كل من تعامل مع حزب العدالة والتنمية عن قرب، لا شك أنه قد استشعر الدور الخطير الذي يلعبه فيه أمينه العام الحالي، فهو رجل تواجد من أول يوم في واجهة الحزب، ولأن له تجربة طويلة مع الحركات الإسلامية، ومعرفة دقيقة بميزات وخصوصيات "الإخوان" فإنه ذو مقدرة كبيرة على إقناع الجميع، وفي الوقت ذاته ذو مقدرة أكبر على عدم الإقتناع. "" إن التكتلات التي يتجمع فيها "الإخوان" يسهل قيادتها، لأنها تكتلات ألِفت أن تكون مستقبلة للخطاب الديني لا متفاعلة معه، ومن كان بارعا في اقتناص النصوص المناسبة في الوقت المناسب حق له أن يأخذ هذه التكتلات إلى حيث يشاء. إن شخصية الأمين العام طغت على شخصيات باقي القياديين، فهو تحت شعار: "لا يخشى في الله لومة لائم" لا يقبل من الأفكار إلا ما يتناسب مع تكوينه النفسي والعقلي، ولا يتعاطف إلا مع الأشخاص الذين يحملون نفس توجهاته، ويرتبون الأولويات حسب ترتيبه. لقد التهمت شخصية الأمين العام باقي شخصيات القياديين، وأصبحت سائدة على الجميع، فشخصيته تتمتع بالقوة اللازمة لمجابهة الآخرين، وفي الوقت ذاته تتميز بالعناد الخارق، حيث أنه يُعيد الكرة في محاولات فرض أفكاره المرة تلو المرة حتى يصل إلى مراده، حتى ولو اضطره ذلك لأن يعيد محاولاته عشرات المرات. إننا أمام حالة قيادية غير عادية، تقاتل حتى آخر طلقة، وتجابه إلى آخر ومضة عين، وبجانب كل ذلك لها معرفة بنفوس "الإخوان" التي خبرها لطول سنوات اشتغاله معها. قد يقول قائل بأن من كان يتميز بهذه الصفات حق له أن يكون قائدا بامتياز، لكن الإشكالية الكبيرة، والمعضلة الخطيرة، هي أن شخصية السيد الأمين العام تنقلب من النقيض إلى النقيض، بين تعامله كالأسد الجسور في حزبه ووسط إخوانه، وبين تعامله كالحمل الوديع مع وزارة الداخلية. من لا يعرف السيد الأمين العام فإننا نلخصه له في كلمتين، إنه رجل يستطيع أن يصنع من الذل والهوان قصرا من العزة والأنفة، ويستطيع أن يبني من الرمال جبلا من الفولاذ، لمقدرته على الخطابة من جهة، ولثقته المفرطة بنفسه التي تصل إلى حد تسفيه الآخرين، مهما كانوا كبارا شامخين لا تبلغهم ألسن ولا تطالهم أيد، وما قوله عن الدكتور الخطيب رحمه الله تعالى بأنه رجل طاعن في السن وقد صار يخرف وبأن عليه أن يدع القيادة إلا غيض من فيض. منذ أن كنا في جمعية الجماعة الإسلامية سنة 1989م ونحن نتعرض للتهم من لدن باقي الحركات الإسلامية، بسبب علاقة الأمين العام الغامضة مع أحد رجالات المخزن، والتي لم يكن ينفيها بل كان يصرح بها في كل مناسبة، ويعتز بها طول الوقت، إلا أنه كان يصور منها فقط الجزء المفرح، وكنا أنذاك مازلنا في ريعان شبابنا لا نعي كثيرا من الشرع، ولا نعي كثيرا من فقه الواقع، فكنا ننساق وراء الكلام المعسول فنصدقه في كل ما كان ينثره من أفكار سامة، لم نفطن لخطورتها إلا بعد فوات الأوان. إن التأصيل الشرعي والعقلي لهذه العلاقة البسيطة مع هذا الضابط هي التي أسست لعلاقات خطيرة وحاسمة في تاريخ الحزب "الإسلامي" فيما بعد، فصار هذا الأخير بعد جولات قليلة من السياسة، خاتما في أصبع وزارة الداخلية تضعه متى تشاء، وتنزعه متى شاءت. لقد كانت هذه العلاقة نقطة البداية، وتلتها بعد ذلك عشرات من نقط الحذف، حتى صار الأمين العام لا يؤصل فقط للتدخل السافر لوزارة الداخلية في كل شاذة وفاذة، بل صار يعتز بذلك وكأنه نصر مبين، وصار يذكره بدون أن يشعر بأدنى حرج أو خجل. إن تعاملات الأستاذ الأمين العام الجافة ومواقفه المتشنجة، كثيرا ما كانت تغضب بعض القياديين الغيورين أمثال الأستاذ المقرئ أبو زيد الإدريسي، مثلما جرى عند مناقشة موقف الحزب من المشاركة في الحكومة، فالأمين العام يود دخول الحكومة من أول انتخابات تشريعية شارك فيها الحزب سنة 97، لكن السيد المقرئ كان يرفض ذلك. إن مثل هذه المشاجرات الحادة، والمشاحنات العنيفة في إفراز القرار، كانت تخفي في طياتها أسرارا لم يفطن لها القياديون الغيورون، لأنها كانت هي السبب في اكتشاف الأمين العام للآلة العجيبة التي تدور بالقياديين، فمن انسجم مع طريقة اشتغالها بقي داخل الآلة، ومن لم ينسجم معها لفطته الآلة بكل رفق ودهاء. إن وجود قياديين أمثال السيد المقرئ المعروف بكفاءته ونزاهته وقدرته على الخطابة، كثيرا ما كانت تقف عائقا أمام رغبات وأفكار الأمين العام، لذلك كان على الآلة أن تشتغل، وقد اشتغلت بالفعل حتى أعلن السيد المقرئ استقالته من الأمانة العامة، ولم يقترحه الأمين العام في الأمانة العامة الجديدة، واقترح بدلا عنه أناسا بعضهم لا يشرف الحزب لا من قريب ولا من بعيد. يؤسفني أن أخبر الذين كانوا يتعاطفون مع حزب العدالة والتنمية لتعاطفهم مع السيد المقرئ أبو زيد الإدريسي، بأن هذا السيد المقرئ لم يعد في الأمانة العامة للحزب، وبالتالي لم يعد من القياديين الذين يملكون القرار، أو يستطيعون أن يقفوا في وجه الإنتهازيين والوصوليين، أو يستطيعون أن يصححوا المسار ويقوموا الإعوجاج، بل عاد مجرد عضو لا أقل ولا أكثر. الخطر الذي كان دائما يهدد الأمين العام ليس هو الفساد الذي استشري في المجتمع، فالأمين العام يشعر أنه لا يتحمل وزر هذا الفساد وليس مسؤولا عنه، إنما الخطر هو وجود المفكرين والعلماء معه جنبا بجنب، فالمفكرون يستطيعون أن يؤثروا في الجموع العامة وفي قرارات الحزب، وبالتالي يمكنهم أن يأخذوا الحزب إلى محطات لا يقبلها سياسينا "المحنك"، والعلماء من حيث إنهم يملكون قداسة النصوص الشرعية، ومن حيث إنهم يتوفرون على الفتوى الشرعية التي قد تتعارض مع الرأي السياسي لصاحبنا، فهم خطر وجب الإنتباه إليه، وهاجس يجب العمل على التخلص منه. إن جوهر كتاب الأنصاري "الأخطاء الستة للحركة الإسلامية" كان يشير إلى الأمين العام بصفته المنظر الفعلي، والمؤطر الحقيقي للحركة الإسلامية والحزب "الإسلامي"، فالأنصاري نفسه قد تحدث عن تلك الآلة العجيبة، لكن بعدما لفظت الآلة السيد الفاضل الدكتور الأنصاري. لحد الآن لم أطعن في سريرة الأمين العام ولا في نياته، إنما طعنتُ في طريقة تفكيره واشتغاله اللتان قد تبدوان له، من تركيبة عقله وطبيعة تكوينه أنها عادية وجائزة، لكنها في حقيقة الأمر هي أبعد ما تكون عن سلوك من يضبط الشريعة العصماء، ويقتفي أثر السنة العطرة. إن الأمين العام لا يهتم كثيرا برأي الفقهاء، فهم في رأيه مجرد فقهاء، ولا يبالي أيضا بالمفكرين، فهم مجرد مفكرين، لهذا فهو عادة ما يُُقدم على أمور لا يستشير فيها مع أحد، ولا يشعر بأدنى حرج وهو يفعل ذلك، مادامه قادرا على إقناع أبناء الحركة الإسلامية حتى ولو كان مخطأ، ومادامه قادرا على الاعتذار بدعوى أنه بشر. ليس المحزن أن يعتذر المرء، فالاعتذار من شيم الكرام، لكن المحزن أن يكون الإعتذار مجرد مخادعة كلامية، وحيلة سياسية توصله إلى مراكز متقدمة من إفراز القرار، وتمكنه فيما بعد من مزيد من الأخطاء الجسيمة التي تليها مزيد من الاعتذارات المحسوبة. لقد كان الأمين العام في بداية الأمر، يعتذر لأبناء جمعية الجماعة الإسلامية عن تسرعه في اتخاذ مواقف شاذة، وحينما دخل قمة البرلمان اعتذر للقناة الثانية إثر ما قام به من سلوك عنيف في وجه صحافية احتجاجا على لباسها، وتستمر القائمة الطويلة للاعتذارات ليكون آخرها اعتذاره للوزير الأول، إثر إقحامه لشخص جلالة الملك في خطاباته المرتجلة. لكن الأمين العام فطن إلى ما لم يفطن إليه الآخرون، فقد لاحظ أن زلات الشخص هي من تجعل الإعلام يُكثر من ذكره، وهي التي تزيد من شعبيته داخل الحزب، لأنه يكون محط أنظار الجميع، وموضوع مناقشة الجميع، ومن منطلق فصاحته، وقدرته الخارقة على الدفاع عن نفسه ورأيه، فإنه ينجح دائما في إقناع الآخرين بما وقع فيه من زلات، وما ارتكبه من هفوات، فيصوت عليه المخلصون "الساذجون" في الإنتخابات الداخلية، وفي الجموع العامة، وهكذا نجحت الخطة، وأصبح صاحبنا أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية. إننا في الحزب "الإسلامي" نعيش أسوأ أيامنا، وأصعب مرحلة في تاريخنا "المجيد"، فحزبنا اليوم في مهب الريح أكثر من أي وقت مضى، نتيجة المواقف المرتجلة للسيد الأمين العام، والتي غالبا ما يستند في أخذها على حدسه وعفويته، وليس على عقله أو على تغليب المنطق الشرعي، حيث إن بضعة أشهر قليلة على انتخابه أمينا عاما، كانت كافية لإحداث ضجة كبيرة كان الحزب "الإسلامي" في غنى عنها، وكانت كافية أيضا لكي يعلم المؤتمرون في المؤتمر السادس لحزب العدالة والتنمية، أنهم ارتكبوا خطأ كبيرا، ووقعوا في غلط جسيم حينما صوتوا عليه أمينا عاما للحزب. إن أميننا العام كان دوما يبدأ سِجالاته بالصراخ، ويُنهيها بالإعتذار، ومن كان هذا شأنه لا يجوز أن يتنصب مسؤولية ذات شأن أو قدْر، فكيف بهرم الحزب؟ حتى قبل أن يُنتخب صاحبنا أمينا عاما، فقد كان الحزب لا يتقدم إلا من خلال ما أبدعه عقله من قواعد متلاشية، وما سنه من قوانين واهية، كقاعدة "الحياة في سبيل الله" التي فصلنا فيها قبل هذا الموضع، لكن القواعد المتهافتة اليوم، صارت أكثر قوة وصلابة، وصارت قواعد معتمدة بصفة رسمية من الحزب لأنها نابعة من القمة، وليست نابعة من شخص يخطط في الخفاء، ويشتغل في الدهاليز. لقد خلا الحزب "الإسلامي" للأمين العام، فليفعل فيه ما شاء، وليزرع فيه ما شاء من القواعد الملغومة، والقوانين الموقوتة والقابلة للإنفجار في أي وقت وحين، مادام "الإخوان" يثقون به كل الثقة، فالله تعالى قد أمرهم من جهة "بحسن الظن"، ومن جهة أخرى، هم يعتقدون أن من يسيء الظن هو فقط من ساءت سريرته فساءت ظنونه. إن أخطر الناس على الدين، هم المتدينون الذين لا يفهمون جيدا قواعده، ولا يتأملون مناهجه، ولا يتفكرون في مبادئه، فيصبحون عن حسن نية نماذج أشبه ما تكون من علماء عصر الإنحطاط، وأقرب ما تكون من أشخاص لا نقرأ عنهم إلا في الأساطير. إذا كانت مصلحة الدين عندنا فوق أي اعتبار، فعلينا أن نكون خارج الحزب الإسلامي دعاة، نتسم بالرأفة والرحمة ونلتمس الأعذار للناس، فلو أتيحت لهم فرصة الإلتزام بالدين مثلما أتيحت لنا، لربما كانوا أفضل منا اتباعا للدين، وخيرا منا التزاما بالشرع الحنيف، أما داخل الحزب الإسلامي فعلينا أن نكون قضاة، نتبع الحجة والبينة والدليل، هذا ما يضمن عدم زيغنا عن الطريق القويم، وهذا ما يقف في وجه دعاتنا الدهاة، الذين يعلمون جيدا كيف يتحكمون فينا وفي دعوتنا. قد يقول قائل منهم بأنني غارق في الضلال، وبأن ما قلتُه عن الحزب "الإسلامي" لو كان صحيحا، لفطن إليه الأساتذة الجامعيون، أو الأطباء، أو المهندسون، أو أصحاب الكفاءات داخل الحزب "الإسلامي" قبل أن أفطن إليه، أما أن لا ينتبه إليه أحد غيري، فهذا ضرب من التجني الزائف، ونوع من الهوس والخبل والجنون. إن عقول البشر كثيرا ما تتشابه رغم اختلاف العقائد والديانات، فالشيعة أيضا لا يستطيعون أن يتصوروا خطأ عقائدهم وتصوراتهم وفيهم علماء الذرة، وعلماء الكيمياء، والفلاسفة، والمفكرون، والعباقرة، وعلماء الشرع، مثلما لا يستطيع أن يتصوره المسيحيون عن أنفسهم، أو اليهود أو البوذيون أو عباد البقر.. إن نجاح الأمين العام في الوصول إلى هرم الحزب، سيجعله واثقا من نفسه أكثر من أي وقت مضى، وواثقا من قواعده المتآكلة، وقوانينه المتهالكة، التي لا تقدم المشروع الإسلامي إلى الأمام، وإنما تقدم القائمين عليه فقط في سلم الحياة. إننا اليوم في عهد برلماني "إسلامي"، وغدا سنكون أمام وزير "إسلامي"، وبعد غد أمام وزير أول من طينة "الإسلاميين"، لكن حالة الإسلام بقيت على حالها مثلما وجدناها أول يوم، وربما صارت أفظع، فعلى "الإسلاميين" أن لا يفرحوا بترقيهم في المجتمع، مادام الإسلام لم يترق بعد. حينما سيغادر الأمين العام هذه الحياة، لن يغادرها معه حزبنا "العتيد"، فالحزب سيحيى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، أو حتى تأذن وزارة الداخلية بعكس ذلك، لكنه سيعيش دوما بالسم الذي زرعه فيه قائدنا ذات يوم، وسيحيى بالبصمات التي تركها فيه صاحبنا رحمه الله. *مقال مقطتف من كتاب الجالية اليسارية المقيمة بحزب العدالة والتنمية، للكاتب الإقليمي السابق لحزب العدالة والتنمية نور الدين زاوش. – وجدة- [email protected]