يقصد بعبارة «الاختراق» إستهداف جماعة سياسية أو فكرية أو ثقافية، أو دينية، أو اقتصادية، من قبل جهة معادية، وذلك بقصد حرفها عن سياساتها ومواقفها إما من خلال تشويشها أو إيقاع الفتنة داخلها أو استدراجها إلى نقاط مشبوهة أو دفعها لاتخاذ مواقف مغامرة تسيء إلى سمعتها أو تعرضها للضرب أو السحق، هذا إلى جانب أن يكون هدف الاختراق هو نقل المعلومات السرية الداخلية نقلاً دقيقاً ومنتظماً قدر الإمكان. يبدو من هذا التعريف بعبارة الاختراق أنها تشمل عدة مجالات مختلفة، وتحمل عدة أهداف مختلفة، وقد مورست هذه العملية، أو مورس الاختراق، عبر مختلف مراحل التاريخ، ومن داخل مختلف ألوان الصراعات، وإن أصبح في عصرنا الراهن على يد أجهزة مخابرات الدول الكبرى كما على يد منظمات عالمية مثل المنظمات الصهيونية أو الماسونية حرفة متقنة الصنعة مدعومة بدعم مالي وتقني وبشري ومعلوماتي وخبرات متعددة مما رفعها إلى مستوى عالٍ جداً نوعاً وكماً وتنوعاً ، لم يسبق له مثل في التاريخ. ومن هنا فإن نظرية تفسير عدد من الظواهر الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية أو الثقافية لا معقدة، وذات الجدة والغرابة، من خلال إعادتها إلى الاختراق ، قد كسبت أنصاراً كثراً ولقيت رواجاً واسعاً ، فعلى سبيل المثال أمعن البعض في تفسير التحولات التي طرأت على سياسات فتح ومنظمة التحرير إلى نظرية الاختراق كما في تفسير سلسلة من العمليات العسكرية التي شهدتها الجزائر ودول أخرى الأمر الذي يضفي بعداً آخر من الأهمية على دراسة ظاهرة الاختراق لا من أجل حماية الذات(الجماعة) منها وإنما ايضا حرصا على المعرفة والتدقيق في دراسة الأسباب الحقيقية وراء الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية الكبرى، وهذا الجانب الأخير هو الاكثر أهمية لأن الجانب الأول قد يكون شغلاً شاغلاً لمختلف الدول والأجهزة والمؤسسات والجماعات والمنظمات مما يضعف الحاجة إلى التنبيه لمخاطره أو معالجة أشكال التحصن في مواجهته، أي الحاجة إلى وضع ما يمكن أن يقوم به الاختراق ضمن حدوده الفعلية، ومن ثم إبقاء اتجاه البحث والتدقيق في الظواهر المختلفة متوهجاً متوقداً دون أن تشغل نظرية الاختراق على رؤية الأسباب الحقيقية وراء الظواهر. وبالمناسبة هذه النظرية التي أشيع استخدامها اليوم هي المرادف المطابق تماماً لنظرية تفسير التاريخ بالمؤامرة أو التآمر والتي سادت لدى البعض ردحاً من الزمان، لكنها تلقت ضربات فكرية متعددة مما فرض عليها انحساراً نسبياً لكن لتعود هذه المرة بحيوية بعد أن حملت اسماً جديداً هو الاختراق واستمدت دعماً من النشاطات الاختراقية المعاصرة التي تقوم بها أجهزة الدول الكبرى وبعض المنظمات العملية الكبرى. وبالمناسبة فإن أول الدروس التي تتعلمها أجهزة الدول المستقلة حديثا في العالم الثالث تتعلق بمسألتي الاختراق ومقاومة الاختراق، مما صعّد وعمم أكثر فأكثر النشاطات الاختراقية، ومن ثم غذي تفسير عدد من الأحداث من خلال نظرية الاختراق. لكن السؤال هل يستطيع الاختراق أن يولّد الظواهر الاجتماعية والسياسية الكبرى التي قد تغير احيانا مجري الأحداث وتؤثر على مسيرة التاريخ في هذا البلد أو ذاك أو على مستوى أوسع ، أو بمعنى أدق كيف يمكن أن تحدد الحدود التي يمكن للاختراق أن يفعل بها أو يحققها في النشاطات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والحضارية الكبرى ، وذلك على مستوى العالم وعلى مستوى الدول الكبرى والوسطى والصغرى مجتمعة ومنفردة. قبل مناقشة هذا السؤال لابد من أن يحدد دور الفرد في التاريخ هل الفرد ، أو بضعة أفراد، هم الذين يصنعون التاريخ أو التحولات التاريخية الكبرى أم أن تلك التحولات تتم عبر عملية تاريخية وتتضافر في تكوينها عدة عوامل فيأتي الفرد (القائد ، الزعيم، الملهم) أو بضعة أفراد أفذاذ من حوله ليركبوا موجة التحول وقد منحوها القيادة وبثوا فيها من روحهم واجتهادهم وأسلوبهم في إدارة الصراع بل زادوا من الإضاءة داخلها ومن حولها حتى كان التغيير الكبير الذي قد يحمل اسمهم وقد حفرت على جبهته بصماتهم ، لكن مع كل ذلك فإن عملية التغيير الكبرى كانت في طريقها للتحقق سواء أقدر لهذا الفرد أن يعيش ليقودها، أولم يقدر له فمات مبكراً من مرض أو حادث ، لأن عوامل التغيير هنا تصبح مثل طلق المرأة التي توشك على الولادة يصرخ مستدعيا من يساعد عليها أو يقوم بها. فالمعادلة هنا متوازنة بين عوامل موضوعية خارج من إرادة أي فرد من الأفراد لكنها أيضاً بحاجة، كشرط ضروري لتحققها أن ينبري فرد أو أكثر (في الغالب فرد ومعه بضعة أفراد) لتولي أمرها بمنحها القيادة والإرادة والوعي وحسن إدارة الصراع أو سوئه. أما الذين يتصورون أن التغيير أو ولادة الظواهر يمكن أن يحدث بفعل إرادي دون توفر شروط متعددة من عوامل مادية ومعنوية متنوعة تتكون وتنمو داخل الحالة المعنية لا يستطيعون أن يفسروا المراحل الطويلة التي تمر على أمة من الأمم وهي في حالة ركود وجمود أو تدهور، ولا يستطيعون أن يفسروا جملة الإرهاصات التي تتشكل في وقت واحد أو أوقات متقاربة لبروز القياداة المطلوبة أو الأكثر كفاءة لعملية التغيير. وهذا ينطبق أيضاً على حالات التغيير حين تأخذ منحى انحدارياً أو انحطاطياً.. هنا أيضا لابد من تشكل مجموعة عوامل مادية ومعنوية داخل المجتمع أو في المرحلة المحددة والتي تسمح ببروز «قادة» الانحلال والانحطاط والتدهور تماماً كما هو الأمر في الحالة المعاكسة. ولعل آية «إن الله لا يغير ما بقول حتى يغيروا ما بأنفسهم» لا تجعل عملية التغيير من فعل فرد أو بضعة أفراد وإنما هي عملية تشمل القوم كلهم. كما أن آية «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً» هنا يرتبط الأمر بالإرادة الإلهية في إهلاك قرية ما وهذا لا يتحقق وأمورها صالحة وإنما حين تنمو في داخلها عوامل هلاكها فيصدر الأمر لمترفيها «الأفراد المتنفذين فيها أغنياء وأهل سلطان» ليفسقوا فيها فيحق عليها الدمار. بكلمة لا يمكن أن يفسّر التاريخ أو تفسّر الظواهر الاجتماعية بفعل الأفراد والإرادة فقط دون أن يربط فعل الفرد والإرادة بتشكل العوامل المختلفة التي تولد الظاهرة والتي تستدعي بدورها القيادة التي تضع بصماتها عليها في عملية الولادة والتغير سواء أكان ذلك في الإيجاب أم في السلب ، أي نهوضاً أو انحطاطاً. ولهذا حين نفترض أن ثمة اختراقاً حدث من خلال فرد أو حتى بضعة أفراد فإن الدور الذي يمكن أن يلعب هنا في تشكيل ظاهرة اجتماعية أو في جرفها وتحويلها إلى ظاهرة أخرى مختلفة تماماً لا يمكن أن يخرج عن القانون الحاكم في العلاقة بين الفرد والمجتمع أو بالنسبة إلى دور الفرد في التاريخ، أي لا يمكن أن يؤثر في الظاهرة إلا إذا كانت الظاهرة في طريق التشكل لا محالة أو كانت عوامل التغيير فيها متفاقمة مما يولد الحاجة إلى من يركب هذه الموجة ويضع بصماته عليها، وهو أمر لا مفر منه سواء أكان ذلك الفرد أصلاً أو اختراقاً سيان؟ طبعاً الاختراق يقصد منه التحول السلبي، ونادراً ما يكون الهدف منه تحولاً إيجابياً، ربما في حالات النهوض الكبير فقط. إلى هنا يمكن استنتاج موضوعتين الأولى أن البحث في تفسير الظاهرة المعنية يجب أن يبدأ ويركز على العوامل الأساسية المختلفة التي كونتها أو حددت اتجاهها العام. وإذا ما حدث ذلك تصبح الأهمية التي يمكن أن تعطي للاختراق ثانوية ومحدودة، لكن في كل الاحوال لا يمكن تفسير الظاهرة بالاختراق ، وكلما أصبحت الظاهرة أكبر وشملت فئات اجتماعية أكبر أو شملت حالة أمة بأسرها فإن تفسيرها بالاختراق يصبح متضائلا إلى أبعد الحدود. أما الموضوعة الثانية فهي أن الاختراق حين يعمل لدفع الظاهرة باتجاه معين يجب أن يكون ذلك الاتجاه متشكلاً داخلها إلى هذا الحد أو ذاك أما إذا حاول السباحة ضد التيار فسوف يخترق وتثار حوله الشكوك، ومن ثم يكون من أهم شروط مقاومة الاختراق لا يتمثل بالأساليب الأمنية الفنية من جهة كشف العملاء أو كشف من يجندون لاحقا (وهذا من أصعب حالات الاختراق على الكشف) إنما يتمثل في تحديد خط سياسي وفكري صحيح وقوي ومتماسك، ومن ثم يجد الاختراق نفسه في حالة اختناق فإن تحرك بقوة ووضوح انكشف أمره وهو حريص على عدم انكشافه وإذا حاول التسلل إلى عقول البعض بأعلى درجات الحذر والمكر لهذا أيضاً يحصر فعله بالضرورة ويخنقه إن كان في المقابل تشديد عال على صحة الخط والدفاع عنه واليقظة إزاء ما ينشأ في داخله. لا يستطيع الاختراق أن يتصرف كما يتصرف العضو المعارض الذي يصدر عن قناعات لأن الأخير لا يهمه في نهاية المطاف أن يجمد وضعه أو يحذر منه أو حتى يفصل ولهذا يمكنه أن يعارض ويسعى لإحداث التغيير من الداخل مباشرة وجهدا لكن الاختراق لا يتسطيع أن يعرض نفسه لكل ما يمكن أن يعرض نفسه له ذلك المعارض. ولعل أقصى ما يمكن أ، يفعله هنا هو محاولة الصيد في الماء العكر حين ينشب صراع داخلي سواء أكان بتحريض هذه الجهة على تلك أو تشجيع الاتجاه الثالث، المهم أنه يمكن أن يركب موجة أو ينضم إليها لكنه لا يصنعها ، بل إن تشكل الموجة وهو الأساس هو ما يجب أن تدرس أسبابه وعوامله كما أن مستقبل الموجة يتقرر عبر مجموعة عوامل خارجة عنها هي ما يجب أن تدرس أسبابها. ومن هنا فإن القاعدة الذهبية بالنسبة إلى حماية اية حركة من الاختراق يجب الا تتركز على الجانب التقني الفني وإنما على صحة الخط ونظافة الهواء الداخلي حتى عندما تنشأ خلافات وتحتدم صراعات، فنظافة الهواء خانقة بالنسبة إلى الاختراق والمقصود هنا ، تحلي الاطراف المختلفة بالاستقامة في الصراع ومناقشة الأطراف المخالفة، والتمسك بأصول اللعبة الداخلية حسب كل حالة وإبقاء ذلك واضحاً تماماً، هنا لا يستطيع الاختراق أن يصطاد بالماء العكر وينفذ من النقاط الضعيفة، وإذا ما حاول أن يغير في أصول اللعبة لدفع الوضع إلى الفوضى أو الانقسام، أو الاقتتال أو الفتنة فسيجد نفسه معرضاً للشبهة والانكشاف. يشكل المثل الشعبي «امش عدل يحتار عدوك فيك» القاعدة الذهبية للحماية من الاختراق حتى على مستوى الفرد الواحد. وبالمناسبة حين يكون الهواء فاسداً والفتنة تشرئب برؤوسها فالوضع لا يكون بحاجة إلى الاختراق بل قد يصبح داعياً للعدو و«تعال فاخترقني» لأن الاختراق مثل الجرثومة التي لا تنمو إلا حيث الماء الآسن ، بل إن تأسن الماء مدعاة لولادة الجراثيم ونموها. من هنا يجب أن تُفسّر بعض العلميات التي تقوم بها جماعة معينة أو تنسب لها من خلال الإشارة إلى الاختراق حتى لو كان الاختراق موجوداً فعلاً وهو في الغالب يكون موجوداً فعلاً ، فالعمليات الشاذة لا تجد لها مكاناً في خط سياسي صحيح ولا يقبل الشذوذ لأنها عندئذ تجد نفسها شاذة متهمة من قبل الجماعة المعنية قبل غيرها وإذا كانت اختراقاً كان على الجماعة المعنية كشفها فوراً واتخاذ الإجراء الصارم بحقها لكن إذا كان الخط مشوشاً أو مدغولاً أي يكون الجو فاسداً من داخله فهنا يمكن للاختراق أن يفعل فعله ، ويمكن لغير الاختراق أي حتى للمصابين بأمراض نفسيه أن يفعلوا فعلهم، لذلك التفسير يجب أن يرى في الخط الذي تتبناه تلك الجماعة وأن يشار بإصبع الاتهام إليه، فلا يغطي باتهام الاختراق حتى لو كان الاختراق مستفحلاً فعلاً. وإذا كان المهم ألا يسكت عن الاختراق الذي تقوم به بعض الأجهزة لتلك الجماعة فيجب أن يربط ربطاً محكما بينه وبين خط تلك الجماعة. لو لم يكن الإشكال كامناً في الظاهرة المعنية نفسها لكان بمقدور الاختراق أن يفعل الأعاجيب في كل شيء وفي كل حالة ، فالسؤال لو كانت هنالك حركة معارضة ذات خط سياسي صحيح متماسك لا يقبل اللجوء إلى العنف مثلاً بأي شكل من الأشكال أو لا يقبل من اعضائه أن يشنوا هجوماً اتهامياً ضد هذا الطرف السياسي أو ذاك، وكان الجهاز المعادي يريد أن يورطه بتهمة العنف أو يوقع بينه وبين من يعتبره حليفاً أو صديقاً ، فهل يستطيع الاختراق حتى لو نجح بالتسلل إلى الصفوف أن يبادر من تلفاء نفسه بالقيام بعمل عنيف أو أن يشن هجوماً فكرياً أو سياسيا يفسد العلاقة بالحليف المعني أو الصديق؟ إنه ببساطة لا يستطيع أن يفعل ذلك لسببين الأول أنه سيعرض عملية للكشف فوراً ثانياً ستكون فعلته مفضوحة حتى لو نفذها ورأى الطرف المعادي استغلالها (دولة مثلاً وعندها أجهزة الإعلام وتحقيق وقضاء) فالعملية ستأخذ طابع الفبركة المفضوحة أو المؤامرة، مهما اتقن حبكها، ذلك لأن تاريخ الطرف المتهم يدافع عنه ولأن إجماع صفوفه تدفع التهمة عنه ولأن أإلبية الناس وأهل السياسة يمكنها أن تشم رائحة ما هو مفبرك ومؤامرة. المهم أن لا يكون لفعل الاختراق أساس داخلي ، وإذا كان له أساس داخلي فالأشكال هنا وليس في الاختراق. وبالمناسبة إذا كان المسألة فبركة ومؤامرة فلا حاجة حتى إلى الاختراق لأنها يمكن أن تمارس من الخارج وتلبّس تلبيساً للجماعة المعنية، وهو أمر لو كان بالإمكان ممارسته بنجاح لما بقي هنالك معارضة أو حركة سياسية في أي مكان. بكلمة أخرى فإن الاختراق الذي يهدف إلى التأثير على الخط السياسي أو الفكري أو الثقافي القائم، أو الاختراق الذي يهدف القيام بأعمال تورط الجهة المعنية أو تشوّه سمعتها أو توقع الفتنة داخلها لا يعالج إلا بالمشي العدل أي الخط الصحيح والاستقامة في مواجهة الخلافات والصراعات الداخلية، وعدم السماح بالازدواجية سواء في المواقف أو السياسات، بل إن كل ما يتعلق بالسياسة والفكر يجب أن يكون علنياً ليس له ظاهر وباطن ومن ثم يفقد أي اختراق أهميته حين تمضي اللعبة على هذه الصورة، بل قد يكون ما يمكن أن ينقله مفيداً حين يكون ما يجري في الغرف المغلقة من نقاشات يتسم بما أشير إليه أعلاه. على أن ألوان الاختراق الأخرى ذات الأهداف الأخرى يجب أن تفهم ضمن حدودها هي الأخرى ويجب أن تعالج على ضوء ذلك الفهم. إن أهم الاختراقات التي تحرص عليها الأجهزة تتمثل أولاً باختراق بعضها بعض وهي ما جعلت الحرب فيما بين أجهزة المخابرات الدولية مستعمرة، وجعل الاختراق والاختراق المضاد ومقاومة الاختراق واختراق الاختراق والاختراق المزدوج والمباشر وغير المباشر ... الخ دوراناً لا ينتهي في لعبة جهنمية جعلت الجهود التي تبذلها المخابرات لحماية نفسها ولاختراق موازياتها يستغرق الجزء الأكبر ، وهنا تقتصر الأهداف من الاختراق على نقل المعلومات السرية المختلفة لا سيما المعلومات المتعلقة المضاد نفسه. هذا المجال أصبح عالماً قائماً بذاته وصنعة شديدة التعقيد والتكلفة ، وليس مهماً أن يتابع إلا من قبل من يعنيهم الأمر ، أو من قبل من ينسلون بقصص تلك اللعبة الجهنمية من خلال ما ينفجر من فضائح وقضايا أو يكتب من مذكرات أو يخرج من قصص أو أفلام. إن صنعة اختراق الآخر هي سمة القوي ضد القوي وسمة القوي ضد الضعيف وليست سمة الضعيف ضد القوي ، فالضعيف يحتاج إلى تحصين دفاعاته ضد الاختراق وليس محاولة اختراق العدو أو الخصم القوي، فهذا الأخير لا فائدة منه سوي تبديد الجهد وربما الإمكانات وربما تعريض الذات إلى مخاطر لا حاجة به إليها. الاختراق المقصود هنا هو الذي يهدف إلى جمع المعلومات ومعرفة ما يجري داخل الطرف الذي تم اختراقه، فالذي يقوم بالاختراق يكون همه الأول جمع المعلومات والوثائق لا سيما ذات الطابع السري ويكون همه عدم الانكشاف، ومن ثم يسلك في السبيلين ما يحقق الهدف فهدف جمع المعلومات والوثائق قد يأتيه بسهولة إن كان وصل إلى موقع يتيح له ذلك، لكن هذا يجب أن يرصد عند أول بادرة تكشف أن بعض ما يفترض به أن يكون ريا قد وصل إلى الطرف المقابل، هنا أن تصبح مهمة المعنيين جميعاً، وعلى المكشوف ، كشف التسرب والمسؤول عنه حتى لو علم المعني بذلك وطلب منه أن يسهم في البحث إلا إذا كانت الشكوك قد حامت عليه.. المهم هنا أن يلجأ إلى اليقظة الجماعية العالية أولاً ثم يجب أن يحرص على ألا يفعل في السر ما يخشى منه إذا خرج إلى العلن. ثانيا ما يجب أن يحرص عليه فيمكن وضع خطة مستقلة بكل حالة تجعل الاختراق قابلاً للاختراق في حالة حدوثه أو تجعل الوضع منيعاً على الاختراق. إن هذا النمط من الاختراق يجب ألا يخيف عندما يكون الخط بلا ازدواجية بين ظاهرة وباطنه ويكون صحيحاً وقوياً ، ويكون التعرف باستقامة داخلية. وبالمناسبة فإن أهم مصادر المعلومات السرية سواء أكانت بالنسبة إلى حركات المقاومة كما اثبتت التجربة الفلسطينية أم كانت بالنسبة إلى حركات المعارضة السياسية السرية أم كانت بالنسبة إلى أية حركة عموما لا تأتي من الاختراق أساساً وإنما مما يحدث من انهيارات في التحقيق أو من انقسامات داخلية وبروز خلافات ولو بعد عشر سنين، أو انحرافات لدى بعض القيادات وانتقالها إلى الطرف الآخر، وهي ظواهر تكاد لا تفلت من حدوثها أية حركة من الحركات فهيذة يجب أن تعامل منذ البدء بأنها حاصلة لا محالة، ومن ثم يجب أن يرتب الوضع منذ البدء على أساس حصولها، مما يجعل الإضرار التي ستقع في أضيق نطاق أو التخفيف من الخسائر والسلبيات قدر الإمكان، أما الركون على أن ما يجري الآن سيظل على حالة فهذا من السذاجة والبساطة فما يبنى الآن قوياً سيظل قابل للضعف مع تقدم السنين وتغير الظروف وما يمكن أن يحدث من تغيير في وضع الأفراد أن يجد من نجرح من قلبه منقلباً عليه تحت وطأة الضغط أو الإغراء أو الاختلاف وعدم القناعة أو الصراع الداخلي. هنا يلعب الخط الصحيح والمسك المستقيم، والمشي «العدل» الحماية الأولى إزاء مختلف تلك المخاطر، ثم يإتي التفكر الجيد في مواجهة الاحتمال القوي بل الحتمي في أن يقع المحظور المذكور في الفقرة السابقة يمكن أن يساعد منذ البدء على مواجهته والتخفيف من أضراره ، والتحصن النسبي ضده ، طبعا ستختلف الأساليب أو الإجراءات لمواجهة هذا الاحتمال من حالة إلى حالة وهو ما يتطلب أصالة في التعامل وكل حالة من تلك الحالات. تبقى قضية تتعلق بميل عدد من الجماعة والحركات السياسية واحياناً العقدية والدعوية أن تؤسس جهازاً لمكافحة الاختراق أو لإحداث الاختراق المضاد ، ولقد أثبتت حالات عدة أن مثل هذا التوجه يحمل أضراراً وسلبيات كثيرة بل لعل الاستغناء عنه في أغلب الحالات كان أفضل من وجوده. لأن من طبيعة هذا الجهاز حين يتشكل أن يذهب ليتعلم الدروس من مدرسة المخابرات أي تلقي المحاضرات من رجال سبق ومارسوا المهنة أو من قبل خبراء من أجهزة دول صديقة، وبهذا يضع نفسه منذ البداية على الطريق الشائك، والذي لا ينسجم مع حاجات حركته ، بالضرورة، (حاجتها غير حاجة الدولة) ولا إمكاناتها، والأخطر أنه قد يكتسب عدداً من العادات والأساليب التي قد تضر بمسلك الأفراد وأخلاقهم ونظرتهم للناس والحياة، وربما قاده الأمر إلى وضع كل عضو من أعضاء حركته تحت الشبهة أو قابلاً لأن يسأل عنه ويتسقط أخباره تحت حجة الحماية من الاختراق أو التجنيد، وبهذا يبدأ بامتلاك حصانات وصلاحيات إضافية لا سيما إذا وفق ، وحقق نجاحاً ما ، ومن ثم يبدأ بالتحول إلى السلطة، وقد يصبح رعباً داخلياً. هذا الجهاز يصبح الأسهل للاختراق بل سيركز على اختراق ، وإذا ما اخترق سيصبح أرضاً مراحاً ليتحرك فيها الاختراق بلا خشية الانكشاف لأن من طبيعة مهمته أن يبحث عن المعلومات ويدقق داخل الحركة وهكذا! هذا إذا لم يساعده هذا الوضع على إلقاء الشبهات ضد بعض من قد يكونون أشد إخلاصاً وفاعلية، أما الاستغناء عن مثل هذا التوجه بالنسبة إلى حركة سياسية فيجب أن يعورّض عنه بتسليح جميع الأعضاء وعلى مختلف المراتب بروح اليقظة والتنبه لكل صغيرة وكبيرة وإرساء تقاليد في الكشف عن كل ما قد يريب فكما شاع شعار يقول كل مواطن هو خفير، فإن الشعار هنا يجب أن يقول كل عضو هو عين يقظة وإذن سامعة ويد متعاونة ضد الاختراق، طبعا هذا رأي يصعب تفضيله على الأول لسبب الأوهام المحيطة بأهمية الأجهزة المتخصصة كما أن طريقة أصعب لأنه يحتاج إلى الكثير من التوعية ورفع مستوى الأفراد ويحتاج إلى الكثير من العلاقات الاجتماعية والتغلغل في الشعب من قبل كل فرد لأن ينمّيه علاقات شعبية واسعة والاستماع جيداً إلى همس الناس وملاحظاتهم يشكل مصدراً هائلاً لكشف الاختراق بل وكشف كل عوج داخلي المصدر : الامة العدد الثاني تموز 1997