الآن يا سيدي، آن لنا رسمياً أن نُعلن أنك مُتَّ. ولسنا في حاجةٍ إلى جنازة نشيّعك فيها بالبكاء والبخور كي يفهم العالمُ أنك متَّ حقّاً. ولستُ في حاجة إلى وفودٍ جديدة من المعزّين أستقبلها ليعرف الجميع أني أنا الخليفة. أدري أنك تركتَ هذه الدنيا وأنتَ تشعرُ بأنّ المهمةَ التي من أجلها خُلقتَ لم تنته بعد. ولذلك رفضتَ أن تصدّق أنك مُتَّ، لأنك ودّعتَ الدنيا وأنت تشكُّ في قُدرتي على ملء الفراغ الرهيب الذي خلّفه غيابُك المفاجئ، فواصلتَ رغم الغياب حضورَك الكاسحَ في كل تفاصيل حياتنا. تنهض في كل مرّة من موتِك لتوبّخني وتؤنبني وتُشعرني بالخوف. ورُغماً عنا جميعاً مازلنا نراك تنتصبُ في أحلامنا وآلامنا وشوارعنا، تتخفّى خطاباتُك في ملامحنا ودفاترنا، وتتحكّم أنفاسُك في حاضرنا وفي مستقبلنا. حتى صار استمرارُك حيّاً وأنت الميّتُ يثيرُ بعضَ الشكّ في جدوى وجودي، وهذا ما لم يكن يوماً يعجبني. لكنْ، آن لي أن أقولَ لك بكلّ الصدق والثقة: نمْ قرير العين سيدي. أَغمضْ عينيك إلى الأبد، ولا تَصْحُ. تكفّنْ، واخترْ حفرةً على مقاسك، ولا تطلعْ. لقد أنجزتُ المهمةَ التي عجزتَ طيلة تاريخك الدمويّ عن تحقيقها، وأحكمتُ قبضتي أخيراً على هذا الشعب المتمرد. فالشعب الذي كان ثوارُه أكبرَ من كمّاشتك صار كلُّه في قبضة يدي يختنق. صدّقني يا سيدي، ليس في الأمر كذبةٌ كمثل التي دأبتُ على ترويجها يوم كنتَ أنت الخانق. إنها الحقيقة. لو كان بإمكانك سيدي أن تفتح عينيك ثانيةً وتتجولَ بيننا لرأيتَ كيف قادتني الرغبةُ في تقليدك إلى أن أكون أقسى منك وأعنفَ وأجْرأ. فاعذرني إن عارضتُ في ما مضى اندفاعَك المجنونَ من أجل تدمير هذا الشعب ورميه في البحر، أو تجرأتُ في المجالس على تحذيرك من تعطشك الشديد إلى دماء أبنائه. أنت تدرك أني كنتُ مضطرا سيدي. لقد كان الجميعُ يراني الأبَ الذي بإمكانه أن يوقف هجومَ الأعداء ويقلّمَ طيشَهم. كانوا يرونني مثل أمٍّ تَفزعُ إن صرخ واحدٌ من أطفالها في منتصف الليل، وتموتُ دونَه. لم يكن ممكناً أبداً وقتَها أن أصمتَ إذا ما استبدّ بك جنون الفتك. لو كنتُ صمتُّ في تلك الظروف لصارتْ رغبةُ المظلومين في الانتقام منك رغبةً في الانتقام مني. لذا كان عليّ أن أنتظر تغيّرَ الظروف حتى أنحاز إلى جبهتك مطلقاً دون خجل. كان عليّ أن أدجّن العلماءَ وأجرُّ الحقوقيين والمتنورين والعقلاء إلى الهوامش كي يبتعدوا عن المركز، أُشغلُهم بالتوافه كي أستفرد بالأهم. والأهم عندي أن أُشْبهَك وأتنصلَ من كلّ رابط يشدني إلى هذا الشعب. ولقد فعلتُها، وتنكرتُ لروابط الدين والنسب واللغة والدم والتاريخ والأرض، فأخرستُ ما تبقّى من المناضلين الحقيقيين، وزرعتُ في كل المواقع أشباهَ الرجال يدّعون النضالَ والمعرفة متلوّنين بأسماء مستعارة يتربصون بالأنقياء وأتباع الأنبياء والشعراء والمخلصين، ثمّ أعلنتُها حرباً شيطانية صامتةً رفعتُ خلالها جداراً بحجم العار ممتدّاً من السماء إلى قاع أعمق نفق، نجحتُ به في حصار شعب أعزل دون أن أخجل. لقد استطعتُ في النهاية أن أكونَ مثلَك أو أشرس، وكنتُ أذكى، لأني أقنعتُ العالمَ بأنّ شعباً مجنوناً يتوسل الحريةَ بالموت لا يستحقّ الحياة. فأنا لا أفهم حقاً كيف تكونُ الحريةُ حين لا تكونُ الحياة! فتَكَفَّنْ، إن المهمةَ انتهتْ. [email protected] mailto:[email protected]