بسم الله الرحمن الرحيم يقول المفكر الإسلامي عباس محمود العقاد في كتابه: "الإنسان في القرآن الكريم" بعد أن عرف الإنسان عدة تعاريف وناقشها: الإنسان في عقيدة القرىن هو الخليفة المسؤول بين جميع ما خلق الله، يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب، فلا تدركه الأبصار والأسماع. والإنسانية من أسلافها إلى أعقابها أسرة واحدة لها نسب واحد، وإله واحد، أفضلها من عمل حسنا، واتقى سيئا، وصدق النية فيما أحسنه واتقاه. لقد ذكر الإنسان في القرآن بغاية الحمد، وغاية الذم في الآيات المتعددة، وفي الآية الواحدة، فلا يعني ذلك أنه يذم ويحمد في آن واحد، وإنما معناه أنه أهل للكمال والنقص بما فطر عليه من استعداد لكل منهما، فهو أهل للخير والشر لأنه أهل للتكليف. فمن هو الإنسان في الخطاب الإلهي؟ وما هي مزاياه وسماته؟ وما هي مسؤوليته الكبرى في الحياة؟ عندما نتأمل في القرآن نجده يبصر الإنسان بحقيقته وبمختلف مزاياه، وبمهمته في الدنيا، وذلك من خلال حقيقتين اثنتين داخلتين في قوامه وتركيبه الإنساني، وبينهما – في الظاهر – ما يشبه التناقض. فالحقيقة الأولى: أنه مخلوق تافه أصله الأول من تراب وسلالته من ماء مهين، والشأن فيه إن طالت به الحياة أن يرد إلى أرذل العمر فلا يعلم بعد علم شيئا، ويغلب عليه مع ذلك أن يشمخ بأنفه ويستكبر، ويخاصم ويعاند ويجادل ويكابر. هذه الحقيقة توضحها مجموعة من النصوص القرآنية نكتفي بذكر بعضها منها قوله تعالى: - "فلينظر الإنسان مم خلق..." الطارق 7 - "قتل الإنسان ما أكفره..." عبس 17 - "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج..." - "أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين" يس 77. أما الحقيقة الثانية التي تشكل الجزء الأخير من هوية الإنسان في الخطاب الإلهي فهي أن الإنسان هو ذلك المخلوق المكرم على سائر المخلوقات الأخرى. أمر الله الملائكة بالسجود له وهو سجود تعظيم لا سجود عبادة، وشرفه بالخلافة على هذه الأرض عندما أراد ان يجعله مظهرا لعدالته تعالى وحكمه، وأنه الحيوان الوحيد الذي جهزه الله بالعقل والتفكير والبيان، والقدرة على إدارة الأمور، ولتوضيح هذه الحقيقة نتجول قليلا في رحاب القرآن الكريم ونقرأ قوله تعالى: - "ولقد كرمنا بني آدم..." الإسراء 70 - "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا" البقرة 24. - "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" البقرة - "وعلم آدم الأسماء كلها" البقرة نتساءل هنا عن كيفية تآلف هاتين الحقيقتين ضمن هوية واحدة للإنسان؟ وما وجه تركيز القرآن الكريم على كل منهما؟ وما هو أثر تنبيه الإنسان إلى اتصافه بكلا هاتين الحقيقتين؟ حول هذه الأسئلة يقول رمضان اليوطي رحمه الله: إن الإنسان مهما بلغت مرتبته من السمو ومهما اتصف به من المزايا والصفات النادرة فإن ذلك ليس نابعا من ذاته أو اكتسبه بجهده، واستقلال طاقته، وإنما جاءه فيض من الله عز وجل، وأمانة استودعت عنده إلى أجل. أما تكوينه الذاتي فمن تراب تافه، ثم من ماء مهين، ثم هو مخلوق عاجز، في قبضة الله وحكمه وقد أطبقت عليه آثار العبودية لمن بيده خلقه وتدبيره، إن لم يقر بذلك لسانه طوعا، آمن به كيانه وواقع حاله قسرا، غير أن الله عز وجل لما شاء أن يختاره لعمارة هذه الأرض وكلفه بتأليف أسرة إنسانية تعبد الله وتقيم حياتها على منهج شريعته الربانية .. جهزه بملكات نادرة، وميزه بصفات سامية لم توجد في غيره، فأعطاه العقل والتفكير، وسخر له كثيرا من المخلوقات، وغرس في كيانه شعور حب الذات والإحساس بالأنانية، هذه الصفات ليست في حقيقتها إلا فيوضات من صفات الربوبية أنعم الله بها على هذا المخلوق ليستعين بها في أداء رسالته، وتحقيق خلافته على الأرض. وإذن فالإنسان في كينونته عبد مملوك لله عز وجل، خلق من ضعف، وينتهى إلى ضعف ولكنه نظرا للرسالة الإلهية التي حملها يتمتع بصفات نادرة، جهزه الله بها فاستحق بموجبها الرفعة والتكريم إن هو استعمل تلك الصفات على وجهها وفيما أهلت له. وأما وجه تركيز القرآن على كل من هاتين الحقيقتين معا، والاستمرار في تذكير الإنسان بضالته وتفاهة أصله إلى جانب تذكيره بالمكانة التي يتبوأها، وبأهمية وجوده، وخطورة الصفات النادرة التي ركبت فيه، والوظيفة التي كلف بالنهوض بها؟ لأنه تربى في ظلال هاتين الحقيقتين معا. فمن عاش وهو لا يرى من نفسه أو ذاته إلا مظاهر ضعفها، ودلائل تفاهتها وهوانها جدير به أن يثركن إلى ضعف يجعله ضحية طغيان الجبابرة، والمتكبرين، ويبعده عن إنجاز أي عمل أو خدمة إنسانية مما قد حمله الله تعالى مسؤولية النهوض بها في سبيل عمارة الأرض، وإنشاء الحضارة الإنسانية المطلوبة، ومن عاش وهو لا يرى من نفسه إلا أنه الإنسان المكرم الذي لا يملك من المزايا والصفات ما يخوله أن يبسط لنفسه حكما وسلطانا على كل ما حوله .. جذير به أن يسكر بنشوة تلك الصفات التي ليست في الواقع إلا فيوضات إلاهية ثم أن يجعل من نفسه حاكما من دون الله عز وجل، يبسط قهر ربوبيته الزائفة على سائر المستضعفين. وإذا تأملنا الخطاب الإلهي وما يتضمنه من تبصرة وإرشاد وتعليم، فغننا نراه يدور على محور هذا الهدف فهو يهيب بالإنسان أن يدرك هويته، ويتعرف على ذاته، ويقيم سلوكه على أساس منسجم ومتين مع هذه المعرفة: فلا يذل أو يهون لغير الله الذي بيده حياته وموته، ونفعه وضره، ولا يرتدي كسوة الكبر والطغيان، وهو يعلم أنه ليس إلا عبدا مملوكا لسيده الذي خلقه. الإنسان إذن كائن مكلف خلقه الله وأودع فيه دوافع فطرية تعبر عن تكوينه الخاص الذي تتفرع عنه غرائزه .. ولا يمكن للزمن أن يبدل أو يقتل تلك الغرائز والنوازع الفطرية فهي أصيلة في الحياة الإنسانية، فالإنسان هو الإنسان من حيث تلك الصفات الجوهرية التي قررها القرآن في سورة الروم.. فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" الروم 30. وقد دلت عشرات البحوث العلمية الحديثة على أن الإنسان لا يمكن أن يتطور في صفاته الجوهرية، وأن التدخل الذي حدث لإنكار دور تلك الصفات هو المسؤول عما تعانيه الحضارة الحاضرة من عدم الاستطاعة في إيجاد صيغة متوازنة للحياة الإنسانية بينما ينظر الإسلام إلى الإنسان من حيث هو جوهر أصيل له رغبات ذاتية فطرية لابد أن تشبع، وتحل مشاكلها في ظل مذهبية ربانية تنظر إلى الإنسان نظرة أصيلة لا عرفية، ولذلك نجد الشريعة الإسلامية تعالج مشكل الغرائز الإنسانية من مبدأ الاعتراف بها وبوجودها، فجانبها الروحي يحتاج إلى مخطط عبادي يملؤه، ويشعره بلذة العبودية لخالقه حتى لا يبقى تائها حائرا يعاني من الفصام، وجانبها الجنسي يحتاج إلى مخطط اجتماعي أخلاقي يضبط العلاقات الجنسية في المجتمع، ويحصرها في داخل الأسرة حتى لا يؤدي به ضغط الغريزة الجنسية إلى الدرك الأسفل من السلوك الحيواني غير المنضبط. وجانبها في غريزة الشبع يحتاج إلى مخطط اقتصادي يحافظ على التوازن المعاشي الذي يمنع انتقال المجتمع إلى حياة الترف من جهة، والجوع المهلك من جهة أخرى. وجانبها في غريزة الطموح الإنساني يحتاج إلى مخطط يحقق آدميته، ويثبت له حرية مهذبة مضبوطة حتى لا ينتهي إلى استعباد طائفة لطائفة أخرى وسحقها تحت مطرقة غريزة الاستعلاء والطمع، وكذلك كل غريزة من غرائزه لو دققنا النظر فيما شرع لها الإسلام لوجدنا أنه أراد المحافظة على جوهر الإنسان ممثلا في شمولية غرائزه التي تستوعب كيانه كله عن طريق خلق التوازن المطلوب بينها بحيث يأخذ بعضها برقاب بعض لأداء دورها كاملا في الحياة. هذه الحقائق الفطرية في كيان الإنسان لابد من إدراكها واعتبارها عندما نريد أن نخطط لتغيير الإنسان، أو لتغيير ما بالإنسان، فالإنسان كائن حضاري معقد جدا، له دوافع متنوعة، تؤثر فيها عوامل متشابكة ومختلفة عبر مراحله الاجتماعية المتتابعة وهذه العوامل منها ما هي فطرية جبلية، ومنها ما هي عوامل اجتماعية بيئية مكتسبة، ولابد أن تخضع الدوافع الإنسانية إلى تربية شاملة متوازنة تراعي كيانه من حيث هو كل لا يتجزأ، وأي تجزيء للإنسان وفهمه في ضوء ذلك ستقود إلى خطأ علمي كبير يضيع كثيرا من الحقائق الطبيعية في حياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية. وقد حدث في العصور الأخيرة طمس واضح لشمولية الإنسان ومعالمها الكلية بناء على دراسته دراسة مجزأة والنظر إليه من زاوية معينة، وسحب نتائجها على الكل الشمولي: النظرة الكنسية: عندما نظرت إلى الإنسان من حيث هو كائن روحي كرد فعل عنيف على حيوانية ومادية النظرة الرومانية، أفقدت الإنسان توازنه، وحملته ما لا يحتمل، وحاولت قتل غرائزه، وتجاهلت واقعه الأرضي تجاهلا كبيرا. والوضعية التي نادى بها أوجست كونت عدت الإنسان كائنا يستطيع أن يشكل قيمه بنفسه ويحولها إلى دين وضعي، يضبط حركته الاجتماعية، ولا حاجة بعد إلى الأديان والقيم القديمة في زعمه، ثم ظهر بعد قرن كامل من الصراع والتجربة أن الإنسان لا يستطيع أن يوجد القيم المجردة عن المصالح، لأن حب الإنسان لمصلحته موجه من جانبه الحيواني حال بينه وبين فهم الإنسان، من حيث معناه وشموليته، ومنعه من إيجاد تلك القيم المجردة التي تعبر عن المعنى الشامل لإنسانيته. والماركسية جرأت الإنسان من شموليته وجعلته سلوكا متغيرا في ضوء تغير أدوات الإنتاج مجبرا على ذلك السلوك مسلوب الإرادة، فحصرت شموليته الإنسانية في العامل الاقتصادي، ثم أثبتت التجارب الواقعية والإحصاءات الدقيقة في الدراسات الحديثة أن سلوك الإنسان لا يمكن أن يفسره عامل واحد، لأن ذلك يعني فصمه عن كيانه الإنساني الشامل، وفي ذلك انحرافه وأزماته وشقاؤه. والداروينية نظرت إلى الإنسان من زاوية حيوانية انطلاقا من التشابه الظاهري في القانون الواحد الذي خلق الله تعالى به الإنسان وسائر الحيوانات ناسية مساحة الاختلاف والتنافر التي تجسدها شمولية شخصية الإنسان لجانبه الحيواني البحث، وجانبه الفكري والشعوري، فأثرت وجهة نظرها الإحتمالية تأثيرا كبيرا في إنكار ثبات الصفات الخلقية والإنسانية، وانتهت إلى اعتبار الإنسان حيوانا اجتماعيا متطورا لا ضوابط لتغييره إلا في إطار تكوينه الحيواني. أما الفرويدية فقد نظرت إلى الإنسان في ضوء حيوانيته وانتهت إلى أن الجنس هو أساس حركة الإنسان وسلوكه، وكان من نتائج الفرويدية تحطيم الأسرة وضوابطها من خلال الفوضى الجنسية العارمة التي نفذت إلى كل جزئية من جزئيات الحياة الاجتماعية في الحضارة الحديثة. وكانت خاتمة المطاف في سلسلة النظرات الأحادية المجزئة لكيان الإنسان النظرة الوجودية السارترية التي أنكرت كسابقاتها وجود الإله، لينصب الإنسان نفسه مكانه بدعوى إثبات وجوده، وتحقيق حريته بعيدا عن أوامر الدين ونواهيه، وتوجيه الفلسفات العقلية، وضغط العادات والتقاليد؛ من هنا نلاحظ أن المناهج التغييرية في العالم لم تستطع أن تقود المجتمع الإنساني إلى السعادة والتوازن لأنها لا تنظر نظرة شمولية إلى الإنسان، وحتى لو نظرت فإنها تنظر بعين بشرية محضة، ولذلك لم تفلح في مهمتها، لأن أسرار الحياة للعالم الإنساني لا يمكن أن تدرك في عصر واحد، وهي من التعمق والتشابك والتعقيد بحيث لا يدرك أبعادها إلا خالق الكون والإنسان الذي أودع في الوجود هذه الأسرار، وهو عليم بها وبحركتها وضوابط موازنتها، ومن هذا المنطلق وبناء على ما أشرنا إليه .. فإن المنهج الإسلامي المبني على الخطاب الإلهي هو وحده الكفيل لتوفير السعادة للإنسان ولقيادة حضارتنا الحاضرة وملء الثغرات التي أفرزتها الحضارة الغربية في نظرتها إلى الإنسان. المراجع: - عباس محمود العقاد – الإنسان في القرآن الكريم. - رمضان البوطي – منهج الحضارة الإنسانية في القرآن الكريم. - محسن عبد الحميد – منهج التغيير الاجتماعي في الإسلام.