حال بعض من "نخبنا السياسية" يدعو إلى القلق هذه الأيام، لا حديثكان لهم هذه الأيام التي مضت مرة أخرى إلا عن الانتخابات، والانتخابات لديهم هي مفتاح كل التغييرات المنشودة، وكل الآمال المعقودة، وكل الأحلام الموءودة، "" بعضهم "استفاق" فقط من "بعض من غفلته السياسية"، ذلك أن ضرورة النظرة الشاملة والمتناغمة للمنظومة القانونية سارية المفعول ، لا حاجة له بها راهنا، وبالتالي فلتكن استفاقته من هذه الغفلة "مدروس حجمها بعناية"، فوجد أن قانون الأحزاب الذي تمت المصادقة عليه لا يتم تفعيل بعض مواده كما يجب، ونظرا لغيرته على مسار الإصلاحات التي تسير عليها البلاد، طالب بتفعيل بعض مواد هذا القانون، "حتى يتم قطع الطريق على كل الذين يتنقلون حاملين مقاعدهم البرلمانية من حزب إلى حزب، غير آبهين بحزبهم الذي على أساسه حصلوا على "منصبهم البرلماني""، وبلفتة بصر، صار المشكل كل المشكل بحسب هذا البعض في ضمان سريان القانون، متجسدا لديه فقط في تطبيق المادة 5 من قانون الأحزاب، هكذا تختزل كل مسيرة الإصلاح لإرساء دولة الحق والقانون، في ضرورة تطبيق المادة 5 من قانون الأحزاب، وهو مطلب حق لو كان مصحوبا بشيء من "المصداقية والجدية"، ولو كان ذلك في إطار نظرة شاملة للإصلاحات الديمقراطية المؤسسة لدولة الحق والقانون، بعضهم، "أجج" "احتجاجاته السياسية"، منددا ب"الحيف" الذي طاله، وب"تكالب" العديد من الأحزاب ورجالات السلطة على "مشروعه"، وعلى مشاركته السياسية التي يريدها أن تكون"حرة" و"مستقلة"وغير مسيجة بأية محاولة تأويلية للقانون قد تلجم "مشاركته الحرة"، وبعد كل هذا تهدأ عاصفة "احتجاجاته" بعد ما أعيد له قضائيا حق المشاركة لبعض "برلمانييه" الذين منعوا من الترشيح من قبل، مهلا!!! عفوا عن كل هذه المعقوفات، هي إحدى تعبيرات هذه الاختراقات المفاهيمية المشوشة على المعنى والأصل والمعقول في زمنا السياسي المبتذل، حقا، حين تهاجمني كل هذه المصطلحات والمفاهيم و التعابير، التي لا أطيق استساغتها وهضمها، أحمل نفسي على أن أتخيل أن ما أسمعه وأعيشه من عجائب وتفاهات،عرضا مسرحيا، بممثليه ولغته المتداولة وحكايته وأدواره، فذاك سبيلي الوحيد لتقوية مناعتي الثقافية والسياسية ضد هذه الاختراقات المفاهيمية المشوشة، حتى أدفع قدر الإمكان كل إنتاجات هذا الحقل التداولي المفاهيمي الوهمية، (المعارضة، المساندة النقدية، الحكرة، الاحتجاج، الانسحاب من البرلمان، ...)، التي تأبى إلا أن تشوش على ما تبقى مما تبقى من أصالة المفاهيم والكلمات والتعبيرات والآمال والتطلعات الحقة، أرأيتم الحراك السياسي في نسخته المغربية كيف يكون؟، "إنه حراك سياسي شذ له أنظار المتتبعين وتحدثت عنه الفضائيات، ورصدته المراصد المتخصصة باعتباره "مؤشرا مهما على ديناميكية العملية السياسية في البلاد""، زعموا!!! الحق أقول، أحيانا تأتي بعض "الزوابع" بما لا تشتهيه سفن الإصلاح الحق، فتغدو كل العملية السياسية عبارة عن لحظة توهج وهمية سرعان ما تنطفأ، وتعود مياه التخلف والاستبداد والظلم إلى مجاريها، صحيح أن الاستغراق في بعض التفاصيل السياسية، يعد أحيانا من موجبات النضال الطويل الذي يقتضي التدرج واستدعاء كل تفاصيله، وصحيح أن من يهمل هذه التفاصيل بدعوى فساد كل العملية، لا يفقه في تقديري في سنن التغيير الإصلاحي المنشود، لكن صحيح أيضا أن استغراقا في هذه التفاصيل ينبغي أن يظل منشدا إلى أصول ومنطلقات مسيرة الإصلاحات الأساسية المرتجاة، تلك البوصلة التي تحدد اتجاه مسار الإصلاح عموما، بالأمس القريب، أعترف أن بعض من نخبنا السياسية خاضت معارك تفصيلية، شملت كل العناوين المطلبية الفرعية(التقطيع الانتخابي، و نزاهة الانتخابات، و نمط الاقتراع، وضبط اللوائح الانتخابية،...)، وأعترف أن هذه المعارك على تفصيلاتها، كان لها وقع في الحراك السياسي الدائر، فبقدر ما كان الاتجاه سائرا نحو هذا الاستغراق التفصيلي، بقدر ما كان منشدا إلى المطالب الإصلاحية الجوهرية (الإصلاحات الدستورية والسياسية والمؤسساتية)، الآن لم يعد للعديد من "نخبنا" ضمن أولوياته الإصلاحية، لا الحديث عن إصلاحات دستورية ولا سياسية ولا مؤسساتية، ولا الحديث عن لجنة وطنية مستقلة تتكلف بتنظيم الانتخابات، و لا الحديث عن إشراف القضاء -النزيه والمستقل- على ملفات تأسيس الأحزاب...، كل ذلك لم يعد مهما ضمن الأولويات الإصلاحية الأساس، صار كل مطلبه مسلطا فقط على المادة 5 من قانون الأحزاب، معتبرا المواد الأخرى قد بلغت حالة من النضج المعبر عن سريان حقوق التنظيم والتعبير والاعتراف بكل مكونات المجتمع، بعضهم ما لبث يؤكد على أن البلاد قد قطعت مع ماضي الانتهاكات الحقوقية، بينما العديد من المواطنين الذين تتحدث عنهم تقارير حقوقية وطنية ودولية، يزج به في محاكمات غير عادلة، وبعض القيادات السياسية المعروفة لدى الأوساط السياسية بتوجهها السلمي، وخطها الفكري الوسطي المعتدل (المعتقلون السياسيون الستة)، يحشر قضائيا في ملف ما يسمى ب"الإرهاب"، رغم إجماع جل الفعاليات المدنية والسياسية والحقوقية الوطنية، ببراءتهم من هذه التهم الكبيرة وبإقحامهم في ملف لا علاقة لهم ولتوجههم السلمي المدني الواضح به، والبعض يريد أن يغض الطرف عن جوهر الإصلاحات الأساسية ومتطلباتها، موهما أن ورش الإصلاح لم يتبق منه إلا بعض التحسينات، وأن الساحة السياسية قد بلغت درجة كافية من الإشباع الحزبي والسياسي لتمثيل كل التيارات والتشكيلات التنظيمية التي يفرزها المجتمع، بينما العديد من التنظيمات لا زالت محرومة من حقها في التنظيم والمشاركة، (حزب الأمة والبديل الحضاري مثالا)، والبعض يريد أن يؤكد أن التشكيلات الحزبية الراهنة لم تعد في مستوى التأطير، ويرجع لها أسباب الإخفاقات التي عرفتها البلاد، وبالتالي يعطي مبررا لنفسه بالظهور بمظهر القائد المنقذ الذي يشد إليه "الرحال والترحال"، محولا بذلك متطلبات الرهانات الأساس للبلاد، من مجرى ضرورة استكمال مسلسل الإصلاحات ومستحقاته بما يتوافق مع التطلعات المجتمعية، إلى مجرى إثارة معارك وزوابع مجتمعية بينية رخيصة وثانوية، بالنظر إلى جدول أعمال الإصلاح الوطني المؤجل، الذي ينبغي أن يدشن، قصد الانتقال التدريجي إلى دولة المجتمع المعبرة عن اختياراته ونبضه وتطلعاته، هكذا تصبح العناوين المطلبية الأساس المتمثلة، في الحق في توزيع عادل للثروات والشغل والقرار، والحق في التنظيم والتعبير، والحق في البراءة ما لم تثبت الإدانة وفي المحاكمة العادلة، والحق في العيش الكريم وفي حماية القدرة الشرائية الكافية لسد رمق العيش بعيدا عن فتنة التذلل لكسب القوت اليومي، والحق في أن تعكس الانتخابات الإرادة الحقيقية للمجتمع...، عناوين ليست بدرجة الإلحاح بحسب نظرة هذا البعض، حتى وإن كانت أساسا في قياس أي تحول نوعي في السلوك السياسي الرسمي، كل الهم الرئيسي له، توجيه سهام النقد للعجز الحزبي، والحال أن الإشكال ليس فقط في التعدد الحزبي، وليس فقط في العجز الحزبي الذي قد أقر بوجود بعض منه واقعا، ولكن الإشكال الحق في تقديري، هو في هذا التردد الرسمي في تبني المسار الإصلاحي اللازم الذي يبني البلاد حقا، ويسهم في نهضتها وتنمية قدراتها البشرية، وهذا المسار الإصلاحي له بداياته ومحدداته ومنطلقاته، ودون هذه البدايات والمنطلقات والمحددات، يعاد تكرار المآسي والأوجه والسيناريوهات و الإخفاقات، و يبدع في تطوير أشكال الهيمنة والتشويش على الحقل السياسي، بالأمس كانت ضمن عجائب المغرب السياسية أن يولد حزب اليوم، ويكتسح في فترة وجيزة على ولادته الانتخابات بصورة تبعث على الضحك وعلى الحزن أيضا، وأحيانا قد يكتسح "تيار المستقلين" المقاعد البرلمانية، ثم "بقدرة قادر" يجتمع كل هؤلاء "المستقلين" على "برنامج سياسي ومذهبية سياسية"، فيؤسسون حزبا سياسيا داخل قبة البرلمان تكون له الأغلبية العددية، الآن، تطورت عجائب الإبداعات المغربية في ميدان هذه السياسة، فأعطتنا نموذجا جديدا و فريدا: كيف تحقق الأغلبية البرلمانية، في أيام معدودات، دون أن تشارك في الانتخابات تحت غطاء الحزب الذي حققت به هذه الأغلبية؟، هذا هو الزمن السياسي المغربي، زمن المتناقضات والعجائب والتفاهات أيضا، وهذه هي صورة مشهد تطلعات وهموم بعض من "نخبنا" السياسية، شفافة في تمظهراتها، واضحة تلاوينها، باعثة للقلق، و معيقة للإسهام في أي تحول ديمقراطي وسياسي نوعي نحو دولة حاضنة للمجتمع، ومنصته لنبضه ومعبرة عن تطلعاته وأحلامه، إن الرهان هو وضع قطار الإصلاح على سكته الصحيحة، والبدء بإصلاحات مؤسساتية ودستورية وسياسية، تعطي للانتخابات معنى معقول، وللعملية السياسية برمتها معنى معقول، وللبرامج الانتخابية معنى معقول، دون ذلك، تفصيلات ينبغي أن تظل منشدة إلى هذا الجوهر الإصلاحي، وما دون هذه التفصيلات المنشدة إلى الجوهر، في تقديري يبقى مجرد تفاهات و تشويشات وتحريفات لربح عمر إضافي للمآسي المجتمعية العامة للبلاد والعباد... [email protected]