يحدد القاموس السياسي مفهوم "الدولة" على أنها "كيان سياسي وقانوني منظم يتمثل في مجموعة من الأفراد الذين يقيمون على أرض محددة ويخضعون لتنظيم سياسي وقانوني واجتماعي تفرضه سلطة عليا تتمتع بحق استخدام القوة"؛ فالتعريف –بمنطوقه- يحدد ماهية الدولة في ثلاثة عناصر أساسية هي الشعب (الأفراد) والإقليم الجغرافي (الكيان المحدد) والسلطة. "" "سُلطة الدولة" التي يتحدث عنها التعريف ما هي إلا مؤسسات وأجهزة الحكم التي يجب أن تسهر على حماية العنصر الرئيسي الذي بدونه لا يمكن تصور "الدولة" في كافة أبعادها الفلسفية، النظرية منها والواقعية، ألا وهو الشعب. هذه السلطة التي تمول من المال العام (أصول الدولة)، المفروض فيها أن تحقق مصالح المواطنين وتنظم العلاقات الحياتية (وحتى المماتية!) فيما بينهم، سواء على المستوى التنفيذي أو التشريعي أو القضائي. وبالتالي فالدور الأساسي للدولة هو خدمة الناس بما يضمن لهم أكبر قدر من الحقوق الإنسانية والكرامة الآدمية. من الوجهة النظرية السفسطائية، "الدولة في خدمة الشعب" دائما وأبدا! أما على المستوى المعيشي، فالأمر لا يحتاج لإثبات من كون "الدولة" قد نفضت يدها من كل مسؤولياتها تجاه من تحكمهم، اللهم إلا ما كان من باب تفعيل "الحق في استخدام القوة" (والقوة بجميع أشكالها) الذي تتمتع به وحدها لا شريك لها. عقيدة التوحيد هذه على مذهب أولي البأس الشديد سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، هو ما يفقد الدولة جدوائيتها، ويفرغ مؤسساتها، المنتخبة أو المفروضة/المُعَيَّنة، من كل مصداقية. وأمام هذا الواقع من الفصام بين الخطاب والممارسة، تبرز مظاهر إنكار "الدولة" على جميع المستويات: فالمتمتعون بسلطة الحكم يجددون العهد مع شعار لويس14 القائل: "الدولة هي أنا"، أما المُثخنون بحكم السلطة فيكرسون الإنكار باللامبالاة والسلبية والاتكالية والانهزامية... وهلم جرا. في هذه الأجواء من الإنكار المتبادل، تذوب "الدولة" وتفقد ماهيتها؛ لأن الأفراد من جهة -حكاما ومحكومين- يفكرون في ذواتهم بأنانية مفرطة، وكل يستغل على شاكلته الظروف والوسائل المتاحة؛ ومن جهة أخرى، تصير المؤسسات مجرد أدوات لإشاعة مظاهر منتقاة للدولة النظرية، تبرز فيها السيادة، والديمقراطية، والمواطنة، وجودة الحكامة، واحترام القانون، واستقلالية القضاء، ومصداقية ومشروعية المؤسسات، ونزاهة الانتخابات، وحرية الرأي والتعبير، والتعددية السياسية، والتسامح الديني (لا المذهبي)، والحداثة الثقافية، والتطور العمراني، والتنمية الاقتصادية، والتضامن الاجتماعي، ورعاية حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشجرة والمرحاض!... إلى غيرها من المظاهر النظرية التي لا يمكن حصرها من مظاهر الدولة العصرية التي تكرس كل الأدوات التقنية والخبرات الفنية والوسائل الإعلامية لخدمة عموم الشعب والسهر على مصلحته كونه ركيزة الدولة وعمودها الفقاري. لما يتمعن المرء اليوم خطاب "الدولة" في شخص مسؤوليها، يجد نفسه أمام أحد خيارين، يجب أن يصدق أحدهما حتى لا يصاب بالجنون؛ فإما أن تُقنع نفسك بأنك تعيش في دولة أخرى وتصدق ببلاهة أحلام اليقظة الوردية التي يبثها الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، وإما أن تقتنع بأن هناك سُلطة تُفرض عليك كونك تنتمي لتراب "الدولة" وتحمل جنسيتها، وتكذب بأسف الخطاب الرسمي وتبحث عن المسببات والدواعي، وتسبك النظريات، وتصوغ الحلول. تعيش دولتنا اليوم، كغيرها من الدول المتخلفة، أزمة حادة في انفصام الشخصية على مستوى المؤسسات، فلا هي تتوفر على الإرادة النفسية الكاملة (على المستوى الفردي) للقيام بكل ما تروّج له أو تدّعيه، إذ إرادتها مرهونة ل"آخر" بعوامل إقليمية ودولية سواء بشكل ذاتي (قناعات) أو موضوعي (آليات)، إرادي أو غير إرادي؛ ولا هي تتوفر على القدرة المادية والتقنية الكافية لإنجاز كل ما تريد، ومرجع ذلك هو هدر الإمكانات وتضييع الثروات الذاتية واحتقار الأنا أمام الآخر بشكل يفوّت على الدولة استغلال رصيدها المادي من الثروات المتوفرة، ورصيدها البشري من الكوادر والعقول المحلية. هكذا يصوغ واقع الحال -العربي والمغربي على السواء- خطابا جديدا قد يفسر نظرية "دولة الآخر"؛ حيث الاهتمام موجه لتحسين صورة "الدولة" -بمؤسساتها وأفرادها- وتنميق مظهرها وستر عوراتها أمام الآخر ولو على حساب مصداقيتها أمام الشعب الضحية. وكأن هذه "الدولة" غير معنية بمن تحكمهم ومن تفرض عليهم سلطتها، إلا إذا اقتضى الحال أن يكونوا جزءا من لعبة التشذيب والتهذيب في سبيل "الرياء الدولي". يتساءل مسؤولو "الدولة" ومؤسساتها –اليوم- عن أسباب العزوف الشعبي عن مسايرة خطاب الدولة وتوجهاتها وخلفيات السخط العام على الأوضاع وتنامي القبلية المنتنة والعنصرية الجغرافية وارتفاع معدلات الجريمة وتدني مؤشرات تقدم "الدولة" ونموها...الخ. يتساءلون وكأن الجواب مفقود أو غير معروف، ويمعنون بذلك في إنكارهم لواقع "الدولة" وكأنهم يعيشون في دولة أخرى، معتبرين الشعب مجرد "ذباب" أو "بخوش" (بعوض) مزعج، باعث على القلق، يستأهل إبادة الوعي لديه، وتصفية عوامل الترقي الفكري في ذهنه، والحؤول دون بلوغه مستويات التقدم المادي المرغوب. إن الدولة اليوم مدعوة للتصالح مع واقعها -من جهة- بالاعتراف بمواطنيها بجميع مواصفاتهم ومستوياتهم والسعي نحو ترقية هذه المستويات بالشكل الذي يخدم الدولة ذاتها. ومدعوة للتصالح مع واقعها -من جهة أخرى- بتقدير النخب فيها وفي كافة مجالات الحياة، الفكرية منها والسياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية... الخ. ذلك أن مثل هذا التصالح يشكل أول خطوة على طريق الاقتناع بمقومات الدولة بشكل واقعي وملموس؛ ومن شأن هذه القناعة أن تؤسس لثقافة "الثقة بالنفس" بعيدا عن حسابات الآخر، وبعيدا عن الانهزامية التي لا تصنع تقدما، ولا تجلب تنمية، ولا تحقق ازدهارا. إننا -باختصار- نريد دولتنا دولة لنا، نعتز بها وتعتز بنا بقدر ما نعتز بها، وكم هو مؤسف أن تحتقر الدولة شعبها بكل خبراته وتضحياته وإرادته، وتكون دولة الآخر.