يوسف أيت أقديم يكتب: هل تٌنذر إدانة مارين لوبان بنهاية الديمقراطية في فرنسا؟    الجيش الملكي يرفع التحدي أمام بيراميدز المصري في ربع نهائي الأبطال    أكثر من 1500 شخص يستفيدون من عفو ملكي بمناسبة عيد الفطر    الادخار الوطني بالمغرب يستقر في أكثر من 28 في المائة على وقع ارتفاع الاستهلاك    انخفاض جديد مرتقب في أسعار الغازوال بداية أبريل    أمير المؤمنين يؤدي صلاة عيد الفطر بمسجد أهل فاس بالرباط ويتقبل التهاني بهذه المناسبة السعيدة    مسيرة حاشدة في طنجة تُحيي عيد الفطر تضامناً مع غزة    الرئيسان الفرنسي والجزائري يؤكدان عودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها بعد أشهر من التوتر    أكثر من 122 مليون قاصد للحرمين الشريفين في شهر رمضان للعام 1446    العفو الملكي يشمل عبد القادر بلعيرج بعد 17 عامًا من السجن بتهمة الإرهاب    الجيش يختتم الاستعدادات في القاهرة    منتخب الفتيان يستعد لمواجهة زامبيا    أكثر من 122 مليون مسلم اعتمروا بالحرمين الشريفين في شهر رمضان    عامل إقليم بولمان يؤدي صلاة عيد الفطر وسط حشود كبيرة من المصلين بمصلى ميسور    اختتام فعاليات الدورة الرابعة لملتقى تجويد وحفظ القرآن الكريم في اكزناية    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    بعد إدانتها.. التجمع الوطني الفرنسي يطلق عريضة لدعم لوبان    الطقس غدا الثلاثاء.. سحب كثيفة وأمطار متفرقة    ارتفاع عدد الحجاج والمعتمرين إلى 18.5 مليون في 2024    الجزائر ترضخ للضغوط الفرنسية وتنهي أزمتها مع باريس    القهوة في خطر.. هل نشرب مشروبًا آخر دون أن ندري؟    حادث خطير في طنجة يوم العيد.. إصابة شابين في اصطدام دراجة نارية بسيارة مركونة    في ظل تراجع الصادرات إلى المغرب.. مربو المواشي الإسبان يطالبون بفتح أسواق جديدة    تعزيزات مشددة ليلة عيد الفطر تحبط محاولات للهجرة السرية إلى سبتة المحتلة    كأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة (الجولة 1/المجموعة 1).. منتخب زامبيا يفوز على تنزانيا (4-1)    "المطارات" ينبه إلى التحقق من رحلات    ارتفاع حصيلة ضحايا زلزال ميانمار إلى 2065 قتيلا    اتفاق ينصف حراس أمن مطرودين    الإمارات تقضي بإعدام قتلة "كوغان"    الجيش الملكي في اختبار صعب أمام بيراميدز بالقاهرة    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    المصور محمد رضا الحوات يبدع في تصوير إحياء صلاة عيد الفطر بمدينة العرائش بلمسة جمالية وروحية ساحرة    ترامب يزور السعودية منتصف ماي المقبل    ست حالات اختناق بسبب غاز أحادي أكسيد الكربون ليلة عيد الفطر    نبيل باها: الانتصار ثمرة عمل طويل    الملك محمد السادس يؤدي صلاة عيد الفطر المبارك بمسجد أهل فاس بالمشور السعيد بالرباط    الملك محمد السادس يتوصل بتهانئ ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية بمناسبة عيد الفطر المبارك    وكالة بيت مال القدس تتوج عمليتها الإنسانية الرمضانية في القدس بتوزيع 200 كسوة عيد على الأيتام المكفولين من قبل المؤسسة    كأس العالم لسلاح سيف المبارزة بمراكش: منتخبا هنغاريا (ذكور) والصين (سيدات) يفوزان بالميدالية الذهبية في منافسات الفرق    صفقة ب367 مليون درهم لتنفيذ مشاريع تهيئة وتحويل ميناء الناظور غرب المتوسط إلى قطب صناعي ولوجستي    ما لم تقله "ألف ليلة وليلة"    إشباع الحاجة الجمالية للإنسان؟    لماذا نقرأ بينما يُمكِننا المشاهدة؟    عفو ملكي عن عبد القادر بلعيرج بمناسبة عيد الفطر 1446 ه.. من هو؟    مطالب لربط المسؤولية بالمحاسبة بعد أزيد من 3 سنوات على تعثر تنفيذ اتفاقية تطوير سياحة الجبال والواحات بجهة درعة تافيلالت    طواسينُ الخير    ادريس الازمي يكتب: العلمي غَالطَ الرأي العام.. 13 مليار درهم رقم رسمي قدمته الحكومة هدية لمستوردي الأبقار والأغنام    كأس إفريقيا.. المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يطيح بأوغندا بخماسية نظيفة    المعهد العالي للفن المسرحي يطلق مجلة "رؤى مسارح"    الموت يفجع الكوميدي الزبير هلال بوفاة عمّه    دراسة تؤكد أن النساء يتمتعن بحساسية سمع أعلى من الرجال    منظمة الصحة العالمية تواجه عجزا ماليا في 2025 جراء وقف المساعدات الأمريكية    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    انعقاد الدورة الحادية عشر من مهرجان رأس سبارطيل الدولي للفيلم بطنجة    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    هيئة السلامة الصحية تدعو إلى الإلتزام بالممارسات الصحية الجيدة عند شراء أو تحضير حلويات العيد    أكاديمية الأوسكار تعتذر لعدم دفاعها وصمتها عن إعتقال المخرج الفلسطيني حمدان بلال    تحذير طبي.. خطأ شائع في تناول الأدوية قد يزيد خطر الوفاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البعد الصوفي في رواية:حدثنا أبو هريرة لمحمود المسعدي
نشر في العلم يوم 16 - 07 - 2009

توسل الصوفية بالشعرية للتعبير عن مواجيدهم و مكابداتهم ومكاشفاتهم، و توسل المبدع بالتصوف لدغدغة مخيلته بما يوفره لها من فسحات للتأمل و شحذ للتخييل، و بحثا عن لغة جديدة تفيد بانزياحها العملية الإبداعية، ولا نبعد باعث التجربة الصوفية عند البعض.كما أننا لا نبعد حضور البعد أو الخطاب الصوفي عند البعض دون قصد لذلك،الأمر الذي يجعلنا نعتبر التصوف كتجربة روحية في بعدها،قد تلتقي مع تجارب أخرى يكون لها نفس الطابع(التأمل، الشوق، الإنعتاق...التجاوز...).
و بصفتنا كدارسين للأدب الصوفي أو المتأثر بالتصوف، فإننا سنعمل على الكشف عن البعد الصوفي في نص هو (عبارة عن مقطع من رواية "حدثنا أبو هريرة " لمحمود المسعدي)1. يقول فيه :
( حدث أبو هريرة قال:
جاءني صديق لي يوما فقال:أحب أن أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك، فهل لك في ذلك؟فقلت:إن وجوه الانصراف عن الدنيا كثيرة، و أحب أن تعرفني أيها اخترت لي.فقال:أخفها وقعا على النفس و ألذها مساغا. قلت:إني أخاف أن يكون انصرافا ليس بعده عود، و لست متهيئا للرحيل.أفلا سبيل إلى الإفصاح؟قال:لا. و ضرب بكفه على كتفي. قلت:إذن يكون ذلك متى؟قال:غدا.
فلما كان من الغد سبق الفجرَ إلي. و كنت لا أعهده مبكارا. فاستغربته في تلك الساعة وقلت:هممت أن أقسم أنك لم تبكر كيومك قط. ما الذي عجل بك؟قال:ننصرف لساعتنا. قلت:مهلا يا عافاك الله.فإني لم أتوضأ وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.نتوضأ فنصلي ثم ننصرف.فقال:لو فعلنا لفاتنا خير كثير.دع الصلاة اليوم فالله غافرها لك. و لنذهب فليس منه بد.فلم أجد إلا القيام معه.فقمت و أنا أستغفر الله و أصلح من ثيابي. فذهب بي إلى بيته،و كانت بفنائه نجيبتان مرحلتان،فقال:اركب هاته. ففعلت وركب الأخرى.
ثم خرجنا من مكة و انصرفنا عن طريق القوافل، و سرنا حثيثا حتى أصبنا الرمال وجعلتِ النجيبتان تغرسان و تقلعان فإذا خطاهما لينة عذبة كأنها مس خفيف،و نحن نصوب و نصعد من كثيب إلى كثيب.و كنا في غور إذ قال:الآن نترجل.فقلت:و الله ذاك ما كنت أريد، فقد أخذ مني الرمل و لونه ولطفه.ثم ترجلنا و أنحنا راحلتينا و عقلناهما وجلسنا على الرمل. فجعلت أضرب برجلي و أقلب يدي فأجد منه كمس لطيف النهود، وكانت قد نامت فيه برودة الليل فهو كاليقين بعد الحيرة.و صاحبي مستلق مٌصيخٌ كأنه يتوقع سمعا.
و مضت ساعة.ثم إذا هو يومئ بيده أن اصعد في الكثيب.فصعدت فرأيت على رأس الكثيب المقابل من وجه الشرق شبحين.و كان عاليا فكأنهما على صفحة السماء المبيضة.وقال لي صديقي:انظر و لا تتكلم.و تبينت الشبحين فتبين لي فتاة و فتى،في زي آدم و حواء،ممدودان جنبا إلى جنب متجهان إلى مطلع الشمس،و كانت على وشك البزوغ فالمشرق كلهيب النار.)
رغم قصر النص إلا أنه يتميز بالاقتصاد اللغوي و بالكثافة الدلالية،هذه السمة التي يمكن أن نعتبرها أول أثر صوفي في النص،على اعتبار أن الكتابة الصوفية تتجاوز مقولة" ما قل و دل" إلى مقولة "إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" على حد قول النفري.و قد تميز الأدب النثري الصوفي بطغيان البنية الكشفية التي تختزل التعبير اللغوي مقابل تمطيط المعنى الدلالي، لذلك تفاجئنا مثلا الشروح الغزيرة على الصلاة المشيشية،أو على الحكم العطائية و غيرهما .
فبعدما تملكنا النص في القراءة الأولى، نسعى في القراءة الناقدة الكشف عما يزخر به من بعد صوفي، والذي تبدى لنا على الشكل الآتي:
1) في مستوى الخطاب
أ?- العنوان:انطلاقا من عنوان النص،فإنه يوقفنا اسم "أبو هريرة" الذي يحيلنا على المرجعية الدينية. والفعل الماضي "حدثنا" يوهمنا بحديث نبوي ما، خصوصا و أن أبا هريرة من رجال الحديث و الرواية. و يتستر على هذا المعنى قول السارد:»حدث أبو هريرة قال:«فهذه الجملة محكي قول لطالما تصدرت الأحاديث النبوية بعد السند.لكن بعد قراءة الجملة الأولى بعد هذا المحكي:»جاءني صديق لي يوما«يتكسر أفق انتظارنا،لكون الجملة تضم لفظة "صديق" الغريبة عن المعجم العربي القديم(أو عن سند الأحاديث)وبالتالي فنحن لسنا أمام حديث نبوي بل أمام نص إبداعي استثمر البعد الرمزي لهذه الشخصية الدينية،و لما نعلم أن هذا الصديق قد جاء عند أبي هريرة رغبة في أن يصرفه عن الدنيا عامة،و أبو هريرة من الصحابة الأجلاء(و إن كان النص لا يعني أبا هريرة هذا)، يبرز الأثر الصوفي في النص،وذلك أن الصوفية يفرقون بين أهل الشريعة،و أهل الطريقة و أهل الحقيقة 3.
ب- اللغة الرمزية: أغلب كتابات الصوفية توسلت بالرمز ، يقول نيكلسون:"فالصوفية قد اصطنعوا الأسلوب الرمزي لأنهم لم يجدوا طريقا آخر ممكنا،يترجمون به عن رياضتهم الصوفية"4،وكذلك لأنهم أرادوا إخفاء أسرارهم كما يقول ابن الفارض:
رموز كنوز معاني إشارة
بمكنون ما تخفي السرائر حفت
و نلمس في النص هذه الرمزية، في قول صديق أبي هريرة؛ إذ يخبره عن وجه الانصراف عن الدنيا الذي اختاره له،فيقول:»...أخفها وقعا على النفس وألذها مساغا«،اكتفى بهذا دون أن يفصح له عن المقصود،ودون تحقيق الوظيفة الإفهامية للخطاب؛حيث لم يستطيع أبو هريرة كشف هذه الرمزية،وسأله قائلا:"أفلا سبيل إلى الإفصاح؟"،فأجاب ب"لا"،وضرب بكفه على كتفه.فالموقف أو الأمر لا يحتمل كشف السر قبل معاينته مباشرة.
ج)المصطلح: وإضافة للرمزية يبرز الأثر الصوفي في النص من خلال المصطلح؛ومن أول المصطلحات التي تباشرنا في النص نجد مصطلح "النفس"،والنفس حسب القشيري"فهي التي يراد بها ما كان معلولا من أوصاف العبد ومذموما من أخلاقه وأفعاله،وأشد أحكام النفس وأصعبها توهمها أن شيئا منها حسن أو أن لها استحقاق قدر"5.
وعندما نقارن دلالة المصطلح الصوفية مع سياقه في النص:"أخفها وقعا على النفس وألذها مساغا" نتبين أنه وُظِّف من غير دلالته تلك،وهذه الملاحظة تنطبق على جميع المصطلحات التي رصدناها.ومنها أيضا:
-"الاستغفار"،يقول أبو هريرة(=السارد):"فقمت وأنا أستغفر الله".وللاستغفار حضور قوي في أوراد الطرق الصوفية ،ففي الورد التجاني مثلا، يردد مائة صباحا ومثلها مساءً6 لتطهير النفس من الكدورات والذنوب.
- "اليقين"،جاء في النص مشبها به؛حيث شبه به الرمل ،في قول السارد(=أبو هريرة(:"وكانت قد نامت به برودة الليل فهو كاليقين بعد الحيرة"
واليقين في اصطلاح الصوفية هو:سكون القلب إلى الله بعلم لا يتغير ولا يتحول،ولا يقلب ولا يزول عند هيجان المحركات،أو ارتفاع الريب في مشاهدة الغيب.7
-أما "الحيرة" فهي عندهم:"عتبة أساسية من عتبات السلوك والكشف الصوفيين، هي بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم، تحجبهم عن التفكر والفهم والتأمل"8.
فرغم توظيف هذين المصطلحين مجردين عن معناهما الصوفي،إلا أن توظيفهما في السياق؛حيث أردفت الحيرة باليقين،لا يثبت جهل السارد بثقلهما الرمزي.
2)في مستوى الفكر
أ?) الصحبة:نجد الأثر الصوفي واضحا انطلاقا من العلاقة بين الشخصيتين "أبو هريرة و صديقه" المجهول في النص؛حيث يكتفي السارد بالكشف عنه من خلال قول أبي هريرة الآتي:"جاءني صديق لي يوما"،فطابع العلاقة بينهما هو الصداقة التي يمكن أن تبلغ إلى حدود قصوى،تصل إلى التضحية بالمال والنفس.ومن هذا ما يضمه مفهوم "الصحبة" عند الصوفية. خصوصا و أن هذا الصديق قد جاءه ليصرفه عن الدنيا»...أحب أن أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك«.
و أن الخطاب كان عموديا من أعلى إلى أسفل أي من الصديق إلى أبي هريرة،و الذي يتجلى في أفعال الأمر التي تطلب حصول الفعل من المخاطب على وجه الاستعلاء مع الإلزام ،مثل قوله:"ننصرف لساعتنا" "دع الصلاة اليوم" "و لنذهب فليس منه بد" "الآن نترجل" "انظر و لا تتكلم".
فالانصياع والخضوع و التسليم بلغ درجة ترك الصلاة،و الاستجابة لطلب أمري وإن كان إيماءً،يقول:»ثم إذا هو يومئ بيده أن أصعد في الكثيب، فصعدت«
و تجعل مثلا الطريقة القادرية البودشيشية من شروط الصحبة،حسن الاستماع،و حسن الاتباع وحسن الأدب9.
ب)السلوك:و يبرز البعد الصوفي أيضا في تغيير الموقف من الاتصال ب (الدنيا) إلى الانفصال(الانصراف عنها) وهي غاية كل متصوف عزم على السلوك(و تبقى درجة الاتصال بالدنيا رهينة بكل طريقة أو بطبيعة كل مريد).
و لتحقيق هذا الانفصال استعانت الشخصيتين بنجيبتين مرحلتين للخروج من مكة، فهي عدة السفر إذن، والنجيب هو الفاضل من كل حيوان، والنجيب من الإبل هو القوي منها، الخفيف السريع.10 وهذا السفر ليس للمتعة أو الصيد أو التجارة،يقول أبو هريرة(=السارد):»...و انصرفنا عن طريق القوافل«،فهو سفر للانصراف عن الدنيا،و عن ملهاتها التي ترمز إليها القوافل ،انصراف إلى الصحراء بفضاءاتها المفتوحة الفسيحة اللامحدودة ،شبه منعدمة الحركة،و التي توفر كل الشروط لسفر روحي لا حدود له،وهذا ما يصبو إليه الصوفي بحثا عن محفزات أقوى تأثيرا على ملكاته التأملية /التدبرية.عكس مكة التي يرمز بها إلى المدينة(بصفة عامة)و التي جمعت الناس من كل فج عميق حتى أن خلوة الرسول [ص] لم يوفرها له إلا غار حراء.
ج) المكان: و يبرز أيضا البعد الصوفي في هذا النص على مستوى المكان:
يقول أبو هريرة:»فصعدت فرأيت على رأس الكثيب المقابل من وجه الشرق شبحين«فالمراد لا يتجلى في الكثيب نفسه بصفته مكانا،و لكن على مستوى رأسه المقابل لوجه الشرق.و الإشارة لارتفاع المكان الذي له علاقة بالتجلي نجدها،في النص القرآني ،يقول تعالى:»ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانَه فسوف تراني فلما تجلى ربُّه للجبل جعله دكًّا وخرَّ موسى صعِقا فلما أفاق قال سبحانك تُبتُ إليكَ وأنا أول المؤمنين«11.
و الصوفية اتخذوا من الجبل الدال على الارتفاع رمزا لتجلي الذات الإلهية ،حيث مثلا في منطق الطير لفريد الدين العطار،يشار إلى مكان وجود طائر "السيمرغ"12(ملك الطيور) المرموز به للذات الإلهية وراء جبل قاف »انثروا الأرواح وسيروا في الطريق،و امضوا قدما نحو تلك الأعتاب،فلنا ملك بلا ريب يقيم خلف جبل يقال له جبل قاف،اسمه "السيمرغ" ملك الطيور(...) مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع«13.
وإذا اقترن الجبل في الآية بالنور الإلهي حسب "تفسير الجلالين" (حيث ظهر من نور الله، قدر نصف أنملة الخنصر،وجعل من الجبل دكّا)14.
نجد أيضا في النص اقتران رأس الكثيب بالشمس،والتي شبهها بلهيب النار وهي فقط(أي الشمس) على وشك البزوغ،يقول: » وكانت على وشك البزوغ فالمشرق كلهيب النار« أما إذا بزغت فكيف ستبدو؟خصوصا وأن المشبه به اقترن باللهيب،في حين أنه كان بالإمكان الاقتصار على النار،لكن الكاتب تعمد تبئير الصورة،وهو من مميزات الكتابة الصوفية.
و إذا كانت الأمكنة ،الجبل في الآية أو جبل قاف في منطق الطير، قد تمت الدلالة إليها لتجلي الذات الإلهية سواء رمزا أو حقيقة،فإن رأس الكثيب أيضا دل به لمعانقة ما يخفي وراءه،و هما "شبحين" يقول أبو هريرة :»...و تبينت الشبحين فتبين لي فتاة وفتى«.
خاتمة :
لقد أسعفنا النص موضوع الدراسة في استكناه البعد الصوفي داخله، سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى الفكر،ونحن لا ندعي أننا ألممنا بجميع جوانب هذا البعد،لذلك فقراءتنا تبقي على أسئلة،لعلها تكون مشروع قراءة جديدة،ما دام النص من منظور جمالية التلقي ،يتضمن فعالية لا يستوعب القراء مجمل مكوناتها.
1 - نفس النص حلله حسين الواد في كتابه"في مناهج الدراسات الأدبية"منشورات الجامعة،السلسلة الأدبية-2- يناير 1984.ومنه أخذنا النص .ونحن في هذه الدراسة نقدم قراءة مختلفة عن قراءته باعتبار أن "كل تأويل جديد يجيب عن الأسئلة التي تظل عالقة بحكم أن النص الفني يتضمن فعالية لم يستوعب القراء السابقون مجمل مكوناتها عبر ردود فعلهم المختلفة"(القراءة التفاعلية-دراسات لنصوص شعرية حديثة،ادريس بلمليح،دار توبقال للنشر، سلسلة نصوص أدبية،ط1/2000).
2 -للتوسع في ماهية الخطاب الصوفي ،راجع"الخطاب وخطاب الحقيقة"لأحمد الطريبق أحمد،مجلة فكر ونقد،السنة 4،العدد40/يونيو2001.ص61 وما بعدها.
3 - الشريعة هي:معرفة السلوك إلى الله تعالى.والطريقة هي:سلوك طريق الشريعة،أي العمل بها لإمكانية النظر.والحقيقة هي:دوام النظر إليه تعالى.(انظر "السير والسلوك إلى ملك الملوك"للشيخ قاسم بن صلاح الدين الخاني(1109ه)،دراسة وتحقيق:سعيد عبد الفتاح،منشورات مكتبة الثقافة الدينية،ط1/2002.في الهامش،ص44.)
4 -الصوفية في الإسلام، ترجمة وتعليق نور الدين شريبة،منشورات مكتبة الخانجي،1951م/1381ه ،ص101./وتوسل الصوفية بالرمز له دوافع أخرى.
5 - الرسالة القشيرية في علم التصوف،أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري النيسابوري،تحقيق وإعداد معروف مصطفى زريق،المكتية العصرية للطباعة والنشر صيدا بيروت،ط1/1461ه - 2001م،ص44.
6 - انظر الأضواء الصافية على الأوراد التيجانية،سعد بن عمر بن سعيد جليا الفوتي،الطبعة الأولى 1977م،ص26/28.
- معراج التشوف إلى حقائق التصوف،عبد الله أحمد بنعجيبة،تقديم وتحقيقعبد المجيد خيالي،مركز التراث الثقافي المغربي-البيضاء،ط1/2004.7
8 - مصطلحات التصوف الفلسفي،ص90
- انظر "نبراس المريد في طريق التوحيد" لأحمد قسطاس منشورات مجلة المريد 1414/1415ه ص135و ما بعدها. 9
-انظر "لسان العرب" لأبي الفضل جمال الدين محمدبن مكرم بن منظور،المجلد 14،دار صادر بيروت،ط3/2004،ص190.10
- سورة الأعراف، الآية144.11
13- طائر عملاق في الأساطير الفارسية أجنحته ضخمة كالسحاب،ويحط السيمئغ عللى شجرة سحرية هي "جوكينا" تنبث بذورا لجميع الحياة النباتية،وعندما يتحرك تتساقط آلاف الغصون والفروع في جميع الاتجاهات،ثم يجمعها طائر آخر هو "كامروش" حيث يحملها إلى المطر"تشربا" الذي يقوم بتجميدها.(معجم ديانات وأساطير العالم،إمام عبد الفتاح إمام،المجلد الثالث،مكتبة مدبولي،دون تاريخ)
14- منطق الطير،فريد الدي العطار النيسابوري،ترجمة وتعليق:د.بديع محمد جمعة،مراجعة وتقديم:د.عبد المنعم محمد حسنين،منشورات دار الرائد العربي،ط1/1975،ص105.
14- انظر" تفسير الجلالين" لجلال الدين محمد بن احمد المحلي،و جلال لدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي،ويليه كتاب أسباب النزول للسيوطي،دار المعرفة بيروت-لبنان،ص221.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.