تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، وبشراكة مع مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين، نظمت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة النسخة الأولى من المنتدى الوطني للمدرس، تحت شعار: "المدرس، محرك تطور التربية والتعليم"، وذلك يومي 26 و27 شتنبر 2024 بالرباط. استهدفت من خلاله الجهات المنظمة "تسليط الضوء على الدور المحوري الذي يقوم به الأساتذة في تحول المدرسة العمومية". وحتى لا نُصنَّف مبكرًا ضمن خانة المبخسين أو المشوشين، أو ننغمس فيما أثاره هذا المنتدى من جدل وأسئلة مشروعة من جانب نساء ورجال التعليم، خاصة فيما يتعلق بتكلفته المادية، ومنهجية اختيار المشاركين فيه، لا يمكن إلا أن ننظر بشكل إيجابي ومسؤول إلى كل المبادرات والإبداعات التي من شأنها تحريك عجلة المدرسة العمومية وافتكاكها من بين مخالب النمطية والرتابة والتواضع، والتنويه بكل المساعي التربوية مهما كان مصدرها، التي تروم إبراز الدور المحوري للأساتذة في إحداث ما ينقص المدرسة العمومية من نهوض وتحول وإشعاع. لكن في ذات الآن، نتساءل كما تساءل الكثير من الزملاء الأساتذة: هل كان من الضروري في هذه الظرفية التي لم تستقر فيها سفينة الإصلاح بعد على بر الأمان، أن ننظم منتدى واسعًا للأستاذ، له تكلفة مادية ثقيلة، كان بالإمكان، من باب الواجب والحكمة والواقعية، توجيهها إلى دعم تنمية المدرسة العمومية التي لا زالت رهينة واقع الهشاشة والرتابة وانعدام الجاذبية؟ "منتدى الأستاذ" يعطي الانطباع للمتتبع للشأن التربوي أن المدرسة العمومية وصلت إلى درجة متقدمة من الإصلاح والجاذبية، على مستوى المناهج والبرامج والطرائق والوسائل وبنيات الاستقبال... ولم يعد ينقصها سوى البحث لها عن حلول أخرى مبدعة وخلاقة، دافعة في اتجاه التميز والريادة والإشعاع الدولي. كما يعطي الانطباع أن الأساتذة جميعهم نالوا ما ناضلوا من أجله في معركتهم النضالية الشاقة، من كرامة وتحفيز واعتبار، ومن ارتقاء بأوضاعهم المادية والاجتماعية والنفسية، ومن "بيئة مهنية" لائقة تقطع بشكل لا رجعة فيه مع سنواتٍ عجافٍ ظل الاحتقان عنوانها البارز؛ كان من الضروري حسب تقديرنا، استكمال الأوراش الإصلاحية المفتوحة، وتصويب ما يكون قد اعتراها من ارتباك واختلال، خاصة فيما يتعلق بالإفراج عما تبقى من القرارات المرتبطة بالنظام الأساسي الجديد، وبخارطة الطريق، وتجربة المدارس الرائدة، التي لم تسلم من اللغط والجدل منذ اعتمادها، لا من جانب الأساتذة "الرائدين"، ولا من جهة بعض أسر التلاميذ التي لم تتردد في الخروج إلى الشارع من أجل الاحتجاج والتعبير عن مشاعر القلق تجاه هذه التجربة، التي يبدو أنها قسمت المدرسة العمومية إلى "رائدة" و"غير رائدة"، بدل توحيدها وتمتين لحمتها في زمن الإصلاح. كما كان بالإمكان الوصول أولًا إلى "مصالحة حقيقية" بين الوزارة الوصية على القطاع والشغيلة التعليمية، تحسم جميع الملفات المطلبية العالقة، وتؤسس لمستقبل واعد، قوامه الثقة والمصداقية والتحفيز والكرامة والتقدير والاعتبار؛ "منتدى الأستاذ" قد يرى فيه البعض نوعًا من "الترف التربوي" في زمن لا زالت فيه المدرسة العمومية تلتحف البؤس وتفترش الرتابة والتواضع، لما تقدمه من عروض تربوية لا تساير العصر، تتحكم فيها مناهج متقادمة وبرامج دراسية "غارقة في الكم" لا تقدم ولا تؤخر. وقد يرى فيه البعض الآخر مجرد "منتدى استعراضي" لن يكون له أي أثر على أرض الواقع، إلا هدر إمكانيات مادية عمومية، كان يفترض تسخيرها لدعم الكثير من المؤسسات التعليمية البئيسة في العالم القروي، والكثير من المجالات المهمشة... وبالعودة إلى المنتدى الذي تميز بتقديم أكثر من 150 مداخلة ونشاط حول محاور تلامس – علاوة على "تكوين المدرس" – "التفتح في العمل" و"تبني مقاربات فعالة في القسم" و"كيفية فهم التلاميذ"، فأهداف ومقاصده من هذا القبيل، من الصعب تحقيقها على أرض واقع الممارسة، في ظل أقسام دراسية مكتظة بالتلاميذ تصل عتبة الأربعين، ما لم نقل تتجاوزها، تبدو أقرب إلى "علب السردين"، مما حول الكثير من الأقسام إلى جحيم مستدام بالنسبة للأساتذة، في ظل اتساع دائرة السلوكات اللامدنية في الوسط المدرسي، وضعف مؤشرات المسؤولية والجاهزية والاستعداد لدى فئات واسعة من التلاميذ، فضلًا عن تهاون الكثير من الأسر في تحمل مسؤولياتها في التربية والتنشئة الاجتماعية. وفي ظل "بيئة عمل" كهذه، تتراجع مفردات "التفتح في العمل" و"الممارسات الفعالة" و"فهم التلاميذ"...، وتتقدم أمامها اختيارات أخرى يفرضها الواقع، مرتبطة بالضبط وفرض النظام داخل الفضاء الفصلي "المكتظ" بكل تناقضاته واختلافاته، وهواجس مسايرة وإتمام برامج دراسية ثقيلة، تقتل التفتح، وتجهز على روح الخلق والإبداع والابتكار، سواء تعلق الأمر بالأستاذ "المحبط" و"منهك القوى"، أو بالتلميذ الذي يعاني في صمت، بسبب معضلة الاكتظاظ وطول ساعات الدراسة وجحيم البرامج الدراسية وبؤس الحياة المدرسية... ونأمل في خاتمة المقال، أن يتم تدارك ما تعيشه المدرسة العمومية من ضعف ووهن في جميع الجوانب، خاصة على مستوى بنيات الاستقبال، واستعجال ملاءمة المناهج والبرامج الدراسية، والتقليص من ساعات العمل، في ضوء ما خلصت إليه "اللجنة الدائمة لتجديد وملاءمة المناهج والبرامج" من مخرجات وتوصيات، والنهوض بالأوضاع المادية والاجتماعية والنفسية والمهنية للأستاذ، حتى يركز في مهنته ويكرس كل وقته وقدراته في إحداث ما تتطلع إليه المدرسة العمومية من تحول، وحتى لا يبقى طوافًا وجوالًا ومتسولًا ومتوسلًا في المدارس الخصوصية كل بداية موسم دراسي، بحثًا عن فرصة عمل، بكل ما يحمله ذلك من إهانة ومس بالكرامة وإساءة لمهنة الأستاذ، الذي يبقى مكانه الطبيعي "المدرسة العمومية" لا التوسل والتسول خارجها... حينها يمكن أن نحتفي بالأستاذ ومنتدى الأستاذ... وفي المجمل، لسنا في حاجة إلى "منتديات" أو "ندوات" أو "موائد مستديرة" مستنزفة للقدرات المالية، لإبراز الدور المحوري للأستاذ في بلوغ مرمى مدرسة وطنية عمومية عصرية ومتفتحة على روح العصر. نحن في حاجة فقط إلى إعادة الاعتبار للأستاذ والنهوض بأوضاعه المادية والاجتماعية والنفسية، وتمكينه من بيئة عمل جذابة ومحفزة، على مستوى المناهج والبرامج والوسائل وبنيات الاستقبال وساعات العمل، وجعله شريكًا فاعلًا في الإصلاح، لأنه أدرى من غيره بخصوصيات واقع الممارسة، لا مفعولًا به تحول طيلة عقود من التجارب الإصلاحية المرتبكة، إلى ما يشبه "الآلة" التي لا تصلح إلا لتنفيذ ما ينسج داخل المكاتب المكيفة من أفكار وتوجهات ومشاريع...