كثيرة هي المهن التي أثبتت وجودها بفعل التقادم أوب"الأقدمية"بحسب تعبير الوظيفة العمومية،وطبيعة هذا الإثبات أملتها الحاجة والضرورة.فالقاضي يفصل في المنازعات ويقرر الجزاء،والمعلم يلقن الدروس ويربي الأجيال،والطبيب يحرص على صحة الأفراد والجماعات..الخ.هذه المهن وغيرها كثير،هي وليدة الطلب العمومي،وهي صميمية في الوجود من حيث أداؤها أدوارا أساسية لا غنى عنها،وغياب أحدها أو بعضها لا شك وان يحدث شرخا واضحا في توازن الأداء المجتمعي. "" غير أن تسارع نمط الحياة والتعقيدات المرتبطة بهذا التسارع عجلت بظهور مهن حرة تعمل بالموازاة أو بالتداخل مع المهن القائمة أصلا،والمحاماة واحدة من هذه المهن،إذ قيل أن هذه أن هذه المهنة جاءت لمؤازرة المتقاضي حينا،ولمساعدة جهاز القضاء حينا آخر،ولضمان محاكمة عادلة أحيانا أخرى.وكل هذه التعابير ما هي إلا تلميح مبطن لقصور جهاز القضاء،وحده،عن الوفاء بالمطلوب،أي إجراء المحاكمة العادلة والنزيهة بالشروط التي يرتضيها جميع الأطراف،وهذا برأيي عجز لا يمكن تبريره إذا افترضنا الأهلية والنزاهة والشفافية في سيرورة إجراءات التقاضي.ثم أن جهاز القضاء،وإن ارتضى لنفسه العمل بالتعاون مع هيئة الدفاع،فليس ذلك إلامن قبيل التغطية على شطط محتمل حصوله بفعل عسر المساطر وشوائب التحقيقات،والحالة أن المواطن العادي تتجاوزه هذه المثبطات،فيرتمي بوعي أو بدونه بين أحضان المحامي،رغبة في استرداد حق مغتصب أورد اعتبار لكرامة مهدورة،أو حتى لدواعي نفسية كإثبات الغلبة مثلا. وبما أن العناصر الثلاثة تتداخل مع بعضها في اتصال وانفصال فإن مهنة المحامي مافتئت تنتعش على حساب مهن أخرى بديلة،فضلت أن تركن في الصف الخلفي للمشهد المجتمعي (أحيل هنا على دورالجمعيات الأهلية ودور الوعاظ والمرشدين) وإذا تحرينا الموضوعية والصراحة في شأن مهنة المحاماة، وكان واجبا التسليم بدورها في منظومة القضاء،فلا بد من التمييز بين صنفين من المحامين: الصنف الأول،وهو الذي يتشكل من محامين متفرغين ومتضلعين في بنود القانون بجميع روافده،نزهاء الجريرة، أصفياء السريرة.لا تزحزحهم في سبيل إحقاق الحق أهواء،ولا تجرفهم عند التجديف نحو تحقيق العدالة أنواء.يقبلون على القضايا غثها وسمينها سواء بسواء،ولا يعانقون السياسة إلا بقدرما يدعم ثقافتهم الحقوقية. أما الصنف الثاني فيندرج في إطاره أشخاص يسكنهم الحس المقاولاتي وتذهب بتلابيبهم إغراءات المال وسلطانه.لا يقبلون على إحقاق الحق إلا بقدرما في جعبته من عملة صعبة،ولا يراهنون على القضايا العمومية الشائكة لأن في ذلك احتمال للخسارة.بينما لا يتوانون في التهافت على ملفات التعويض والتأمين..وكل القضايا المغموسة في دسم المال..وهم إن آزروا موكليهم استغفلوهم بوازع ضعف درايتهم بفصول القانون ومساطر تنفيذه،فيعملون عمل المنشار ما بين أرزاق هؤلاء التعساء وشركات التأمين التي تتكفل بتعويض الملفات .فيأخذون من هنا وهناك دون رقيب أو دليل إثبات. ومن ميزات هؤلاء أنهم لايقبلون على السياسة إلا لتلميع مواقعهم وجلب السعد الذي تجسده قاعات الانتظار بالمكتب،حينما تكون مملوءة عن آخرها،ولا يهمهم مدى انعكاس توجههم السياسي،إن كان لهم ،على أدائهم الحقوقي .وسيادة هذا الصنف من المحامين دليل على انحسار العدالة وتحولها إلى مجرد سوق للدلالة تحتكر القضايا المعروضة عليها بناء على مردوديتها ونفعها المادي،بينما يتم استبعاد غيرها باقتراح إعادتها،في أفضل الأحوال، إلى مربع الصلح من جديد.