احتفى أساتذة المغرب باليوم العالمي للمدرس يوم الخامس من الشهر الجاي ، وإذا كانت رمزية الاحتفاء تقتضي إحاطة المدرسين والمدرسات بما يلزم من التهنئة والشكر والتقدير في يومهم العالمي، كصانعين للمعرفة وناقلين لها وضامنين لسيرورتها عبر الزمن ، وقناة لا محيدة عنها لصون الهويات وتمرير القيم الإنسانية وبناء المجتمعات وصناعة الإنسان ، فهي مناسبة تفرض التوقف عند وضعية “المدرس(ة)” بالمغرب والتي تتأرجح بين الانكسارات والانتظارات . * انكسارات متعددة الزوايا : بعيدا عن لغة الأرقام والمعطيات الرسمية، فإن واقع الحال يعكسه الإقبال الكبير للمدرسين والمدرسات على التقاعد النسبي ، هروبا من واقع مزري يكرس القلق والرتابة و التذمر واليأس وانعدام شروط التحفيز، واقع من عناوينه الكبرى تحول معظم المدارس العمومية إلى مجرد بنيايات إسمنية فاقدة للحياة، وعقم المناهج والبرامج المعتمدة منذ سنوات، مما يجعلها غير قادرة على تجاوز المتغيرات الوطنية و الإقليمية و الدولية، وأطر مرجعية متجاوزة، تغل يد المدرس(ة) ولا تترك له هوامش للخلق والتجديد والابتكار، ومحدودية استعمال تكنولوجيا الإعلام و الاتصال، مما يجعل الفعل التعليمي التعلمي غارقا في أوحال الرتابة المغدية للتهور والعنف، بالإضافة إلى حضور برامج غارقة في الكم بحمولات معرفية متجاوزة في معظمها، تثقل كاهل المدرس(ة) الذي يبقى ملزما بإتمامها خاصة بالنسبة للمستويات الإشهادية، وتكرس لصورة متعلم(ة) “مستهلك ” يجد نفسه مجبرا على ضبط و استيعاب ما تلقاه من وحدات دراسية من أجل اجتياز فروض المراقبة المستمرة والامتحانات الإشهادية، وفي الصورتين معا، يضيع الخلق ويغيب الإبداع وتغتال المواهب والقدرات. غياب شروط العمل المحفزة على الجدية و التميز، خاصة فيما يتعلق بضعف الأجور مقارنة مع وظائف أخرى، ومحدودية التحفيزات المادية التي تكاد تغيب بالمرة، وحتى إن حضرت فحضورها محتشم جدا، ويكفي هنا استحضار الوقفات التي سبق أن شهدتها مجموعة من مراكز التصحيح من قبل الأساتذة الذين أسندت لهم مهمات تصحيح امتحانات الباكالوريا في شقيها الوطني و الجهوي ، احتجاجا على الظروف العامة التي تجري فيها هذه المهمات التي تعد حلقة أساسية في مسلسل هذه الامتحانات، وقد اختتمت هذه الوقفات بتحرير عرائض احتجاجية ذيلت بتوقيعات المصححين أحيلت على الجهات المعنية، ضمنت بجملة من المطالب التي من شأنها تجويد كل الظروف المرتبطة بهذه المهام التي تعد بمثابة العمود المركزي الذي تستند عليه “خيمة” امتحانات الباكالوريا ، وقد تقاطعت مختلف الوقفات الاحتجاجية حول عدد من النقط المشتركة من قبيل : بعد مراكز التصحيح عن مقرات عمل أو سكنى بعض المصححين، مما يضيف إليهم أعباء إضافية معنوية ومادية مرتبطة بالأساس بأعباء تنقلاتهم طيلة فترة التصحيح من مقرات سكناهم إلى مراكز التصحيح ، وعدم تمكين المصححين من مستحقات التنقل في حينه ، وحتى إن وجدت فهي تبقى هزيلة ولا تغطي مصاريف التنقل والمأكل والمشرب، وكذا هزالة التعويضات المرتبطة بعملية التصحيح . يضاف إلى ذلك إثقال كاهل المدرس(ة) المصحح(ة) بمهمة إضافية مرتبطة بإدخال النقط إلى منظومة مسار، وهي مهمة ووجهت هي الأخرى باحتجاجات عمت مجموعة من مراكز التصحيح على الصعيد الوطني، ليس فقط لأنها أضافت مسؤولية أخرى موازاة مع مهمة التصحيح، ولكن أيضا لأنها فرضت دون أن يخصص لها أي تعويض مادي من شأنه الإسهام في إنجاحها و الإقبال عليها بما يلزم من الرضى والارتياح المادي والمعنوي . استفحال ظاهرة العنف المدرسي التي اتسعت رقعتها في السنوات الأخيرة ، حيث طال العنف عددا من الأساتذة أثناء ممارسة عملهم الاعتيادي من طرف تلاميذ منحطين تركوا القلم و حملوا السلاح، عنف تجاوز “السب” و”الإهانة” إلى “اللكم” و استعمال” السلاح الأبيض” ، وهنا لا بد من استحضار حالة أستاذة الدارالبيضاء (الحي المحمدي) التي تعرضت لعنف جبان على مستوى الخد باستعمال “شفرة حلاقة ” من طرف تلميذ جانح، و قبلها حالة أستاذ ورززات الذي تلقى ما يكفي من اللكم و السب والإهانة أمام مرأى ومسمع تلاميذ لعبوا دور المتفرج، بل وعملوا على توثيق جانبا من العنف في مقطع فيديو لقي انتشارا واسعا تجاوز الحدود ، وهذه الحالات وغيرها كثير، حطمت مكانة الأستاذ(ة) وعمقت الإحساس باليأس والإحباط، وكرست فقدان الثقة في مدرسة عمومية سارت مقترنة بالعنف والشغب والانحطاط …، انكسار آخر زاد الوضع تعقيدا و احتقانا، ويتعلق الأمر هنا باعتماد التوظيف بالتعاقد بقطاع التربية و التكوين والذي من شأنه أن يغير من وجه المدرسة العمومية التي ستصبح مدرسة تعاقد بامتياز في قادم السنوات خصوصا في ظل الإقبال الملفت للنظر على التقاعد النسبي، وهذا التوظيف التعاقدي وإن أوجد حلولا لظاهرة الاكتظاظ الذي استفحل خاصة في الموسمين السابقين، فإنه جعل المدرسة العمومية تعيش على وقع الصدام و الاحتجاج من قبل الأساتذة المتعاقدين الذين نزلوا إلى الشوارع في أكثر من مناسبة حاملين شعارات ومطالب نضالية في محاولة منهم كسب رهان الترسيم، مما أدخل المشهد المدرسي في حالة من الاحتفان والارتباك وفقدان الثقة وسط صفوف آلاف من الأساتذة الموظفين بموجب عقود الذين يتقاسمون جميعا الإحساس بانعدام الاستقرار المهني والنفسي والاجتماعي .. * انتظارات مشروعة : لا يمكن قطعا الإحاطة بجميع تفاصيل هذه الصورة المنكسرة ، فما قيل يرسم معالم واقع مثير للقلق تراجعت فيه مكانة الأستاذ(ة) في المجتمع على جميع المستويات، وهنا لامناص من استحضار واقعة أستاذ”خريبكة” التي عبرت بجلاء عن عمق الإحباط و درجة الأزمة و حجم اليأس وانسداد الأفق، وهذا الواقع يرخي بتداعياته على المدرسة العمومية التي تفقد كل سنة نخبة من الأطر والخبرات و الكفاءات التي وجدت في “التقاعد النسبي” سبيلا للخلاص، مما ينعكس سلبا على جودة التعلمات، لكن ومهما كان الوضع محرجا، هذا لا يمنع من رفع مطلب الحق في تحسين الصورة وإعادة الأستاذ(ة) إلى وضعه الاعتباري داخل المجتمع كقناة لا محيدة عنها لإنتاج المعرفة ونقلها وترسيخ الأخلاق والقيم الإنسانية، وذلك من خلال : – تمكينه من راتب شهري محترم يضمن الكرامة ويحفز على بدل المزيد من الجهد والعطاء والتجديد والابتكار، ويكفي أن نقارن في هذا الصدد مهنة المدرس مع مهن أو وظائف أخرى، ليتضح الحيف الذي يعاني منه رجل التربية و التكوين خاصة في القطاع المدرسي. – التفكير في آليات جديدة لتنزيل تعويضات محفزة شهرية عن “المخاطر” جراء استفحال ظاهرة العنف المدرسي، وتعويضات دورية تشمل مهام الحراسة في الامتحانات الإشهادية ومهام التصحيح وإدخال النقط إلى منظومة مسار، وهذا من شأنه أن يكرس المزيد من التحفيز و يجعل الأستاذ(ة) يقبل على المهمات المنوطة به بكل أريحية ومسؤولية. – تحسين الفضاءات المدرسية وتمكينها من شروط الجذب من مساحات خضراء ومساجد وقاعات مطالعة وأقسام مجهزة (ستائر، دتاشاو ..)، قاعات أساتذة تتوفر فيها شروط الكرامة، قاعات أنشطة، مسارح مدرسية، ملاعب رياضية ، قاعات إعلاميات … إلخ. – إعادة النظر في المناهج والبرامج المعتمدة، بتقليص عدد الوحدات الدراسية، فالعبرة ليست في كم يتعلم التلميذ(ة)، بل في كيف يعتمد على ذاته في التعلم مدى الحياة، وهنا تكمن أهمية الحياة المدرسية ودور الأندية المدرسية أساسا في تطوير قدرات المتعلمين و المتعلمات وصقل مواهبهم وقدراتهم في المسرح و الموسيقى والرسم والأدب و الشعر والرياضة والصحافة والمواطنة و حقوق الإنسان والبيئة وغيرها. – التسريع بوضع تشريع جنائي مدرسي قادر على حماية رجل التربية و التكوين أثناء ممارسة مهامه داخل الفضاء المدرسي، في ظل الاستفحال المقلق لظاهرة العنف المدرسي. – التعجيل بإيجاد حلول واقعية و منصفة للأساتذة الموظفين بموجب عقود، من خلال تمكينهم من إطار تشريعي يضمن شروط الاستقرار المادي والنفسي و الاجتماعي، وذلك لوضع حد لحالة الاحتقان التي تزيد من جراح مدرسة عمومية تعيش على وقع الإصلاح، دون إغفال باقي الملفات المطلبية العالقة التي لازالت موضوع خلاف بين الوزارة الوصية والنقابات . تأسيا على ما سبق، إذا كان الشأن التربوي يعيش اليوم على وقع تنزيل الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015- 2030) وسن مشروع قانون إطار للتربية والتكوين و البحث العلمي، فإن أي مشروع إصلاحي لن يحقق أهدافه و مقاصده، إذا لم يكن دعامة للارتقاء بالمدرس(ة) والنهوض بأوضاعه المادية و الاجتماعية باعتباره الحلقة التي بدونها لا يستقيم إصلاح، وإذا كان جلالة الملك نصره الله قد أحاط عددا من رجال التربية و التكوين بشرف الاستقبال و التوشيح بأوسمة ملكية، فهي رسالة اعتراف بقيمة المدرس(ة) في المجتمع وأدواره المتعددة الزوايا في التربية و التكوين والإسهام في التنمية الشاملة، والكرة الآن في “مرمى” الحكومة التي تتحمل مسؤولية رد الاعتبار إلى مدرس(ة) سئم من الانتظار، من أجل مدرسة توجد على حافة الانهيار سئمت بدورها من الإصلاح والإصلاح ثم الإصلاح … وبالرجوع إلى اليوم العالمي للمدرس، كل التهاني والأماني لمن قيل فيهم ” كاد المعلم أن يكون رسولا ” عبر ربوع العالم، وكل عام والأسرة التعليمية بألف خير… – كاتب رأي، أستاذ التاريخ و الجغرافيا بالسلك التأهيلي(المحمدية)، باحث في القانون و قضايا التربية و التك