لستَ مسافرا يا بابا.كان علي أن أدقق في ملامح الجارات حتى أفهم من وشوشاتهن ما الذي جرى. ثم كان لا بد أن يطول انتظاري فلا تعود كي أنتبه إلى حقيقة غيابك. لم تسافر يا بابا في رحلة عمل كما أخبروني، ولم يكن أولئك الذين قادوك من البيت إلى سيارتهم بعضا من أصدقائك. لقد اكتشفتُ أن ماما كذبتْ عليّ. حتى أنتَ أيضا يا بابا كذبتَ علي. فلأول مرة أتعرّف شكلَ الكذبة منك. لم تكن هذه المرة صادقا حين قبّلتني ووعدتني بأنك ستعود بعد يومين، وقلت لي حينها ستحاول أن تأتي بسرعة كي تساعدني على إنجاز تماريني المدرسية... كنتَ تعرف أنك لن تعود قريبا، وكل الذين كانوا من حولك في ذاك اليوم كانوا يعرفون أن غيابك سيطول، وحدي لم أكن أعرف. "" أحقا سيطول غيابك يا بابا؟ أبدا لن أتحمل. كيف لي قبل أن أغسل وجهي أطرق باب غرفتك كل صباح ولا ألقاك؟ كيف لي أسمع في كل مساء خطواتٍ تقترب من البيت فيعتقدُ القلبُ أنها خطاك وأنك هنا، وحين أفتح الباب لا تكون؟ وكيف لك أن تهتف باسمي، وتنهضَ أصابعُك تريد أن تسيح في شعري فلا تجدُني في أحضانك كما تعودتَ؟ كيف لنا معا أن نتحمّل معا هذا العذاب؟ إني أتعذب يا بابا، أتعذب جدا. وليس يعذبني شوقي إليكَ، بل يعذبني شوقُك إليّ. ليت أحدا أخبرني في ذاك اليوم بما كان يجري وأنا أرى رجالا يطرقون بابنا ويطلبون منك بمنتهى الأدب أن ترافقهم. لماذا لم تخبرني لحظتها بأنهم ليسوا أصدقاءك؟ لو كنتُ أعرف يا بابا أنهم كذلك لما تركتهم يأخذونك. نعم يا بابا، كنت سأصرخ وأحشد زملائي بالمدرسة لأحرضَهم جميعا على الصراخ في وجوه هؤلاء الزوار. سنطلقها صرخة واحدة ملء حناجرنا ممتدةً لا تتوقف. تصور يا بابا منظرَنا بكل براءتنا وعفويتنا نقول بهتافٍ واحد، بصوتٍ واحد، بألمٍ واحد: "توقفوا". فربما شقّتْ صرختُنا هذا الصمتَ الثقيلَ الذي يلفُّ الشارع، وقد يُرغم الصغارُ الكبارَ على التراجع. قل لي الحقيقة يا بابا، أيّ ذنب اقترفتَ حتى كان الحكم عليك بهذه القسوة؟ أريد أن أفهم يا بابا. فلم أكن أعرف قبل اليوم من تكون حقا، والآن عرفتُ. رأيتُ صورك في الجرائد وتهجّيتُ الكلمات ففهمتُ. فهمتُ أنك صاحبُ حرف ورأي. وها إني أتساءل: أصحيح أن من يكتبُ الحروفَ في بلدي مثل الذي يسرقُ الأموال؟ وهل من يعبّر عن رأي كالذي يقتل الناس؟ أم تراك اقترفتَ خطيئةً وأنت تكتب، وارتكبتَ جريمةً وأنت تعبر عن رأيك؟ إن كنتَ أخطأتَ يا بابا فاعتذر للذين أخطأتَ في حقهم كما نفعل نحن الأطفال عادةً. فأنا لا أصدق أنّ حرفاً قد يقود صاحبه إلى المحكمة فيتساوى والمشبوهين، وأن رأياً قد يرمي بصاحبه خلف القضبان لينحشر مع اللصوص والمجرمين. قل الحقيقة يا بابا؛ إن كنتَ مذنبا سأختفي عن الأنظار طيلة عيابك، وسأتحاشى الجيرانَ والتلاميذ والأساتذة حتى تنتهيَ أيامُ السجن فنستأنف الحياة بعد أن تعدني بألا تخطئ ثانية. لكن، إن كنتَ مظلوماً أعدك بأني سأُروّض مشاعري حتى لا أنهار كي لا تنهار، وبعد اليوم لن أخجل. سأطرق باب أصدقائك وزملائك واحدا واحدا، وأقول لهم: بابا في السجن من أجل قضية تَدّعون أنكم حاملوها، فساندوه أو لا تساندوه. واجعلوا قضيته خبرا يوميا أو لا تجعلوها. سأخرج وحدي إلى الشارع ورأسي مرفوعٌ أوزّعً صوتَك على كل زقاق يتحكم فيه السكوت. وإذا ما سألني الأصدقاء في حفل المدرسة أين بابا، سأجيبهم بمنتهى الكبرياء: بابا في السجن[email protected]