يلزم من الأفكار والمعارف والحقائق والمفاهيم للجواب على سؤال ماهية السياسة بالمغرب؟، ولماذا لم تتمكن الممارسة السياسية من ترجمة المفاهيم المرتبطة بها على أرض الواقع (حالة إشباع "مصطلحاتي" التي تكلمنا عليها في مقالات سابقة)؟. وما دفعنا أكثر لتخصيص هذا المقال للحديث عن البرلمان هو اتفاقنا التام معه على أهمية هذه المؤسسة السياسية في الأنظمة الديمقراطية الحداثية. فمجلس نواب بالشروط التي اقترحها في كتابه هو أحسن مدرسة لإدماج المغرب في منظومة أعلى منه عندما تتوافر الظروف. 1-قراءة لمفهوم البرلماني "الأمي" بالنسبة للعروي الجواب بنعم على السؤال المطروح أعلاه، يعني صعوبة الكلام عن ديمقراطية محلية بالمغرب، بل أكثر من ذلك يمكن الدفع بانعدامها (تحويل البرلمان إلى مجلس قروي). والحالة هاته، يرى العروي أن التحقيق الفعلي للديمقراطية المحلية بآلياتها وأجهزتها هو السبيل الوحيد لإضفاء المشروعية على مؤسسة "البرلماني" كناخب (مواطن) متصف بأوصاف تخرجه عن فطرته وأميته، يبرزها في حياته اليومية قبل أن يحددها القانون. وأعتقد أن نزعة الخلود في المناصب والاستمرار في السلطة لا تبتعد كثيرا عن المبدأ التقليدي "كل شيء أو لا شيء". إن هذه الظاهرة لا يمكن أن تجسد إلا تمسك أغلب نخبنا التقليدية بتربية الأم ومن ذلك تسميتهم ب"الأميين". تحس بوجودهم ونفوذهم في كل الأمور حتى الصغيرة والتافهة منها وفي مختلف المستويات الترابية. يشكلون في غالب الأحيان شبكة منغلقة لا يخترقها إلا "الأميون" الانتهازيون. ناخب مجلس النواب ليس ناخب المجلس المحلي، وإن كان الشخص نفسه،...، مفهوم البرلماني لا يستوي إلا في حالة ما إذا اتسع أفق الناخب إلى حدود الوطن، تلك التي أقرها منذ قرون التطور التاريخي، تجاوزا للفوارق التي تجد من يعبر عنها على المستوى المحلي. وفي حالة تحقيق هذا المبدأ، يقول العروي، لم يعد مبرر لأي تسامح مع الأمية بكل مظاهرها، لا عند الناخب ولا عند النائب، بل قد تعتبر خرقا لقانون المواطنة تجيب الزجر. وبالفعل، هذا هم يقتسمه كل المناضلون الشرفاء في هذه البلاد. إنه السبيل الوحيد إلى المرور إلى ترسيخ مبدأ التصويت الانتخابي على البرنامج الإيديولوجي وليس على الشخص والحد من ظاهرة التواطؤ بين العمال والولاة والبرلمانيين من باب الحفاظ على مبدأ التكيف الإيجابي لضمان الاستقرار الاجتماعي المحلي وضبط عملية إنتاج النخب الملائمة. إن إعادة الاعتبار لمفهوم "البرلماني" من شأنه أن يجعل حدا لمجموعة من الظواهر المشينة التي أنتجها المنطق السياسي كالمقاطعة، والعزوف، والاتجار بالأصوات، وتغييب النواب،وقلة المبادرة، والعي والعجمة،إلخ. بإعادة الاعتبار هاته، سيصبح ورش تطوير الديمقراطية المحلية قابلا للتنفيذ، كما من شأن بعض الظواهر السالفة الذكر أن تختفي أو يحد من حدتها. وللسير قدما في هذا الاتجاه، وتجاوزا للعراقيل المرتبطة بالإرث القديم، أجاز العروي اللجوء إلى فرض إجراءات تبدو تعسفية في الظروف الحالية كإجبارية التصويت، والتأهيل، والإقصاء، وعدم التجديد، إلخ. وفي نفس الاتجاه يقول العروي حرفيا:"إذا ارتقى مجلس النواب إلى المستوى المنشود، اختفت بالضرورة أسباب الريبة التي تحوم حوله في الدستور الملكي الحالي. يخشى منه التجاوز، التدخل في ما لا يعنيه أو ما لا يتقن. برلمان مؤهل يعرف بالضبط حدود اختصاصاته، يعلم ما يستدعي التدخل وما لا يتحمله، يستبعد دون تردد ما لا يمس بكيفية واضحة مصالح الناس (المعاش)... كلما تحسنت مؤهلات الناخب والنائب، عرف البرلمان حده". ودعا إلى البدء بتحديد الاختصاصات بالنسبة للبرلمان، والجماعة المحلية، ومجلس الولايات، والهيئات الوطنية الأخرى. واعتبر العروي البرلمان (ممثل الأمة واختيار الشعب) هو المسئول الأول على رسم الحدود بين المؤسسات والهيئات الوطنية الأخرى عن طريق التشريع وتحديد مهام البرلماني كما هو متعارف عليه في الدول المتقدمة. وأعتقد أننا اليوم قد تجاوزنا عقدة الدولة المتشبثة بمبدأ "كل شيء أو لا شيء"، بل أكثر من ذلك تقدمت الدولة نسبيا في مجال توسيع مبدأ "التفويض" (التفويض المراقب)، كما أعطيت إشارات للتقدم في توسيع هذا المبدأ عبر الجهوية ومسلسل اللاتركيز الإداري. وبخصوص توضيح الارتباط المؤسساتي للسلط المفوضََّة بالسلط المفوضِّة في إطار تقابل إعلان الدولة عن الإرادة في الاستمرار في الإصلاحات السياسية ومطالب معظم الأحزاب السياسية الوطنية بالإصلاحات الدستورية وعلى رأسها الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أعتقد أن العروي أضاف سيناريو جديد في شأن آليات المبادرة لإعطاء الانطلاقة للإصلاح السياسي ليصبح عدد السيناريوهات المحتملة والممكنة ثلاثة في تقديري الخاص: * السيناريو الأول: التوافق الواضح بشأن اللجوء إلى التأويل الديمقراطي الحداثي للدستور (الانتقال من الصراع على الدستور إلى الصراع في الدستور) والالتفاف وراء جلالة الملك لتسريع توفير شروط المرور إلى الديمقراطية من خلال إعادة الاعتبار لمهام البرلماني وللديمقراطية المحلية عبر توضيح المهام السياسي لمؤسسة العامل أو الوالي. * السيناريو الثاني: تقديم إشارات تعبيرية عن الإرادة الحزبية للاستمرار في تطوير التوافق السياسي عبر آلية رفع المذكرات الخاصة بالإصلاحات الدستورية والسياسية إلى المؤسسة الملكية. * السيناريو الثالث: النضال من أجل الإصلاحات الدستورية من خلال آلية الضغط بتحريك الجمهور (شرط فصل السلط كأولوية للاستمرار في التوافق السياسي مرحليا). لا أحد اليوم يمكنه أن يجادل حقيقة ما نعيشه من فوضى وتداخل مهامات مختلف السلط الإدارية، والتمثيلية، والثقافية. كما أننا نعيش في وضع مؤسساتي أجوبته على قضايا الغموض عير محسومة بل ويضطر المسئول في حالة حداثة فكره إلى القيام بتجارب مواجهة مع العادات التقليدية بدون أن تقدم مبادراته أجوبة شافية لمختلف التساؤلات والتي نذكر منها : لماذا لم تستمر المشاريع الطموحة لوزارة الشباب في عهد حكومة التناوب؟. وهل يشمل مجال اختصاص وزارة الثقافة الخوض في أمور تحديث الفكر الديني؟. وهل بإمكان وزارة الثقافة العمل بحرية لتوسيع مجال الحداثة على حساب مجال التقليد؟. لماذا لم ينجح المغرب في معالجة مشكل التعليم منذ الاستقلال بالرغم من خطورته وتفاقم أبعاده؟. قيل الكثير عن الإصلاح، وعقدت حوله ندوات رسمية وغير رسمية، واقترحت حلول كثيرة متتالية أو متزامنة، وفي كل مرة كان اللاحق منها يلغي السابق أو يعدله، أو يكمله... ومع ذلك لم تزد المشاكل السياسية إلا تعقيدا، ولم تزد أبعادها إلا امتدادا وتشعبا... وتفاقم المشاكل وضعف مردودية المشاريع يجعل المسئولون يغضون الطرف أولا ثم يتحركون ويقمعون ثانيا، ثم يتفهمون أخيرا، فيلبون بعض المطالب ويقولون أن الحكومة عاكفة على إيجاد الحلول لها ... وللخروج من هذه المتاهات، أعتقد، استنادا على كلام العروي، أن المشكلة تنحصر في مؤسستين قويتين في النظام السياسي المغربي، ويتعلق الأمر بمؤسسة البرلماني ومؤسسة العامل أو الوالي. وأعتقد كذلك أن ما نعيشه من غموض في ممارسة اختصاصات هاتين المؤسستين هو السبب الرئيسي الذي فرض منطقا سياسيا تقليديا "أميا" يتداخل من خلاله المركزي بالمحلي وتضرب بالتالي مصداقية كل من البرلمان والديمقراطية المحلية. 2-محاولة تحليلية لمنطق تداخل المركزي بالمحلي من خلال قراءاتنا المتعددة لمجموعة من الأبحاث والدراسات والأطروحات بشأن تداخل المركزي بالمحلي، تبين أن تاريخ المغرب المستقل سيطر عليه هاجس مراقبة كل ما يحدث من تفاعلات في المجالات المحلية. بالطبع، تحقيق ذلك ليس بالأمر الهين بل يتم تارة من خلال آلية استقطاب النخب بناء على معايير معينة (الأعيان أبناء القواد والباشوات وشيوخ القبائل والذين تحولوا إلى برلمانيين بسبب تحويل رجل سلطة إلى موظف) أو عن طريق التكيف وآلية الوصاية والضغط بمصادر التمويل لتقليص من هامش حرية النخب الرافضة للتبعية في المجالات التي عرفت فيها الأحزاب الوطنية شرعية سياسية. كما تم استعمال آلية تشجيع السكن غير القانوني لتشجيع الهجرة القروية لإضعاف مشروعية النخب غير المرغوب فيها (خلق دوائر انتخابية إضافية من سكان القرى في أحياء السكن غير القانوني بجوار المدن وإدماجهم في المجال الحضري). والنماذج كثيرة نذكر أهمها مدينة سلا التي اشتغل عليها الأستاذ ابوهاني (أطروحة دكتوراه الدولة تحت عنوان "السلطة المحلية والمجال الحضري بالمغرب"(1988))، ومدينة شفشاون، ومدينة تيفلت، ومدينة سوق الأربعاء التي اشتغل عليهما كمدن متوسطة الحجم الأستاذ عزيز عبد المولى العراقي (اطروحة دكتوراه الدولة التي حولها إلى كتاب تحت عنوان "أعيان المخزن أمام امتحان الحكامة: النخب المحلية، التدبير الحضري والتنمية بالمغرب" (1999) )، ناهيك عن أطروحات وأبحاث أخرى مرتبطة بالموضوع في مجال علم الاجتماع السياسي... وسنعود إلى مناقشة بعض الاستنتاجات التي وصل إليها هؤلاء من خلال دراستهم لنماذج معينة في مقالات مقبلة. المهم، القاسم المشترك لهذه البحوث والدراسات يتجلى في كونها أكدت كلها كون النظام السياسي المغربي يعرف تقابلا واضحا بين نموذجين من العلاقة التي تربط المركزي بالمحلي. ويخضع هذا التقابل لمنطق "تملكي" يبرز تشبث السلطة المركزية بضرورة مراقبة وتكوين شبكات سياسية لا يمكن أن تكون إلا خاضعة لها وبالتالي تتحول اللامركزية إلى تفويض مراقب عبر آلية الوصاية وتبعية النخب المستقطبة وآلية التفاوض. فإلى جانب نخب الأعيان التابعة والمسيطرة بدعم من الدولة على مجالات ترابية عديدة، هناك جماعات محلية مستقلة بحكم تاريخها وثقافتها تشرعن نخبا تمثلها وتعطي صورة حقيقية للممارسة الديمقراطية واستقلالية العمل الجماعي. بالرغم من هذه الاستقلالية تلجأ الدولة لمجموعة من الآليات لإضعاف هذه الشرعية (السكن غير اللائق، السكن العشوائي، التدبير العقاري، الوصاية الإدارية والمالية، تقديم الدعم غير المباشر لشرعنة نخب منافسة تابعة لها،).... وهذا التشبث بالتحكم في كل شيء مركزيا ومحليا ما هو إلا نتيجة للتأويل السلفي للدستور الذي يختزل، حسب العروي، حياة البشر في الخضوع والانقياد. يحول العقيدة إلى سياسة كما يحول السياسة إلى عقيدة، ينتفي في هذه وتلك كل تطلع وطموح. يفعل المرء أشياء كثيرة صالحة مفيدة لكن منصاعا منقادا. يفعلها لا لذاتها، لمنافعها، بل إظهارا للطاعة والانقياد. بالطبع إنتاج هذا المنطق لا يتم بطريقة متشابهة في المجالات المحلية بل يأخذ أوجها مختلفة كنتاج تكيف الدولة مع طبيعة النخب والمجتمعات المحلية عبر آلية "التفاوض". تفاوض يراد منه تحقيق تحويل السياسة إلى آلية لخلق النوازع وتوظيفها للحفاظ على الازدواجية، الأمر الذي اختلف بشأنه المرحوم الحسن الثاني مع المهدي بن بركة منذ مطلع الاستقلال (بنسعيد ايت يدر في برنامج بثته قناة مدي1 سات). وحتى السلوك الاقتصادي للنخبة المحلية يبقى مرصعا في السياسة. فعندما يكون أغلب العقار ملكا خاصا بالمدن، يتحول الامتياز العقاري إلى مجال للاستثمار السياسي بالنسبة للنخب المالكة ويسيطرون بذلك على السياسة الجماعية لمدة طويلة (شفشاون، سلا تابريكت، دار الكداري،...). كما ثبت أن هذه النخب لا تهتم بإعداد المجالات المحلية لجلب الاستثمار (تهيئة الأحياء الصناعية كمثال)، ومن تم خلق مناصب الشغل. وباستثناء بعض الحالات الخاصة، نجد على العموم أن تدخل ودعم الدولة كان معطى أساسيا في تاريخ النخب الاقتصادية حيث تم تطوير مجموعة من القطاعات كقطاع تجارة الحبوب، والنقل الطرقي والحضري، وقطاع العمارة والأشغال العمومية (الصفقات العمومية)، استغلال المقالع،.وتجارة المواد الغذائية بالجملة، ودعم القطاع الصناعي والتصدير والاستيراد بالمدن الكبرى، وتفويت الضيعات، والسقي الكبير،... (الدارالبيضاء، طنجة، سوق الأربعاء،...). وفي صلب هذا المنطق نجد البرلماني المستفيد الكبير. إن منطق التشبيك للحفاظ على المواقع القيادية المؤدية إلى البرلمان شكل دائما عرقلة لمسلسل إنتاج النخب الجديدة (الشباب) وللإرادة في الانفتاح السياسي الديمقراطي الحداثي. وقد وصف العروي هذا الوضع قائلا "ترتفع الأمية لا بإتقان الكتابة والقراءة ولا بحفظ مقولات عن الكون والإنسان والماضي، بل عندما يستقل المرء بذاته وير فيها المادة التي يشيد بها الكيان السياسي عوض الدخول في مجال تربوي جديد مخالف ومناقض لتربية الأم، هي التربية المدنية". واليوم، بعد مضي عشر سنوات من عمر العهد الجديد، تبقى كل التساؤلات والفرضيات مطروحة. توجت هذه المرحلة بإنتاج زخم كبير من مصطلحات جديدة متعلقة بالتدبير (التدبير الإستراتيجي، تدبير وقيادة التغيير، تدبير منظومة الإعلام، تدبير المشاريع المدرة للدخل، تدبير النزاعات، تقنيات التواصل والتفاوض،...)، وازاه إحداث تعديلات مؤسساتية جديدة كذلك كالتدبير المفوض للخدمات العمومية المحلية، تلاها الإعلان الرسمي للمفهوم الجديد للسلطة ثم الدعوة إلى تطبيق الحكامة الجيدة (مشاركة المواطن في تدبير الشأن العام والتفاوض بشأن تحقيق مصالح الفاعلين). وبالرغم من كل هذه التجديدات يبقى من حقنا أن نتساءل: "هل فعلا نحن بصدد تجاوز أسس التربية الأولى التي تعرقل الوعي بالمواطنة وما تستلزم من اعتزاز بالنفس واستقلال الرأي والتحرر من عقال الأسرة والعشيرة والقبيلة؟. ولفتح مسالك للبحث للإجابة على هذا السؤال، نضع أمام المتتبعين والباحثين والسياسيين مجموعة من الفرضيات المحتملة لاستشراف تحول المنطق السياسي بالمغرب: الفرضية الأولى: تدخل الدولة سيكون حاسما لإضعاف التفاوض مع النخب المحلية حيث سترجح فرضية تقوية التقليد وتربية الأم عن الحداثة من خلال تقوية آليات إنتاج ودعم نخب الوساطة على أساس الطاعة والانقياد. وبذلك نعود إلى استنتاجات جون ووتربري (J. Watterbury) في كتابه "أمير المؤمنين، الملكية المغربية ونخبها" (1975)، وريمي لوفو (Remy LEVAU) في كتابه "الفلاح المغربي المدافع على العرش" (1985). وهذه الفرضية ستزيد من حدة أمية البرلمانيين بالمفهوم الذي حدده العروي. إنه الوضع الذي ستصبح فيه السياسة أشد بأسا من جراء شموليتها. فلا تتكون نخبة سياسية تتأهل وتتجدد باستمرار. الفرضية الثانية: ستبذل الدولة كل إمكانياتها للحفاظ على منطق الازدواجية بخلق التوازن بين التقليد (الأصالة) والعصرنة لكي لا نقول الحداثة لكون هذه الأخيرة فكر لا يحتمل الممازجة. ستستمر في الاعتماد على الأعيان القدامى وورثتهم وخلق آليات جديدة لدعمهم، وخلق آليات لإنتاج نخب جديدة موالية من المجتمع المدني، والاحتكام إلى التفاوض مع النخب المستقلة المشرعنة محليا والرافضة للتقليد بشأن التدبير والتخطيط المحلي مشروطة بعدم تجاوز الخطوط الحمراء مع اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة للتدخل لإرجاع الأمور إلى نصابها في حالة التجاوز. الفرضية الثالثة: ستتمكن المجتمعات المحلية من بناء مقومات استقلال تدبيرها وتخطيطها المحلي بشكل ذاتي ومن تم تحقيق ديمقراطية محلية حقيقية تتيح إنتاج النخب والقيادات والزعامات باستمرار وتمكن من ارتقاء مهام البرلماني إلى المستويات المتعارف عليها في الدول المتقدمة، ويحقق نظام الولايات التنمية الجهوية من خلال سياسة محكمة لإعداد التراب الوطني، وتحقق الدولة الديمقراطية التي تتكلم عن السياسة قليلا، ولكنها تمارسها كثيرا. الفرضية الرابعة: ستلجأ الدولة إلى تقوية آلية التفاوض والتوافق بشأن التقدم التدريجي في الإصلاحات السياسية وعلى رأسها الإصلاحات الدستورية والحرص على إضفاء المصداقية والمشروعية على مهام كل من البرلماني والعامل والوالي بشكل تنبعث من خلاله ديمقراطية محلية حقيقية تتحمل فيها الحكومة المسؤولية كاملة. وأعتقد أن فحص هذه الفرضيات المتعلقة بالآفاق المحتملة للعمل السياسي بالمغرب يحتاج إلى تدقيق الدراسة باستحضار منطق الفاعلين ومصادر المشروعية السياسية بخصوص الأوراش المفتوحة والتدابير الجديدة المتخذة. ويتطلب الأمر الإجابة على الأسئلة التالية: * هل لا زالت الصفقات العمومية تستعمل كآلية لإنتاج النخب المدعمة لمنطق المخزن؟ * منطق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتسخير إعتمادات برامجها الأربعة؟ * منطق برنامج المدن بدون صفيح؟ * منطق برنامج تأهيل المدن؟ * منطق تدبير مؤسسات الرعاية الاجتماعية؟ * منطق برمجة اعتمادات الميزاننيات الإقليمية والجهوية؟ * مآل منطق سياسة الريع والامتيازات؟ ونختم هذا المقال بتحويل ما قاله العروي في الصفحة الأخيرة من غلاف الكتاب إلى الأسئلة التالية والتي يرتبط الجواب عليها بالأجوبة على الأسئلة أعلاه: هل تحمل الإرادة السياسية للدولة في العهد الجديد الشحنة الحماسية والتنظيمية الكافية لإعطاء الانطلاقة لتحقيق الفطام الضروري بين الغريزة والعقل، بين الإتباع والاستقلال؟. هل نحن بصدد الانتقال من التوكل إلى الهمة، من المبالغة إلى المواطنة؟ هل سترقى ديمقراطيتنا يوما إلى مستوى يندثر من خلاله التداخل بين المركزي والمحلي وتحرر السياسة، وتنقذ من كل ما ليس منها، فتصبح الرياضة رياضة، والفن فن، وكذلك العمل والفلسفة؟. [email protected] mailto:[email protected]