على غير عادة المهتمين بتاريخ الفلسفة، لم أتعرّف على نيتشه، فيلسوف المأساة وإرادة القوة، من خلال "هكذا تحدث زرادشت" ذي الصيت الدائع، ولا من خلال رائعة "جنيالوجيا الأخلاق". وإنما إكتشفته عبر معزوفات فاغنر وتلك الصداقة العميقة التي جمعتهما لعقدين من الزمن تقريبا، والتي ترجمها نيتشه في كتابات عديدة من بينها عمله "مولد التراجيديا". ومع ذلك، لم أغص بما يكفي في بحور هذا الرجل المُستعصي إلا وأنا أطّلع، بحذر شديد، على حيثيات عداوته مع شخصية المسيح، ونقده اللاذع للقيم الأخلاقية المسيحية وللتصعب الديني الذي أصاب العالم الغربي بعَمَى الوجود والتّوقِ إلى حياة أخرى..أبدية! ولأن قيمة العظماء تُعرف بحجم الأعداء قبل الأصدقاء، جعل نيتشه "الله" عدوه وهدف مطرقة هدمه الميتافيزيقي. وأعلن، عبر شنقه لهذا الإله، ميلاد إنسانه الخالد. عندما دلقت "عدو المسيح" (LAntéchrist)، وابتلعت ما به من سخط على الضعفاء والفاشلين، وعلى رأسهم المتديّنين -هؤلاء المولوعين بالفضيلة والخير الزائف- تفتق لي سؤال مُقلق: أكان نيتشه، مُحارب التقاليد البروتستانية، يتلذذ باحتساء النبيذ الرباني وبأكل الخنزير المقدس؟ "" والخنزير حيوان من طائفة الثديات، احتقرته حضارات كثيرة وأحبّته أخرى. ينحدر من سلالات وفصائل مختلفة من بينها الحَلّوفُ، وهو النوع الشرس الذي جاء ذكره في خرافة كنعانية تحكي أن أدونيس صارع خنزيرا عند نهر الكلب فقتله. قدّمه الإغريق قربانا للآلهة ورأى فيه البوذيون، من أهل التّيبِتْ، مصدر ويلات الكون وشرّه. وكما الضفادع، نعتبره، في الجنوب، رمزَ الوسخ والقذارة لأنه يستمتع باللّهو في الأوحال المبللة. وذلك، ببساطة، لأنها الوحيدة القادرة على تبريد جسده الخشن الخالي من الغُدد العرقية؛ تماما كالآدميين الذين يعشقون الرقص عراة في مستنقعاتِ جهالاتٍ من الملل والنِّحل وبرك راكدة من خدع الحداثة وما بعدها.. جعل منه الشَّماليون رفيق أطفالهم وشخصيتهم المحبوبة في مسلسلات الرسوم المتحركة، فهو التلميذ المرح المجتهد دائم النجاح. في أوربا، ما تزال تقام له حفلات سنوية وتصمم، على صورته، حلويات ومجسمات استعراضية. ويُرمز برأس الخنزير البريِّ، الأسود الضخم، للنّبل والكرم العائليين لأنه الطبق الرئيسي الذي كانت تقدمه الشعوب الأوربية في الولائم والوضائم. يشوب كلمة خنزير(cochon)، في المعجم العربي والفرنسي أيضا، الكثير من اللّبس. فلا هي مشتقة من جذر لاتيني ولا من لغات شرقية قديمة، والنّعت الأصوب في لغة الضاد للخنزير هو العَفَرُ. يُورِدُ ابن دريد في اشتقاقه أن العَفَرَ هو التّراب، وعَفَّرَ الشيء أي صرعه على وجه الأرض (أرجح أن نعت الخنزير بالعفر جاء من هذا الباب). ورغم كونه رمزا للشجاعة والقوة في الأساطير الإغريقية والسّلتية إلا أن جل الثقافات المتوسطية جعلت منه نموذجا للتفاهة والغباء كقول الفرنسيين: "إعطاء اللؤلؤ للخنزير" في إشارة إلى سوء تقدير الإنسان للفرص الثمينة التي تمنحها له الحياة. ونشبّه به عادة، نحن المغاربة، كل بدين بليد أو شره يزدرد الطعام بطريقة تبعث على التقزز. لكننا، جميعا، تناسينا، باحتقارنا له، المجازر الطبيعية التي يرتكبها أبناء جلدتنا لصيده وتصنيع فروه وشعره في تصميم أوتار آلات موسيقية وبعض المستلزامات الحياتية. وأهملنا كذلك القواسم التشريحية التي نتشاركها معه وكذا حاجتنا الماسة لبنكرياسه لاستخلاص هرمون الأنسولين الذي يحمي مرضى السكري من الموت. يُرْوَى أنّ القديس أنطوان المصري، الذي وهب كل ما ورثه للفقراء وساح يحارب عفاريته، كان يملك خنزيرا صغيرا بناقوس جميل مَيَّزَهُ عن بقية الخنازير –وله تمثال اعتدتُ رؤيته في عدة أدْيِرَةِ كنت أزورها بين الفينة والأخرى بمنقطة آكِيتِينْ الفرنسية- وفي مطلع سنة 1095م، قبل ميلاد أخي الأصغر بتسعمائة سنة، ظهر الأنطوانيون بناحية دوفيني (مقاطعة فرنسية) وفرضوا حظر التجوال على كل خنزير لا يلبس النّاقوس! ومع إشاعة فيروس "نزلة الخنازير" المعدي تكسر مثل التَّعْجِيزِ الأمريكي القائل: "لمّا يطير الخنزير". فالخنازير، في عصرنا، أصبحت لها أجنحة تحلق بها إلى بلاد الشرق وإلى كل بقاع العالم لتدافع عن نفسها، بشراسة، من بطش ديكٍ أرهق سبات الآلاف من سكان الأرض فجرا، مختالا بعُرفه، وهو يصيح في الناس للاستيقاظ، متحجِّجا، بنبوءته على الحيوانات. وللخنازير، مع الأديان، قصص طريفة جدًا. احتراما لكرونولوجيا السّرد الإلهي (..) أنقلها إليكم من مستهل الكلام مع موسى إلى محكم التنزيل على محمد: يتضمن الإصحاح الأول من سِفْر المكابيين(1)، في العهد القديم، رواية عن تحالف شرذمة من اليهود مع الملك اليوناني أنطيوكس لبناء مدرسة تدرس فيها الفلسفة والرياضيات بالقدس، لكن سرعان ما اجتاح هذا الحاكم مملكة سليمان وبلغ أورشليم فسرق ذهب الهيكل وذبح الخنازير في فضاء المعابد لكي يثير حفيظة المتدينين. ومنذئذ بتّ الحاخامات بقطعيةٍ في تحريم أكل لحم حيوان سال دمه في مقام صلاتهم. أما العهد الجديد، إنجيل مرقس5، فيذكر حادثة شفاء رجل ممسوس بجيش من الشياطين؛ قام المسيح بإخراج ما به من "روح نجسة" وأرسلها إلى قطيع من الخنازير! وأهاب أن يكون إخوتنا المسيحيون قد ورثوا تلك النجاسة الطاهرة، التي تحولت إلى لواط كهنوتي خلف أسوار الكنائس وإلى فوبيا دموية قتلت الأبرياء في حروب عاهرة للتعجيل بعودة مسيحهم الهالك، من خنزير قدّسوا أكله رغم بُغض نبيهم له. والقرآن، باعتباره امتدادا تشريعيا في الزمان لا في المكان، لليهودية خاصة، حرّم تناول لحم الخنزير بآيات صريحة وردت في سورة البقرة، المائدة، الأنعام والنحل. ومن مساوئ الصدف، بالنسبة للمسلمين، أن الدجاج الرومي والدّيك البلدي قد أصيبا بلعنة الإنفلوانزا قبل الخنزير. فأشهر النصارى إذّاكَ سيوفهم في وجه الصيصان حتى لا يكبر معها المرض! وما إن بدأنا نسمع عن ظهور حالات مرضية لدى الخنازير حتى استنجد السلفيون بكل الأحاديث التي تغازل الدّيك للانتقام له؛ "لا تسبّوا الدّيك فإنّه يوقظ للصلاة"! (حديث صحيح). وكم وددت، بغضّ النظر عن التحريم القرآني، أن أعرف سر هذا الشعور الذي جعل المسلمين أكثر قربا إلى الديك وأقل محبة للخنزير. ربما يلتمسون رؤية الملائكة لكي تتوسط لهم في السماوات! ففي حديث رواه أبو هريرة عن الرسول أن صياح الديك يعني وجود الملائكة ونهيق الحمير يخبر بمرور وفود شيطانية. أحببت أن أغازل زوجة "الروح القدُسِ" علّها تمنحني من علوم الأنبياء والرّسل شيئا؛ ترصّدتها، حول الخم، وقتَ نقنقةِ دجاجة (وهو الفعل الأنثوي للصِّياح)، فلقّنَتْنِي مناهج تَلقِّي الوحي الأنثوي فوق السرير. في إحدى ليالي الشتاء الباردة، كنت عائدا إلى فاس، رفقة والدي وصديقه، من منتجع مِيشْلِيفَنْ الثلجي. كان الظلام دامسا والأشجار، على جانبي الطريق، تخفي عوالم الحيوانات الجبلية من قردة و"حلاليف". عند المنعرج، باغتتنا أسرة خنازير. بدى لي الأبوان، من خلال الزجاج الأمامي للسيارة، يحاولان حماية صغيرهما من هذه الصفيحة الحديدية القادمة اتجاهه بأضواء هائجة. كبح والدي الفرامل حتى كدنا ننقلب إلى المنحدر. بعد ذلك بشهور قليلة، زرت باديةً بقرية "غَفْسَايْ" واكتشفت وقتها، للمرة الأولى، أحواش الدجاج التقليدية. اقتربت من ركام التِّبن المفروش وما إن حاولت لمس البيض حتى همّت الدجاجة (الأم) بنقب رجلَيَّ بعدوانية منقطعة النظير. هكذا انبثق كرهي، الطفولي البريء، للخنازير وللدّيكَةِ، على حد سواء. أما أمثالهم، منّا نحن البشر، فأعرف منهم مشاء الله: أشباه أصدقاء خانوا العهود، أنصاف رجال نكحتهم الجهالة في أمخاخهم ونساء أخريات شوّهن توزيع الشرايين. شربت كأس نبيذ مع نيتشه، ولم أفكر أبدا في تناول اللحوم أكانت بقرا، خرفانا أم خنازير. اكتفيت بسَلطات البطاطس والجزر بالخس، وسندويشات الكفتة أحيانا. سؤال آخر، ينضاف إلى لائحة طويلة تقلقني: لماذا عزم هرقل، الرجل الضخم القوي، على قتل الخنزير الأرمانثي وجعل الأمر واحدا من مهامّه الإثني عشر الكبرى؟ أيكفي حقا أن يكون المخلوق ذا رأس جسيم لنوليه تلك الأهمية؟ أنظروا إلى كل هذه الرؤوس "الخنزيرية" التي تدبُّ على الأرض الآن؛ تكره التنوير ولا تؤمن بغير العنف. ما أحوجنا لهرقل جديد أو حجاج يقطف الرعاع بسيفه. *كاتب مغربي [email protected]