أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمَعَتْ كلماتي من به صمم الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم هذان البيتان لشاعر العرب الكبير والعظيم أبو الطيب المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في زمانه بشعره وشخصه. وكان ذلك لأن شعره يكاد يكون سيرة ذاتية عنه، بل وللأمة التي ينتمي إليها ويعبر عن شخصيتها في حالات قوتها وحالات ضعفها. وكثيرا ما حار قراء شعره منذ القديم إلى يومنا هذا في أمر وحقيقة هذا الجنوح الجارف والقوي إلى طرق كل أبواب المجد والعظمة، وإثبات الذات وجعلها أكبر وأسمى مما لا تستطيع أي نفس أو ذات أخرى السمو إليه. وكما تحدى المتنبي العظيم زمانه، فقد تحدى أيضا الرقعة التي عاش فيها بانتشاره إسما وشعرا، نغما وحِكَمًا في كل بقاع العالم. فلا يجهل قارئ حاذق في كل أنحاء الآداب العالمية وخصوصا من الشعراء والأدباء أو ذوي الفكر والسياسة شعره. ولا يمكنهم أن يتعرفوا على الحضارة العربية والإسلامية دون التعرف عليه، حتى أضحى العنوان البارز لهذه الحضارة في مظهرها الأدبي على الأقل. ولأن حضارات الأمم غالبا ما تخلدها آثارها المعمارية، فإن أدبها وفكرها يبقى هو الدال المعبر أكثر على مستوى رقيها. فكما خلدت الفلسفة اليونانية الحضارة الإغريقية، فإن ما يمكن أن تفتخر به الأمة العربية ممثلا لرقيها ومخلدا لذكراها لن يكون آثرا أخر، في نظري، غير شعر شاعرها العظيم أبو الطيب المتنبي..فلماذا؟. لأنه الآثر الذي استطاع أن يطبع ليس فقط سيمياء هذه الحضارة المادي، بل سيمياء روحها وشخصيتها كما عاشت ولا زالت تعيش على إيقاع الإخفاق والنهوض والنهضة والسقوط، والانكسار والصمود. إن المتنبي بشعره، وكما يتجلى في هذين البيتين الخالدين اللذين يجريان على لسان كل عربي، هو صدى الروح العربية، وصدى الروح الإسلامية أيضا، ذلك الصدى الذي لا يمكن أن يتجاهله متجاهل أو يكذب حقيقته جاحد. لأنه امتداد للصدى الأكثر اختراقا لجوف العالم القديم، والأكثر حضورا في ثنايا الروح التي ما فتئ يحملها جسم حضارتنا العربية والإسلامية المعاصرة السليم. ف"أنا الذي"، في نظري، لا يمكن أن تعني ذات الشاعر الخاصة، وإلا لما جاز ربط شخصه بشخص الأمة التي ينتمي إليها، بل هي "أنا" الأمة العربية الإسلامية وذاتها، وليس "نظرَ الأعمى إلى أدبي" نظرُ الإنسان الضرير إلى شعر المتنبي، بل هو نظر كل ذي عين تبصر لكن بدون عقل وبصيرة. وإذن فشاعرنا يقصد القوم الذين ينظرون إلا أنهم لا يبصرون ما داموا لا يعقلون.. وكذلك الشأن بالنسبة لعبارة "من به صمم" في الشطر الثاني من البيت، فليس هو المحروم من حاسة السمع، بل الفاقد للقدرة على التمييز بين صوت الحق وصوت الباطل، والذي استطاع شاعرنا أن يجعل كلماته قادرة على جعله يسمع الحق بما يحمله من قول سديد. كما جاء في القرآن الحكيم في سورة يونس الآيتين (42) و(43) "ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون" الآية "ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العُمْي ولو كانوا لا يبصرون"الآية. إن المتنبي إذن في بيتيه هذين، وبناء عليه، يتكلم باسم الأمة التي ينتمي إليها وإلى لغتها ودينها، وبما تحمله من رسالة حق وعدل، وما تحمله من قيم الرفعة والسمو والانتشار في كل البقاع لفرض السيادة بالخيل وفي الليل وفي كل بيداء وما يرمز له كل ذلك من معاني العزم والشجاعة والشدة وقوة سلاح "السيف والرمح"، وأيضا بالفكر والعقل كما يرمز لهما "القرطاس والقلم" حتى دانت لها أمة الروم ودولة الإسكندر وأمة الفرس بلاد زرادشت، وبذلك يلخص المتنبي في بيتيه هذين خصائص شخصية أمته كما صورها معبرة عن نفسها بكل قوتها وطموحها وإحساسها بالسمو والعظمة النتشوية المميزة لشخص "الإنسان الأعلى" أو "العلنسان" أو بتعبير آخر "السوبرمان" الذي يقهر العالم ولا يقهره، ويأبى أن يستسلم لجاذبية الضعف حين يستسلم للشعور بالنقص والعجز عن الفعل في الواقع والتاريخ، وذلك بتعطيل "إرادة القوة" وتغييب العقل المغامر أثناء النظر، وصم الآذان أثناء لحظة الإصغاء، وهو حال الأمة العربية الإسلامية اليوم، كما كان حال الأمم التي خاطبها القرآن الكريم بقوله الذي استمد منه المتنبي القصد معنى وشكلا وأثبت أن لا تناقض بين قصده كشاعر وفارس يبتغي الرقي والعظمة والمجد لأمته العظيمة التي طالما قارع ملوكها وأمراءها بشعره، حين ظلوا يقارعونه بأموالهم وجاههم وشعرائهم الصغار. ولم يكن المتنبي كسائر الشعراء العرب الذين أغرتهم عطايا وهدايا الملوك، فانبطحوا وكالوا لهم المدح الذي لا يستحقون، بينما ظل هو واقفا أمام هؤلاء الملوك وقوف الند للند، وقصته مع بني حمدان وسيف الدولة مشهورة في التاريخ. بالإضافة إلى كونه ظل يكره الضعف في حياته، ويكره كل ما يجلب الضعف للنفس، سواء كانت شهوة أو عبودية وتبعية. ألم يقل في حق المرأة الغاوية "وللخوذ ساعة.." وهو طبعا لا يقصد المرأة كذات إنسانية بل المرأة كعامل ضعف بالنسبة للرجل. أليس هو القائل أيضا "إن العبيد لأنجاس مناكيد" وهو طبعا لا يقصد ذوي البشرة السوداء وإنما يقصد ذوي النفوس الضعيفة من الخادمين لغيرهم بغير إحساس بعزة النفس والذات. أفلا يمكن بعد هذا أن يكون فريديريك نيتشه نفسه قد قرأ المتنبي. نيتشه هذا الفيلسوف الألماني الشهير والمتوفى سنة 1900 وصاحب كتاب "هكذا تكلم زرادشت" وكذلك كتابه "إرادة القوة" التي تحولت إلى فلسفة الغرب المؤمن بإمكانية التفوق الحضاري اللامحدود في زمننا المعاصر بما دعت إليه هذه الفلسفة من أخذ بأسباب التحدي والقوة وتمجيدها وطرح كل فلسفة أخرى أو دين يؤديان إلى الاستسلام والخنوع والخضوع، وهي الفلسفة التي تدعو أيضا إلى كره ونبذ الضعف وأخلاق الضعفاء. ولقد كان لها تأثير كبير على نفسية وتوجهات كثير من قادة وزعماء الدول الغربية إبان فترة الصراع الدولي من أجل السيطرة على العالم، خصوصا في عهد الديكتاتوريات الأوروبية التي أشعلت نيران الحرب العالمية الثانية المدمرة، ألم يهدي زعيم النازية الألماني أدولف هتلر كتب نيتشه إلى صديقه زعيم الفاشية في إيطاليا "موسيليني" لكي يتعلم من نيتشه كيف ينبغي أن يكون أقوى للوصول إلى غايته في تحقيق حلمه لفرض السيطرة والسيادة على باقي الأمم واستعادة مجد روما القديم. وليس اندفاع الغرب اليوم في تطوير صناعته الحربية إلا دليل على اقتناعه التام بأن الحسم يعود في النهاية إلى قوة السلاح والإمساك بزمام التقدم العلمي والتكنولوجيا النووية الضامنة لاستمرار السيطرة على العالم. وبالموازاة مع هذا التوجه تم أيضا إقرار مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان لصالح شعوبها باعتبار الديمقراطية نظام الحكم الضامن لاستمرار حماس الشعب وقوة المجتمع الداعمة لقوة الدولة ومخططاتها وتوجهات سياساتها الهيمنية نحو العالم الخارجي الذي حولت أغلب مجتمعاته إلى أسواق تجارية واستهلاكية، وخصوصا البلدان التي تستنزف ثرواتها، حيث تمكنت من جعلها تستدمج قيم ثقافة الرضا بالعيش في كنف وأسر العبودية والرضوخ للتبعية، والجري وراء تلبية متطلبات الشهوات المادية والجنسية لا غير، وجمع الأموال الطائلة من أجل ضمان عيش حياة رغدة وناعمة بنرجسية وأنانية قاتلة على حساب قوة ورفعة وكرامة ونهضة الأمة. وهي للأسف الحياة التي يعيشها اليوم أغلب من آل إليهم أمر قيادة أمتنا العربية، وهم يعلمون بما ينظرون ويبصرون من تفوق الغرب من حولهم، لكنهم ينظرون ويبصرون ولا يعقلون. وأعود أخيرا لأقول: فهل كان يعلم المتنبي في زمانه ما تحت حوافر جواده وما في جوف الأرض التي قضى حياته يذرعها مرفوع الرأس والهامة يقارع في شموخ كل الآفاق دون النظر إلى ما تحت قدميه، و دونما اكتراث باحتمال كبوة جواده الأصيل على حافة بئر من هذه الآبار التي تريد أن تسقط الأمة اليوم بعراقها بلاد دجلة والفرات، وشامها مهد الأديان ومهبط الوحي وأرض المقدسات، ومصرها بلد التاريخ العريق والحضارات. هذه الآبار المشؤومة التي تحرق وتشرد اليوم أبناء الأمة وتحاول أن تسقط الآن هذا الجزء المهم من أمتنا في الغور السحيق المخيف بدون نظر ثاقب ولا سمع لصوت الضمير العاتب ودون اكتراث أو تقدير لأوخم العواقب. [email protected]