من يتابع مواقف الأحزاب في الشهور الأخيرة من مسألة الإصلاح السياسي عامة والإصلاح الدستوري خاصة ، يخلص إلى أن هذه الأحزاب من يمينها على يسارها مقتنعة بضرورة الإصلاح السياسي من منطلق إصلاح دستوري، مع فرق، مابين من يدعو لذلك بغية إصلاح سياسي شامل لتحقيق الأهداف، اقتصاديا واجتماعيا وصحيا وقضائيا وإعلاميا وثقافيا وتعليميا وتكوينيا..... ومن يراه أداة لتفعيل قرارات وتوصيات اقتصادية وحقوقية مرتبطة بتفعيل مقترحات لجهوية أكبر ولا مركزية أكثر، وثالث يطالب بذلك لإدخال جيل جديد من الإصلاحات لتحقيق تراكم في هذا المجال، أما رابع فهو فقط بذلك الموقف ُملوح ولتطبيق هذا المشروع غير متحمس ولا مُلح، وهو موقف لا يهمنا في هذا الصدد.كما لا يهمنا قول «سياسيين» من يتامى إدريس البصري الذين يعتبرون كل نداء للإصلاح الدستوري مزايدة سياسية أو انتخابية، لأن هؤلاء ليسوا في نهاية المطاف إلا تجار انتخابات لا غير. فأين يكمن الاختلاف اليوم بين تلك المواقف البناءة الثلاثة ؟ إنه بكل تأكيد مسألة توقيت هذا الإصلاح الدستوري. تذكروا رحمكم الله أن الاتحاديين عندما كانوا يطالبون بالإصلاح الدستوري قبل سنة 1990 ولمدة ثلاثة عقود، فلأن لديهم قناعتهم راسخة أن ذلك الإصلاح هو مفتاح بوابة الإصلاح السياسي، بوابة ستمكن الشعب برمته من ولوج فضاء إصلاح الوطن. و من يرفض الإصلاح الدستوري أو من يعمل على تعطيله إنما يرفض أو يعطل الإصلاح السياسي .من ثمة من يرفض أو يعطل إصلاح الوطن يرفض أو يعطل إصلاح أوضاع الشعب اقتصاديا واجتماعيا وصحيا وقضائيا وإعلاميا وثقافيا وتعليما وتكوينا... وبما أن هذا الإصلاح يعني طرفين: الملك والشعب، كان من اللازم مخاطبة رئيس الدولة مباشرة لنيل موافقته على التحاور في شأنها. وقد تعذر ذلك حينئذ، ورأينا تلك الأحزاب «المكلفة بمهمة» تتصدى للاتحاديين واتهامهم بمحاولة «الانقلاب» على جلالته. سنة 1991 حصلت قناعة مشتركة لدى الملك ولدى قوتين سياسيتين رئيستين بالمغرب أفضت إلى تعديلين دستوريين في أقل من خمس سنوات ، مع ملاحظة أن تعديل 1992 سبق بشهور قليلة انتخابات1992، وتعديل 1996 كذلك سبق الانتخابات بأقل من سنة. ولم نسمع حينها احتجاجا من أي مُكون سياسي حول تزامن التعديل الدستوري والانتخابات. أما في العهد الملكي الجديد، وخصوصا بدءا من أواخر2005، تفتقت «عبقرية «لدى بعض السياسيين سامحهم الله ، لرفض أو تعطيل أي إصلاح بدعوي قربها من زمن انتخابي صيف2007 .وللحقيقة فقد نجحوا في ذلك مائة في المائة. واليوم تكرر بعض الأحزاب نفس الأسطوانة لمجابهة الاتحاديين عند مطالبتهم بالعمل على إرساء ملكية برلمانية .فهم يعيبون على الاتحاديين توقيت المطالبة فقط. ومنطق الأجندة الانتخابية ببلادنا تنبئنا أن هؤلاء لا يرغبون في أي إصلاح، لا دستوري، ولا سياسي ولا إصلاح الوطن . وعيبهم كامن في انتقاد توقيت المطلب الاتحادي دونما اقتراح توقيت لذلك الإصلاح ، وهم يعلمون بمنطقهم، أنه إذا حُرٌمَ طرح هذا الإصلاح قبل انتخابات يونيو المقبل والتي لن تكتمل حلقاتها إلا في نهاية 2009، سيستحيل طرحه بعد هذه السنة ، إذ سيكون المغرب ،في أقل من سنتين ونصف فقط ، أمام استحقاق سياسي بامتياز سنة2012، وسيستحيل طرحه بعدها، إذ ستتبعه فترة لتنصيب حكومة جديدة وتداعياته، لن تفصلنا إلا سنتين وأيام،تقريبا، عن موعد انتخابات جماعية لسنة 2015، وهكذا دواليك سيتأجل كل إصلاح دستوري إلى ما لا نهاية ، وسُتناهض كل دعوى للقيام به بذريعة الانتخابات..إلى يوم القيامة. و سيتهم كل داع لإصلاح الدستور إما أنه غير راض على نتائج انتخابات سابقة أو أنه يقوم بحملة قبل الأوان لانتخابات لاحقة. غريب هذا الامر . أليس من الأبجدية السياسية عدم طرحُ السياسي لسؤال هو غير قادر على الإجابة عنه؟ وإلا أين توقيتكم لهذا الإصلاح الدستوري إن كنتم صادقين؟ فأنتم قوم مقتنعون، لكنكم غير مستعدين لترجمة قناعاتكم . إن الدستور، ومهما سما به البعض لأي سماء من السموات السبع، يظل مجرد قانون . والقوانين تُغير عندما تنتهي مدة صلاحيتها أو تتعارض مع الواقع . ودستور 1996 أصبح كذلك .وكان لا بد من تجاوزه بإقرار دستور متقدم عليه، لتأهيل سياسي أكبر، تمهيدا لإصلاحات شاملة تهم جميع الميادين المرتبطة بالشعب وحياته وصحته وعمله وتعليمه وتكوينه .. وبالتالي فتوقيت تغيير الدستور مرتبط أساسا بزمن انتهاء صلاحيته ولا علاقة له بالزمن الانتخابي أو غير ذلك من المبررات الغامضة والواهية. والملفت حقا في هذا الصدد ،أن أغلب الذين ربطوا أو يربطون تعليق هذا الإصلاح بالانتخابات يعبرون عن ذلك من مواقع المسؤولية الأولى ،حكومية أو برلمانية، التي يحتلونها. وكأني بهم يقولون للشعب ، تلميحا لا تصريحا، أن هناك عدمُ رغبَة ، الآن ، في أي إصلاح دستوري وسياسي، وبالتالي هناك عدم رغبة إصلاح وطننا في المستقبل المنظور. بذلك تتكرر وتترسم، ومن جديد ، عقلية مخزنية قديمة عمرت لقرون ببلادنا عصفت بحكم سلاطين مؤمنين بإصلاح بلادهم ، خصيصا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من جهة، وكرست استبدادا سياسيا زهاء 30 سنة من جهة أخرى، مرورا بتدخل سافر لقوى توسعية واستعمارية في شؤون المغرب الداخلية بدعوى الإصلاح السياسي والإداري وانتهت بنهب ثروات بلادنا بعد احتلالها. والنتيجة تأزم وتخبط الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الشعب منذ عشرات العقود من السنين، وهي راهنا و بكل تأكيد أوضاع سياسية غاية في الصعوبة داخليا وكذلك أوضاع اقتصادية غاية في التأزم عالميا.