يرمي هذا العرض إلى تعريف الطريقة الصوفية ومفهومي التصوف والصحبة في الفكر الإسلامي وتعامل الطرق الصوفية مع هذا المفهوم وكيف نميزه عن مفهومي الوساطة و الخضوع للشيخ.. "" إن الطريقة الصوفية تعبر عن مرحلة متأخرة من مراحل التصوف تقوم على أساس "صحبة" الشيخ "المربي"و"العارف بالله" من كل راغب في "الوصول" إلى "الحضرة الإلاهية" ونيل "الأسرار"وتحصيل "المعرفة القلبية بالله" بعد "بيعة" هذا الشيخ إما مباشرة أو بواسطة "المقدم" وتحدث مراسيم البيعة بصورة طقوسية، تجعل في عنق المريدين، واجب خدمة الشيخ، في كل أموره،هذا الشيخ المربي يقوم بإعطاء أوراد فردية وجماعية للمريدين محددة العدد معينة الألفاظ لا ينبغي لمريد أن يزيد عليها أو ينقص أو يخالف ألفاظها وإن كانت تخالف المأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام كلفظة :"هو هو" المشهورة بين الطرقيين اليوم خاصة البودشيشية أو أذكار أخرى لا تنضبط بقواعد الشريعة أو تخالفها مخالفة صريحة إلى درجة التعارض والتناقض، كما قد يكون من ضمن واجبات المريد تجاه شيخه للظفر بالموعود أن ينفق الأموال على الطريقة ويشارك في تدبير شؤونها ويواضب على زيارة شيخه في أوقات يأذن فيها الشيخ للزيارة الجماعية وغالبا ما تكون في المولد النبوي أو يستأذن المريد شيخه بوسيط في زيارته والتحدث إليه..والطرق الصوفية التي استقطبت عددا كبيرا من المريدين تكون ذات هيكلة تنظيمية تضع الشيخ في القمة يمكث في الزاوية الأم أو قريبا منها محاطا بعدد من المريدين الذين يخدمونه وباقي الزوايا الفرعية تسير من قبل نواب هذا الشيخ والمصطلح عليهم ب "المقدمين" ودورهم هو تنظيم "العلاقة الروحية" بين الشيخ والمريدين بنقل وصايا الشيخ وتوجيهاته وأوامره التي لا تقبل النقاش والسهر على حسن سير أنشطة الطريقة بالزوايا الفرعية وهم محاطون أيضا بمساعدين .هذا هو القدر المشترك بين الطرق الصوفية جملة من حيث التعريف والتنظيم..والجدير بالذكر أن هذه الطرق منذ نشأتها في القرن السادس تميزت عن بعضها بخصوصيات في منهج الذكر وأشكال السماع والأوراد ومواقيتها واختلاف أسانيد شيوخها الروحية واعترافها بهذا الشيخ دون ذاك. أما تعريف التصوف فلابد من استقاءه من واضعيه ، وهم وإن اختلفت تعريفاتهم مجمعون على أنه : التخلق بأخلاق الإسلام، ولفظ التخلق هنا يعني السعي لنيل تلك الأخلاق التي يعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم مظهرا عظيما لها حتى استحق الثناء من الله عزوجل..ولقد أثارت لفظة التصوف نقاشا وجدالا واسعين حتى تباينت الآراء حول التصوف جملة وتنحصر في: رأي يرد التصوف إلى معينه الأول وهو الزهاد الأوائل مميزا بين ماهو أصيل فيه وما هو دخيل إثر احتكاك المسلمين بغيرهم ووفود أفكار غريبة عن الإسلام ولعل أبرز من يمثل هذا التيار متمثل في كل من الإمام بن تيمية والإمام الشاطبي الأندلسي والمعروفان بنكيرهما الشديد على البدع والمبتدعة،ورأي يرد التصوف كله ويرفضه غير مميز بين قواعده وأصوله وبين ماهو دخيل فيه ليس منه وماهو أصيل فيه ينسجم مع أخلاق الكتاب والسنة النبوية، وهذا الرأي ممثل في تيار ينسب إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب ،أما الرأي الآخر فيقبل كلما نسب للتصوف قديما وحديثا سواء كان أفكارا أصيلة أم دخيلة وتكاد كل الطرق الصوفية اليوم تدرج ضمن هذا التيار وهو محل انتقادات الفقهاء قديما وحديثا وقد برز مع بروز الطرق الصوفية التي لا تعبر بالضرورة عن حقيقة التصوف بل يرى البعض أنه لابد من شروط لتصح نسبة طريقة ما للتصوف أهمها أن يكون شيخها ملما بالعلوم الشرعية بحيث لا عبرة بشيخ جاهل بها لأنه سيقود طريقته حتما للبدع والضلالات ولأن أي عبادة لا تكون شرعية إلا إذا وافقت كتاب الله وسنة رسوله وينظر في ذلك علماء النصوص الشرعية وفق ضوابط وقواعد ، والملاحظ أن هذه الطرق تكاثرت بشكل ملفت حين تدهور حال المسلمين حيث شطت بها الخرافات والبدع ما جعلها محاربة من قبل تيارات اعتبرت تجديدية كتيار محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية وقبله الشاطبي في الأندلس وبن تيمية في العراق..وعموما مر التصوف بمراحل جعلته أخيرا مذهبا مستقلا عن المذاهب الفقهية جملة ولم تعد أنشطته تنضبط بنصوص الشريعة مباشرة بل بنصوص الشيخ وأقواله ما يمكننا القول معه إن تدين المريد هو على تدين شيخه لا على مصدر التدين وهو كتاب الله وسنة رسوله،ولعل مما يكرس هذا التميز المذهبي ويعبر عنه بجلاء قول هؤلاء الصوفية الطرقيين :نحن "أهل الباطن" والفقهاء "أهل الظاهر"،وألفاظ من قبيل "علم الظاهر" أو "علم الأوراق" وهو عندهم الفقه و"علم الباطن" أو "علم الأذواق" وهو لديهم "المعارف والحقائق والأذواق" .. أما مفهوم الصحبة فلابد أن نشير إلى معناه الأصيل الذي لا يخرج عن أهمية صحبة المتعلم للمعلم المربي كما كان الصحابة الكرام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المعنى الذي تبلور في المرحلة الطرقية للتصوف والذي يرادف الخضوع للشيخ، فالصحبة في المعنى الأصيل تكون بغاية استفادة المصاحب – بكسر الحاء- من المصاحب – بفتح الحاء- على المستويين الأخلاقي والعلمي،ونجد لذلك شواهد في القرآن والسنة، ففي القرآن نجد قوله تعالى :"ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" وفي السنة الشريفة " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" وغير ذلك..ومعنى الخضوع خال تماما في هذا المعنى للصحبة بل كان المصاحب دوما يناقش ويعترض المصاحب ويقترح عليه، فحتى الصحابة الكرام كانوا يخالفون الرسول الأكرم فيما لا تعلق له بالوحي كما هو الحال مثلا بالنسبة لخباب بن الأرث في غزوة بدر الكبرى، وتاريخ الفكر الإسلامي يعطينا أمثلة كثيرة لتلامذة خالفوا شيوخهم لكن مع الإحتفاظ لهم بالمحبة والتأدب والإعتراف لهم بالفضل.. أما مفهوم الصحبة في المرحلة الطرقية للتصوف فقد تبلور بصورة مختلفة لمعناه التربوي الأصيل كما أشرت فالمريد ينبغي أن يحب شيخه أكثر من غيره ومظهر هذه المحبة ينبغي أن يكون في الدخول تحت الهيمنة الكاملة لهذا الشيخ والسير تحت عينه وتوجيهاته وإلهاماته وإشاراته والإمتثال لأوامره مطلقا دون اعتراض أو مناقشة حتى تنتقل "الأسرار" من ذاته إلى ذات المريد، ولا طريق إلى الله إلا بصحبة الشيخ بهذا المعنى ، وواضح أن هذا المعنى هو عين الخضوع المطلق للشيخ Ị وأذكر هنا أن المريد لا يخضع لشيخه هكذا إلا بعد أن يبرمج – إن صح التعبير- بخطابات الطريقة حول الشيخ باعتباره "المأذون من الله ورسوله" وصاحب "الإلهامات والكشوفات والرؤى الصادقة" و"المقام العالي" و"القطب الرباني" و"الغوث" وغير ذلك من المقاييس التي لا تتعلق إلا بالشيخ دون غيره، حتى يبرمج المريد تماما على الإقتناع التام بهذا فينخرط في مسلسل الخضوع والإستسلام للشيخ إلى درجة التعصب الأعمى للشيخ وللطريقة وهذا تقديس لم يكن حتى لرسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كان يناقش في أمور لا تتعلق بالوحي كما سلف بل إن الإسلام نفسه يحق للمرء أن يدرسه ويبحث فيه ويناقش والله تعالى أمر بعدم اقتفاء مالم يتأسس على علم "ولا تقف ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا"،ويالها من سلطة قد يسيل لها لعاب الحكام Ị إن هذا المعنى للصحبة في الأدبيات الطرقية والمرادف للخضوع كما اتضح يقودنا للحديث عن مفهوم آخر هو الوساطة ، وهي مصطلح عرف مع المفكر "روني جيرار" استمد من الأصول المسيحية الثليثية معناها كما يقول الدكتور إدريس نقوري : ( إنها تقليد، أو محاكاة لنموذج ما ، يسعى إلى تحقيق غرض معين، أي رغبة ملحة، يطمح المقلد إلى إشباعها، فهي مَدَامِيكَ ثلاثة أساسية: الذات، والوسيط، والموضوع). يهمنا الحديث هنا عن التربية الوساطية وهي كما يقول الدكتور فريد الأنصاري : " ترقية الفرد في مراتب التدين، لا من خلال ذات النصوص الشرعية، ولكن من خلال ذات (الوسيط) فيكون المتربي بهذا النهج متديناً بالإسلام ، كما فهمه الوسيط، أو كما التزمه، وليس بالضرورة كما هو في ذاته". والوساطة في الطريقة الصوفية هي وساطة روحية وهي التربية القائمة على أساس الوسيط الروحي ، أي الشيخ الصوفي، أو شيخ الطريقة، واضع الأوراد ، وصاحب الأحوال والمقامات، الذي يتدين مريدوه بواسطة أوراده ،وأحواله، ويسعون لاكتساب مقاماته، باعتباره "الشيخ الكامل" و"القطب الرباني" .فالأفراد السالكون على طريقته، المتربون على يده، كلهم نمط واحد ، ورغبة واحدة يتوسطون إلى رضى الله تعالى بمحاكاة صورة الشيخ ، المطبوعة في أذهانهم وأعمالهم.. [email protected]