في الصورة العثماني من العدالة والتنمية والهمة من الأصالة والمعاصرة منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي توزعت الرقعة العربية إلى ثلاثة نماذج للتعامل مع الظاهرة الإسلامية في شقها السياسي. برز النموذج التونسي الذي قاده الرئيس الحالي زين العابدين بنعلي والموصوف بالنموذج الاستئصالي. هناك نموذج المواجهة غير الشاملة والمتبنى على الجانب المصري. ثم كان هناك نموذج ثالث توسل إلى فسح المجال أمام قطاع من الحركة الإسلامية للمشاركة السياسية، فيما يعرف بنموذج الإدماج التدريجي، وكان المغرب مندرج ضمن هذه الخانة. "" فخلال أزيد من عشر سنوات، تحركت قاطرة الاندماج، بالرغم من عثرات على الطريق, لكن منّذ تشريعيات 2007، كذلك استنادا إلى المواجهات المفتوحة التي أعقبت انتخابات 12 يونيو الماضي بين وزارة الداخلية وحزب العدالة والتنمية، يطرح التساؤل: هل يتجه المغرب إلى إعادة النظر في طريقة تدبيره لمشاركة الإسلاميين سياسيا؟ وهل يتجه تدريجيا من مقاربة الإدماج التدريجي لينحرف نحو النموذج المصري أو النموذج الاستئصالي؟ ثم ما هي تبعات هذا التحول إن حصل؟ مؤشرات تبلور إستراتيجية الإضعاف بدأت معالم إيمان الدولة المغربية في تغيير طبيعة التعامل مع الحركة الإسلامية في شقها المؤمن بالمشاركة سنة 2007 مباشرة بعد تناسل استطلاعات الرأي الدولية- والأمريكية على الخصوص- تلك التي كانت توحي بأن حزب العدالة والتنمية مكتسح لا محالة الانتخابات التشريعية لشتنبر 2007. هذا المعطى تعاملت معه الدولة بشكل استباقي. ومع أن نتائج تلك الانتخابات كذبت استطلاع المعهد الجمهوري وغيره، فإن أصحاب القرار فهموا حينذاك أن حزب العدالة والتنمية بمقدوره أن يمتلك مع الوقت- لاسيما مع ضعف الأحزاب السياسية الأخرى- قدرا من ميزان القوة السياسية، تجعله بالمستطاع أن يخلق إرباكات لرؤية الدولة نحو الإصلاح. فكان أن برز وتغلب تيار راديكالي داخل دواليبها يطالب بتعديل إستراتيجية التعامل مع الفاعل الإسلامي. هنا تم حسم مسألة تأسيس حزب سياسي يدافع عن توجهات الدولة، ويتصدى أيضا ميدانيا وبمنطق القرب للحزب الإسلامي. في هذا الإطار ولد حزب فؤاد عالي الهمة الأصالة والمعاصرة كأداة لتنفيذ بعضا من هاته الإستراتيجية التي تنحو نحو تهميش الأحزاب الإسلامية. فماهي حدود هذه الإستراتيجية؟ وما هي معالمها الرئيسية؟ معالم إستراتيجية الإضعاف بعد التأكد إذن من الإمكانات السياسية والتعبوية التي يمتلكها الفاعل الإسلامي ليشكل قوة أساسية في البلاد في المستقبل المنظور، وخوفا من أن يتحول التناقض الموجود بين العدالة والتنمية مع الدولة من تناقض ثانوي إلى مركزي، يمكن القول أنه تبلورت بشكل تدريجي وابتدءا من أحداث 16 ماي2003 معالم إستراتيجية لإضعاف الحزب، لعل أهم عناوينها ما يلي: 1. اتهام الحزب في مرجعيته وولائه: لقد كان خطاب الدولة يركز في تناوله لملف العدالة والتنمية على التشكيك في مرجعية الحزب. وهذا الاتهامات تتخذ بشكل عام منحيين: المنحى الأول اتهام الحزب بازدواجية الخطاب، والخلط بين الدعوي والسياسي، لا تترك الدولة أية فرصة تمر دون أن تشير إلى هذا الالتباس. يضاف إلى هذا مسألة المرجعية: فإن كان حزب العدالة والتنمية ينفي عن نفسه الاتصاف بالحزب الديني، ويعتبر نفسه حزبا سياسيا مدنيا ذو مرجعية إسلامية، لكن الدولة لم تطمئن لهذا الخطاب في أية لحظة، وظلت في كل خرجاتها تؤكد أن المرجعية الإسلامية ملك للجميع، وليس الحق لأي كان أن يستفرد بها. المنحى الثاني هو اتهام الحزب بالولاء للخارج، من خلال استغلالها لمشاركة بعض قيادات الحزب في المؤتمر القومي الإسلامي، أو التضامن مع حماس، أو رفع رايات حزب الله في إحدى التظاهرات. وقد تجلى هذا الخطاب بشكل جلي مؤخرا في مقال لبيد الله الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة حين تناوله ل"طابو التقية". 2. استهداف تجربة الحزب: لعل الوجه البارز من إستراتيجية الإضعاف هو استهداف التجربة الجماعية والبرلمانية للعدالة والتنمية. لقد إجراءات سعت الدولة إلى ضرب مقاربة القرب التي يتبناها الحزب الإسلامي، والهدف الحيلولة دون أن يتمكن الحزب من بناء معاقل له في الجغرافيا المغربية. لقد كان الصراع حادا لكي لا يتمكن الحزب من تسيير المدن الكبرى. كما أن هذا المسعى حاول منع الحزب من إعادة تسيير المدن التي كان يديرها في الفترة20003 -2009 ( مكناس وتمارة نموذجا). على صعيد ثان سعت ذات الإستراتيجية إلى حصر إشعاع الحزب البرلماني داخل قبة البرلمان عبر وسائل الضغط القانوني والمعنوي. 3. ضرب صقور الحزب: من خلال الإستراتيجية العامة لإضعاف الحزب تنبثق إستراتيجية فرعية عنوانها إضعاف الحزب من خلال كوادره المزعجة. لقد بدأت الخطة بإبعاد أحمد الريسوني من رئاسة حركة التوحيد والإصلاح بعد ضغط من الدولة عقب تصريحه لإحدى الجرائد الوطنية حول إمارة المؤمنين وأهلية الملك لإصدار الفتوى. كما سعى الهمة عندما كان كاتب للدولة في الداخلية لإبعاد مصطفى الرميد من ترؤس الفريق البرلماني للحزب. كما أن الدولة لا تتردد في عدم ترحيبها بعلاقات الرميد مع المؤتمر القومي الإسلامي ومع حماس وحزب الله. ويمكن الإشارة أن ملف أبو بكر بلكورة، عمدة مكناس السابق، وقضية البرلماني عن الحزب عبد العزيز أفتاتي تدخلان ضمن إستراتيجية الدولة إلى تقليم أظافر الحزب من خلال التركيز على أوجهه "التي تحمل نظرة خاصة" والمزعجة. 4. إقحام الحزب في قضايا أمنية: منذ التفجيرات الإرهابية التي ضربت الدارالبيضاء 16 ماي 2003، لم تتوان الدولة عن إقحام حزب العدالة والتنمية- بشكل مباشر أو غير مباشر- في مختلف الملفات الأمنية التي عرفها المغرب. مع الضغط على الحزب للمصادقة على قانون الإرهاب. ولعل آخر نموذج هو ملف بلعيرج المدرج منذ أزيد من سنة ونصف أمام القضاء. 5. إضعاف فرص الحزب للتحالف: تعمل إستراتيجية الإضعاف بخصوص قضية التحالف في اتجاهين: اتجاه أول هدفه عزل الحزب عن عمق الحركة الإسلامية (بل السعي لكي يلعب دور المكنسة) . ومن مؤشرات ذلك تحميله المسؤولية المعنوية قي أحداث 16 ماي 2003، تضخيم أي تعاطف للحزب مع محاكمة ما يسمى بمعتقلي السلفية الجهادية. هناك أيضا الترويج، إبان كل استشارة انتخابية، لمقولة أن العدل والإحسان ستصوت لصالح الحزب، والهدف من الترويج واضح وهو دفع قيادة جماعة ياسين إلى تكذيب الأمر وتوصية أنصارها بالإحجام عن التصويت. أما الاتجاه الثاني فملخصه الحيلولة دون أن يتمكن الحزب من توسيع تحالفاته السياسية، وهذا جزء يفسر عدم تمكن الحزب من عقد تحالفات على مستوى المعارضة البرلمانية. 6. مواجهة الحزب ثقافيا وإعلاميا: تقوم هاته المواجهة أساسا على منطق هجومي، ويتم تصريف خطة التطويق عبر مسارات إعلامية متعددة. إذ تقوم عدد من المنابر الإعلامية بتضخيم أية حركية سلبية داخل الحزب( استقالات صفرو نموذجا). مع التشكيك الدائم في نوايا الحزب ومدى قدرته على حل مشاكل المغاربة في حالة التسيير. ثقافيا، تعمد الدولة لمواجهة ما تسميه ثقافة الانغلاق التي يتبناها الحزب، على دعم ثقافة المهرجانات المفتوحة، والتي يرعى أغلبها أفراد مقربين من سلطة القرار (موازين لمنير الماجدي، ومهرجان أوتار لعالي الهمة، البولفار...). كما يتم تشجيع الموسيقى الشبابية الجديدة( نايضة...)، كل هذا بغرض فرض ثقافة شبابية بديلة بعيدة عن صنع الإسلاميين. 7- مزاحمة الحزب في معاقله وعبر أدوات اشتغاله: مند أحداث16 ماي2003 ،سعت مختلف استراتيجيات الإصلاح التي تتبناها الدولة ( إصلاح الحقل الديني، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية...) إلى الاقتراب من أكبر الشرائح الاجتماعية عبر تبني عدد من الآليات التي يستخدمها عادة التيار الإسلامي: مقاربة القرب والإنصات والمصاحبة. في ذات التوجه سعت الدولة إلى إدماج عدد من أطر حركة التوحيد والإصلاح سابقا ضمن منظومتها لإصلاح الحقل الديني والاستفادة من تجربتهم الميدانية( أحمد عبادي، فريد الأنصاري...) . كما عمدت ذات الإستراتيجية إلى تبني القرب الإعلامي عبر إطلاق قناة محمد السادس ومحطة إذاعية. كما أن إدخال المساجد عصر التكنولوجيات الحديثة، و تكوين المرشدات الدينيات والواعظين، وفتح أرقام هاتفية خضراء طلبا للفتوى، كلها تدابير غايتها مزاحمة الإسلاميين في الدعوة وتبليغ الخطاب الديني، وحصر دائرة الاستقطاب لدعواهم الإيديولوجية والسياسية. 8- السعي لإنضاج تناقضات داخل الحزب: لقد سعت إستراتيجية الإضعاف إلى هدف الوصول بالحزب الإسلامي إلى مرحلة تظهر من خلاله التناقضات الداخلية على السطح. ومن مؤشرات هذا الجهد تضخيم وسائل الإعلام الرسمية لانفصال محمد الخالدي عن الحزب وتأسيسه للنهضة والفضيلة. أيضا تضخيم رؤى بعض القيادات داخل الحزب، لاسيما حين تناولهم لقضايا غير مجمع عليها داخليا، كملف الإصلاحات السياسية والدستورية، وحدود ممارسة الفصل 19، وإمكانات مشاركة الحزب حكوميا. ومنها أيضا الترويج حاليا لمقولة "حكمة العثماني وتعنت بنكيران". المشاركة السياسية للإسلاميين إلى أين؟ هل سينجح التيار المنادي داخل الدولة لتهميش مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي ؟ ثم ماذا سيكون رد فعل هذا المكون من الحركة الإسلامية في حالة تأكده من كون إستراتيجية الإضعاف أضحت سيناريو الدولة المفضل؟ الأكيد أن تمعن تجربة تعامل مصر وتونس مع ملف الحركة الإسلامية يمكننا من استخلاص بعض الدروس. فللمقارنة يجب أن نأخذ كامل المعطيات بعين الاعتبار، منها طبيعة النسق السياسي داخل كل دولة، وجغرافيتها السياسية، ورهانات كل نظام سياسي على حدة، وطبيعة التهديدات التي تستهدف كل دولة . في هذا السياق، يمكن الإشارة أيضا إلى تفرد المشهد الحركي الإسلامي المغربي. فبخلاف تونس ومصر حيث تحتكر المشهد الإسلامي على التوالي حركة النهضة، والإخوان المسلمون ، بالمقابل تتوزع خريطة التنظيمات الإسلامية بالمغرب جماعات على درجة مهمة من الحضور، ونخص بالذكر جماعة العدل والإحسان، ثم حركة التوحيد والإصلاح الحليف الاستراتيجي لحزب العدالة والتنمية، ثم هناك تيار الاختيار الإسلامي (البديل الحضاري، حزب الأمة...) . هذا المعطى لوحده كاف بأن يجعل من منهج إضعاف تيار المشاركة داخل الحركة الإسلامية في المغرب ذا ثمن باهظ. لأنه حتى في حالة تكسير تجربة العدالة والتنمية السياسية فإن البديل إسلاميا متوفر بخلاف ما حصل في تونس نموذجا حينما تم ضرب حزب النهضة، وما يمكن أن يحصل على الساحة المصرية. إن استحضار تجربة عقد من حكم الملك محمد السادس في تدبير الملف الإسلامي والمرتكزة على إشراك جزء منهم لكن من موقع ضعيف، فإنه يمكن التأكيد على أن إستراتيجية الدولة في تعاملها مع مشاركة الإسلاميين ضمن المؤسسات في الأفق المنظور سيحكمها هاجسين: 1. منح العدالة والتنمية فرص الحركية السياسية المراقبة، لكن دون منحه مساحات أكبر للاشتغال، الغاية الحيلولة دونه والتحول – في المستقبل- من حزب عادي إلى فاعل أساسي قادر على رفع سقف مطالبه التغييرية، تلك التي يمكن أن تشكل تهديدا للتوازنات السياسية القائمة حاليا. 2. عدم الوصول في علاقة الدولة بالحزب إلى مرحلة القطيعة( استبعاد حل الحزب مثلا) أيضا عدم استهداف خطاب الحزب في عمقه ( لكونه لا يتناقض حاليا مع توجهات الدولة المركزية). أما احتمال الوصول إلى مرحلة القطيعة فلن تكون إلا نتيجة حدث استثنائي قد يكون الحزب مصدره وليس رأس الدولة. يمكن الانتهاء بأن إستراتيجية الدولة المنقحة في تعاملها مع حزب العدالة والتنمية- والتي بدأت معالمها في الظهور سنة 2003 وتسارعت وتيرتها منذ شتنبر2007 وتم تقعيدها مع ميلاد حزب الأصالة والمعاصرة- ترتكز أساسا على أولوية تحجيم دور الحزب سياسيا ومجتمعيا إلى أقصى حد. حيث يمكن معه للنسق السياسي المغربي أن يحافظ على توازناته الراهنة. ويكرس ثانيا المغرب مسرحا للتعددية الحزبية، إذ ينشط فيه اليميني، اليساري، المحافظ، الصوفي، الليبرالي، ولما لا الإسلامي. إلى هنا هل يمتلك الحزب الإسلامي إستراتيجية مضادة وفاعلة للمواجهة تمنعه من غرض الاحتواء؟ وهل يدرك فعليا هدف الدولة وخلاصته: أن ينصرف دور الحزب من مطلب الإصلاح وفق المرجعية الإسلامية عبر مدخل النضال الديمقراطي إلى مجرد ديكور لتزيين ديمقراطية المملكة الشريفة. ذلك أن أخطر سيناريو تفكر فيه الدولة راهنا هو أن يستيقظ الجميع غدا ليجد النظام السياسي- ولكي يحكم- مضطرا لوضع يده في يد الإسلاميين.