ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البعد الصوفي في رواية:حدثنا أبو هريرة لمحمود المسعدي
نشر في العلم يوم 16 - 07 - 2009

توسل الصوفية بالشعرية للتعبير عن مواجيدهم و مكابداتهم ومكاشفاتهم، و توسل المبدع بالتصوف لدغدغة مخيلته بما يوفره لها من فسحات للتأمل و شحذ للتخييل، و بحثا عن لغة جديدة تفيد بانزياحها العملية الإبداعية، ولا نبعد باعث التجربة الصوفية عند البعض.كما أننا لا نبعد حضور البعد أو الخطاب الصوفي عند البعض دون قصد لذلك،الأمر الذي يجعلنا نعتبر التصوف كتجربة روحية في بعدها،قد تلتقي مع تجارب أخرى يكون لها نفس الطابع(التأمل، الشوق، الإنعتاق...التجاوز...).
و بصفتنا كدارسين للأدب الصوفي أو المتأثر بالتصوف، فإننا سنعمل على الكشف عن البعد الصوفي في نص هو (عبارة عن مقطع من رواية "حدثنا أبو هريرة " لمحمود المسعدي)1. يقول فيه :
( حدث أبو هريرة قال:
جاءني صديق لي يوما فقال:أحب أن أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك، فهل لك في ذلك؟فقلت:إن وجوه الانصراف عن الدنيا كثيرة، و أحب أن تعرفني أيها اخترت لي.فقال:أخفها وقعا على النفس و ألذها مساغا. قلت:إني أخاف أن يكون انصرافا ليس بعده عود، و لست متهيئا للرحيل.أفلا سبيل إلى الإفصاح؟قال:لا. و ضرب بكفه على كتفي. قلت:إذن يكون ذلك متى؟قال:غدا.
فلما كان من الغد سبق الفجرَ إلي. و كنت لا أعهده مبكارا. فاستغربته في تلك الساعة وقلت:هممت أن أقسم أنك لم تبكر كيومك قط. ما الذي عجل بك؟قال:ننصرف لساعتنا. قلت:مهلا يا عافاك الله.فإني لم أتوضأ وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.نتوضأ فنصلي ثم ننصرف.فقال:لو فعلنا لفاتنا خير كثير.دع الصلاة اليوم فالله غافرها لك. و لنذهب فليس منه بد.فلم أجد إلا القيام معه.فقمت و أنا أستغفر الله و أصلح من ثيابي. فذهب بي إلى بيته،و كانت بفنائه نجيبتان مرحلتان،فقال:اركب هاته. ففعلت وركب الأخرى.
ثم خرجنا من مكة و انصرفنا عن طريق القوافل، و سرنا حثيثا حتى أصبنا الرمال وجعلتِ النجيبتان تغرسان و تقلعان فإذا خطاهما لينة عذبة كأنها مس خفيف،و نحن نصوب و نصعد من كثيب إلى كثيب.و كنا في غور إذ قال:الآن نترجل.فقلت:و الله ذاك ما كنت أريد، فقد أخذ مني الرمل و لونه ولطفه.ثم ترجلنا و أنحنا راحلتينا و عقلناهما وجلسنا على الرمل. فجعلت أضرب برجلي و أقلب يدي فأجد منه كمس لطيف النهود، وكانت قد نامت فيه برودة الليل فهو كاليقين بعد الحيرة.و صاحبي مستلق مٌصيخٌ كأنه يتوقع سمعا.
و مضت ساعة.ثم إذا هو يومئ بيده أن اصعد في الكثيب.فصعدت فرأيت على رأس الكثيب المقابل من وجه الشرق شبحين.و كان عاليا فكأنهما على صفحة السماء المبيضة.وقال لي صديقي:انظر و لا تتكلم.و تبينت الشبحين فتبين لي فتاة و فتى،في زي آدم و حواء،ممدودان جنبا إلى جنب متجهان إلى مطلع الشمس،و كانت على وشك البزوغ فالمشرق كلهيب النار.)
رغم قصر النص إلا أنه يتميز بالاقتصاد اللغوي و بالكثافة الدلالية،هذه السمة التي يمكن أن نعتبرها أول أثر صوفي في النص،على اعتبار أن الكتابة الصوفية تتجاوز مقولة" ما قل و دل" إلى مقولة "إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" على حد قول النفري.و قد تميز الأدب النثري الصوفي بطغيان البنية الكشفية التي تختزل التعبير اللغوي مقابل تمطيط المعنى الدلالي، لذلك تفاجئنا مثلا الشروح الغزيرة على الصلاة المشيشية،أو على الحكم العطائية و غيرهما .
فبعدما تملكنا النص في القراءة الأولى، نسعى في القراءة الناقدة الكشف عما يزخر به من بعد صوفي، والذي تبدى لنا على الشكل الآتي:
1) في مستوى الخطاب
أ?- العنوان:انطلاقا من عنوان النص،فإنه يوقفنا اسم "أبو هريرة" الذي يحيلنا على المرجعية الدينية. والفعل الماضي "حدثنا" يوهمنا بحديث نبوي ما، خصوصا و أن أبا هريرة من رجال الحديث و الرواية. و يتستر على هذا المعنى قول السارد:»حدث أبو هريرة قال:«فهذه الجملة محكي قول لطالما تصدرت الأحاديث النبوية بعد السند.لكن بعد قراءة الجملة الأولى بعد هذا المحكي:»جاءني صديق لي يوما«يتكسر أفق انتظارنا،لكون الجملة تضم لفظة "صديق" الغريبة عن المعجم العربي القديم(أو عن سند الأحاديث)وبالتالي فنحن لسنا أمام حديث نبوي بل أمام نص إبداعي استثمر البعد الرمزي لهذه الشخصية الدينية،و لما نعلم أن هذا الصديق قد جاء عند أبي هريرة رغبة في أن يصرفه عن الدنيا عامة،و أبو هريرة من الصحابة الأجلاء(و إن كان النص لا يعني أبا هريرة هذا)، يبرز الأثر الصوفي في النص،وذلك أن الصوفية يفرقون بين أهل الشريعة،و أهل الطريقة و أهل الحقيقة 3.
ب- اللغة الرمزية: أغلب كتابات الصوفية توسلت بالرمز ، يقول نيكلسون:"فالصوفية قد اصطنعوا الأسلوب الرمزي لأنهم لم يجدوا طريقا آخر ممكنا،يترجمون به عن رياضتهم الصوفية"4،وكذلك لأنهم أرادوا إخفاء أسرارهم كما يقول ابن الفارض:
رموز كنوز معاني إشارة
بمكنون ما تخفي السرائر حفت
و نلمس في النص هذه الرمزية، في قول صديق أبي هريرة؛ إذ يخبره عن وجه الانصراف عن الدنيا الذي اختاره له،فيقول:»...أخفها وقعا على النفس وألذها مساغا«،اكتفى بهذا دون أن يفصح له عن المقصود،ودون تحقيق الوظيفة الإفهامية للخطاب؛حيث لم يستطيع أبو هريرة كشف هذه الرمزية،وسأله قائلا:"أفلا سبيل إلى الإفصاح؟"،فأجاب ب"لا"،وضرب بكفه على كتفه.فالموقف أو الأمر لا يحتمل كشف السر قبل معاينته مباشرة.
ج)المصطلح: وإضافة للرمزية يبرز الأثر الصوفي في النص من خلال المصطلح؛ومن أول المصطلحات التي تباشرنا في النص نجد مصطلح "النفس"،والنفس حسب القشيري"فهي التي يراد بها ما كان معلولا من أوصاف العبد ومذموما من أخلاقه وأفعاله،وأشد أحكام النفس وأصعبها توهمها أن شيئا منها حسن أو أن لها استحقاق قدر"5.
وعندما نقارن دلالة المصطلح الصوفية مع سياقه في النص:"أخفها وقعا على النفس وألذها مساغا" نتبين أنه وُظِّف من غير دلالته تلك،وهذه الملاحظة تنطبق على جميع المصطلحات التي رصدناها.ومنها أيضا:
-"الاستغفار"،يقول أبو هريرة(=السارد):"فقمت وأنا أستغفر الله".وللاستغفار حضور قوي في أوراد الطرق الصوفية ،ففي الورد التجاني مثلا، يردد مائة صباحا ومثلها مساءً6 لتطهير النفس من الكدورات والذنوب.
- "اليقين"،جاء في النص مشبها به؛حيث شبه به الرمل ،في قول السارد(=أبو هريرة(:"وكانت قد نامت به برودة الليل فهو كاليقين بعد الحيرة"
واليقين في اصطلاح الصوفية هو:سكون القلب إلى الله بعلم لا يتغير ولا يتحول،ولا يقلب ولا يزول عند هيجان المحركات،أو ارتفاع الريب في مشاهدة الغيب.7
-أما "الحيرة" فهي عندهم:"عتبة أساسية من عتبات السلوك والكشف الصوفيين، هي بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم، تحجبهم عن التفكر والفهم والتأمل"8.
فرغم توظيف هذين المصطلحين مجردين عن معناهما الصوفي،إلا أن توظيفهما في السياق؛حيث أردفت الحيرة باليقين،لا يثبت جهل السارد بثقلهما الرمزي.
2)في مستوى الفكر
أ?) الصحبة:نجد الأثر الصوفي واضحا انطلاقا من العلاقة بين الشخصيتين "أبو هريرة و صديقه" المجهول في النص؛حيث يكتفي السارد بالكشف عنه من خلال قول أبي هريرة الآتي:"جاءني صديق لي يوما"،فطابع العلاقة بينهما هو الصداقة التي يمكن أن تبلغ إلى حدود قصوى،تصل إلى التضحية بالمال والنفس.ومن هذا ما يضمه مفهوم "الصحبة" عند الصوفية. خصوصا و أن هذا الصديق قد جاءه ليصرفه عن الدنيا»...أحب أن أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك«.
و أن الخطاب كان عموديا من أعلى إلى أسفل أي من الصديق إلى أبي هريرة،و الذي يتجلى في أفعال الأمر التي تطلب حصول الفعل من المخاطب على وجه الاستعلاء مع الإلزام ،مثل قوله:"ننصرف لساعتنا" "دع الصلاة اليوم" "و لنذهب فليس منه بد" "الآن نترجل" "انظر و لا تتكلم".
فالانصياع والخضوع و التسليم بلغ درجة ترك الصلاة،و الاستجابة لطلب أمري وإن كان إيماءً،يقول:»ثم إذا هو يومئ بيده أن أصعد في الكثيب، فصعدت«
و تجعل مثلا الطريقة القادرية البودشيشية من شروط الصحبة،حسن الاستماع،و حسن الاتباع وحسن الأدب9.
ب)السلوك:و يبرز البعد الصوفي أيضا في تغيير الموقف من الاتصال ب (الدنيا) إلى الانفصال(الانصراف عنها) وهي غاية كل متصوف عزم على السلوك(و تبقى درجة الاتصال بالدنيا رهينة بكل طريقة أو بطبيعة كل مريد).
و لتحقيق هذا الانفصال استعانت الشخصيتين بنجيبتين مرحلتين للخروج من مكة، فهي عدة السفر إذن، والنجيب هو الفاضل من كل حيوان، والنجيب من الإبل هو القوي منها، الخفيف السريع.10 وهذا السفر ليس للمتعة أو الصيد أو التجارة،يقول أبو هريرة(=السارد):»...و انصرفنا عن طريق القوافل«،فهو سفر للانصراف عن الدنيا،و عن ملهاتها التي ترمز إليها القوافل ،انصراف إلى الصحراء بفضاءاتها المفتوحة الفسيحة اللامحدودة ،شبه منعدمة الحركة،و التي توفر كل الشروط لسفر روحي لا حدود له،وهذا ما يصبو إليه الصوفي بحثا عن محفزات أقوى تأثيرا على ملكاته التأملية /التدبرية.عكس مكة التي يرمز بها إلى المدينة(بصفة عامة)و التي جمعت الناس من كل فج عميق حتى أن خلوة الرسول [ص] لم يوفرها له إلا غار حراء.
ج) المكان: و يبرز أيضا البعد الصوفي في هذا النص على مستوى المكان:
يقول أبو هريرة:»فصعدت فرأيت على رأس الكثيب المقابل من وجه الشرق شبحين«فالمراد لا يتجلى في الكثيب نفسه بصفته مكانا،و لكن على مستوى رأسه المقابل لوجه الشرق.و الإشارة لارتفاع المكان الذي له علاقة بالتجلي نجدها،في النص القرآني ،يقول تعالى:»ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانَه فسوف تراني فلما تجلى ربُّه للجبل جعله دكًّا وخرَّ موسى صعِقا فلما أفاق قال سبحانك تُبتُ إليكَ وأنا أول المؤمنين«11.
و الصوفية اتخذوا من الجبل الدال على الارتفاع رمزا لتجلي الذات الإلهية ،حيث مثلا في منطق الطير لفريد الدين العطار،يشار إلى مكان وجود طائر "السيمرغ"12(ملك الطيور) المرموز به للذات الإلهية وراء جبل قاف »انثروا الأرواح وسيروا في الطريق،و امضوا قدما نحو تلك الأعتاب،فلنا ملك بلا ريب يقيم خلف جبل يقال له جبل قاف،اسمه "السيمرغ" ملك الطيور(...) مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع«13.
وإذا اقترن الجبل في الآية بالنور الإلهي حسب "تفسير الجلالين" (حيث ظهر من نور الله، قدر نصف أنملة الخنصر،وجعل من الجبل دكّا)14.
نجد أيضا في النص اقتران رأس الكثيب بالشمس،والتي شبهها بلهيب النار وهي فقط(أي الشمس) على وشك البزوغ،يقول: » وكانت على وشك البزوغ فالمشرق كلهيب النار« أما إذا بزغت فكيف ستبدو؟خصوصا وأن المشبه به اقترن باللهيب،في حين أنه كان بالإمكان الاقتصار على النار،لكن الكاتب تعمد تبئير الصورة،وهو من مميزات الكتابة الصوفية.
و إذا كانت الأمكنة ،الجبل في الآية أو جبل قاف في منطق الطير، قد تمت الدلالة إليها لتجلي الذات الإلهية سواء رمزا أو حقيقة،فإن رأس الكثيب أيضا دل به لمعانقة ما يخفي وراءه،و هما "شبحين" يقول أبو هريرة :»...و تبينت الشبحين فتبين لي فتاة وفتى«.
خاتمة :
لقد أسعفنا النص موضوع الدراسة في استكناه البعد الصوفي داخله، سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى الفكر،ونحن لا ندعي أننا ألممنا بجميع جوانب هذا البعد،لذلك فقراءتنا تبقي على أسئلة،لعلها تكون مشروع قراءة جديدة،ما دام النص من منظور جمالية التلقي ،يتضمن فعالية لا يستوعب القراء مجمل مكوناتها.
1 - نفس النص حلله حسين الواد في كتابه"في مناهج الدراسات الأدبية"منشورات الجامعة،السلسلة الأدبية-2- يناير 1984.ومنه أخذنا النص .ونحن في هذه الدراسة نقدم قراءة مختلفة عن قراءته باعتبار أن "كل تأويل جديد يجيب عن الأسئلة التي تظل عالقة بحكم أن النص الفني يتضمن فعالية لم يستوعب القراء السابقون مجمل مكوناتها عبر ردود فعلهم المختلفة"(القراءة التفاعلية-دراسات لنصوص شعرية حديثة،ادريس بلمليح،دار توبقال للنشر، سلسلة نصوص أدبية،ط1/2000).
2 -للتوسع في ماهية الخطاب الصوفي ،راجع"الخطاب وخطاب الحقيقة"لأحمد الطريبق أحمد،مجلة فكر ونقد،السنة 4،العدد40/يونيو2001.ص61 وما بعدها.
3 - الشريعة هي:معرفة السلوك إلى الله تعالى.والطريقة هي:سلوك طريق الشريعة،أي العمل بها لإمكانية النظر.والحقيقة هي:دوام النظر إليه تعالى.(انظر "السير والسلوك إلى ملك الملوك"للشيخ قاسم بن صلاح الدين الخاني(1109ه)،دراسة وتحقيق:سعيد عبد الفتاح،منشورات مكتبة الثقافة الدينية،ط1/2002.في الهامش،ص44.)
4 -الصوفية في الإسلام، ترجمة وتعليق نور الدين شريبة،منشورات مكتبة الخانجي،1951م/1381ه ،ص101./وتوسل الصوفية بالرمز له دوافع أخرى.
5 - الرسالة القشيرية في علم التصوف،أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري النيسابوري،تحقيق وإعداد معروف مصطفى زريق،المكتية العصرية للطباعة والنشر صيدا بيروت،ط1/1461ه - 2001م،ص44.
6 - انظر الأضواء الصافية على الأوراد التيجانية،سعد بن عمر بن سعيد جليا الفوتي،الطبعة الأولى 1977م،ص26/28.
- معراج التشوف إلى حقائق التصوف،عبد الله أحمد بنعجيبة،تقديم وتحقيقعبد المجيد خيالي،مركز التراث الثقافي المغربي-البيضاء،ط1/2004.7
8 - مصطلحات التصوف الفلسفي،ص90
- انظر "نبراس المريد في طريق التوحيد" لأحمد قسطاس منشورات مجلة المريد 1414/1415ه ص135و ما بعدها. 9
-انظر "لسان العرب" لأبي الفضل جمال الدين محمدبن مكرم بن منظور،المجلد 14،دار صادر بيروت،ط3/2004،ص190.10
- سورة الأعراف، الآية144.11
13- طائر عملاق في الأساطير الفارسية أجنحته ضخمة كالسحاب،ويحط السيمئغ عللى شجرة سحرية هي "جوكينا" تنبث بذورا لجميع الحياة النباتية،وعندما يتحرك تتساقط آلاف الغصون والفروع في جميع الاتجاهات،ثم يجمعها طائر آخر هو "كامروش" حيث يحملها إلى المطر"تشربا" الذي يقوم بتجميدها.(معجم ديانات وأساطير العالم،إمام عبد الفتاح إمام،المجلد الثالث،مكتبة مدبولي،دون تاريخ)
14- منطق الطير،فريد الدي العطار النيسابوري،ترجمة وتعليق:د.بديع محمد جمعة،مراجعة وتقديم:د.عبد المنعم محمد حسنين،منشورات دار الرائد العربي،ط1/1975،ص105.
14- انظر" تفسير الجلالين" لجلال الدين محمد بن احمد المحلي،و جلال لدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي،ويليه كتاب أسباب النزول للسيوطي،دار المعرفة بيروت-لبنان،ص221.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.