لا شك أن كل من يتابع ولو بشكل يسير وهيًن أخبار المغرب إلا و سيكون قد سمع بالنقاش الحاد و المستفيض الذي تلا مقترحا من رئيس جمعية زاكًورة نور الدين عيوش. مقترح السيد عيوش يروم إدماج الدارجة في السنوات الأولى للتعليم بالمغرب حيث يتعلم التلميذ خلال ثلاث سنوات ب"لغة الأم" ( كما يحلو للسيد عيوش تسميتها و كأن الأب أبكم أو لا لغة له). أول أخطاء هذا المقترح أنه بداية يفترض أن اللغة الأم لجميع المغاربة هي الدارجة, بينما أهمل جزءا لا يستهان به من المواطنين المغاربة الذين قد نجد منهم حتى من لا يفهم كلمة في العربية. على أي, يظهر أن عيوش تدارك هذا الخطأ فيما بعد خلال مداخلاته في وسائل الإعلام و حديثه عن الأمازيغية, مما يجعلني أطرح السؤال: ما موقع من لغته الأم الأمازيغية في برنامج عيوش الدارجي؟ هذه النقطة قد لا تكون متوقعة, و تجعل البرنامح الدارجي صعب التحقيق, خصوصا في ظل اختلاط اللهجات و تعايشها في حيز جغرافي ضيق. و لكن و صراحة فأنا لم أقرر كتابة مقال الرأي هذا لمناقشة مبادرة التعليم و نواقصها أو عيوش و تدريسه لأبنائه بالبعثة الفرنسية, بل قررت فقط أن أجعل مقدمتي توطئة و أبرز من البداية اختلافي مع عيوش كشخص, و ليس فكرته كمادة أولية قابلة للصقل و التكرير. كمغربي مزداد بإحدى المدن العتيقة, أجد علاقتي بالدارجة علاقة وطيدة اكتسبتها من أجدادي و من دروب و أحياء تعايش فيها الأمازيغي و الأندلسي و العربي و الإفريقي لمئات السنين. تطور بعض المناطق عبر التاريخ يجعلها تكتسب تاريخا و ثقافة محليًة تميزها عن باقي المناطق و المدن, و تكسبها هوية خاصة. هذا كان حال عديد المدن في المغرب. من بين نتائج هاته السيرورة التاريخية بزوغ لهجات محلية تشبعت بكل المكونات الثقافية السالفة الذكر. حديثي بدارجتي يشعرني بالإنتماء لمدينتي, التي هي بطبيعة الحال جزء لا يتجرأ من المغرب, ولكن المكون الجهوي و الإفتخار به يبقى ولا محالة مبعث فخر و تثبيث لتاريخ غني وجب علينا كجيل جديد نفض الغبار عنه. ما وددت التأكيد عليه إذن هو أن دارجتي مكوًن من هويتي الجهوية, التمعن في أصول كلماتها مثلا يجعلني أفهم عدة أحداث أو أستنتج علاقات قد لم تكن تخطر على البال. علاقتي إذن كشخص من دارجتي و هذا المكون من هويتي وطيدة و لا شك, لهذا أود الآن أن أرجع إلى مقترح نور الدين عيوش و أبدي ملاحظاتي عليه, مدفوعا بغيرتي على الدارجة. • أول ما يحز في قلبي هو خلط أغلب الشباب للدارجة باللغة الفرنسية و تسميتها ب"الدارجة", و يظهر لي من خلال توجهات مؤسسة زاكًورة أن هدفها و الله أعلم الإشاعة لهاته الدارجة و كأنها ما نتكلمه في المغرب. الدارجة حسب ما أعلمه منذ طفولتي أنواع, و نوع الدارجة المختلط بالفرنسية يكون عادة بسبب الجهل بالكلمات الموجودة أصلا في الدارجة, مثلا قول "بلو سييل" عوض "الشًيبي" أو "روبيني" محل "البزبوز/السبًالة" وغيرها كثير, إن افترضنا طبعا حسن النية. أما المستوى الآخر من الفرنسة, فيتجلى في إقحام كلمات فرنسية يومية من قبيل "سافا","بيان سيغ" و غيرها كثير كذلك. طلبي الأول إذن هو طلب مشاورة مع من يدعي تمثيل الدارجة ليحدد لنا أي دارجة يريد استعمال (دارجة الأجداد النقية و القحة, أم دارجة مهجنة لا تعرف ساسها من راسها), حتى نعرف هل نكون معه أو ضده. بغض النظر عن فكرة عيوش و اقحام الدارجة في التعليم, فالتدريس بلغة معينة يستلزم كونها قوية من حيث المعجم, و هذا الخلط اللغوي و الفوضى "الممنهجة" التي تتعرض لها الدارجة بمزجها مع الفرنسية أخطر ما قد يجعل حالها يسوء. فإن أردنا تقوية الدارجة, وجب العمل كما سبقك يا عيوش المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية, و التنقيب في الكلمات الأصيلة من مدينة لأخرى, لتقوية الدارجة بمصطلحاتها عوض ادخال خمس كلمات فرنسية في كل جملة. ما عدا ذلك يعتبر مضيعة للوقت و تمييعا للنقاش, بل و أسوأ تأثيرا على الهوية الدارجة و إضعافا لها أكثر مما هي ضعيفة عليه من بلادات محطات الراديو الخاصة... • ثاني نقطة أتطرق إليها إذن مرتبطة بالنقطة الأولى. ماهي الدارجة؟ لهجة أم لغة؟ من خلال عدة أبحاث و دراسات شخصية وصلت إلى خلاصة أن الدارجة لهجة لحد الساعة (ولكن أقرب ما يكون للغة), و تطويرها لمستوى لغة قد يتطلب بعض المراحل. أكبر عائق يواجه الدارجة لتصير لغة هو نفس عائق العربية الفصحى, ألا و هو ضعف المعجم في كل ما يتعلق العلم الحديث. وجب استدراك هذا الأمر في كلتا "اللغتين" إضافة لللأمازيغية, إذ لا يعقل أن تسمي نفسك عربي/أمازيغي و أنت تكرر طوال اليوم كلمات "طيليكوماند"/"كلافيي"/"ديسك دير" و مثلها المئات. يقول ابن خلدون : "إن قوة اللغة في أمة ما ، تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم ، لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم". صحيح أن منزلتنا الآن باهتة على جميع الأصعدة, و لكن هذا السكون و هاته الحيادية السلبية لا تجعل الأمور إلا سوءا. أدعوكم يا مغاربة مهما كانت اللغة التي تدافعون عنها أن تبادرو إلى البحث عن كلمات "مغربية" من واقع مغربي لمواجهة هذا الإكتساح. لقد زرت في 2010 استونيا التي يسكنها مليون نسمة و استقلت من الإتحاد السوفياتي في 1991 و كانت اللغة الرسمية الروسية. تعجبت لما عرفت أن الجامعة في إستونيا تدرس باللغة الإستونية.. فبالله عليكم هل دولة أصغر 40 مرة من المغرب طورت لغتها في 20 سنة لتصل به للتعليم الجامعي و البحث العلمي, و نحن لا زلنا لم نجد مقابلا ل"ميكرو أوند" بالدارجة؟ بعض الأحيان أتصور أنها إرادة من "التماسيح و العفاريت" لخدمة مصالح "بعض الدول" إضافة طبعا لعدم افتخار فئة من المغاربة بأصولها... • رجوعا لفكرة ادارجة إذن, جلست مرة أفكر, لماذا اقتصر الأمر على التعليم؟ لماذا لا نفكر نحن في الإبداع بلهجتنا إن أردنا أن نجعلها لغة و نرفع مستواها من ما يراه البعض "هضرة الزنقة" إلى لغة "كاملة مكمولة". في هذا الإطار و لإبعاد النقاش عن موضوع حساس كالتعليم, لماذا لا نحاول كتابة مواضيع بالدارجة حول العلوم أو مواضيع عامة؟ رفع مستوى الدارجة هو الذي سيمكن من تغيير النظرة إليها و سيجعل الناس تعتاد على القراءة بها, الأمر الذي يكون عادة سلسا و سهلا جدا, لأنها كلغة تكون الأقرب إلى الناطق بها كلغة أم و تمشي مباشرة إلى عقله دون تأوييل معيًن. في هذ الإطار أود الإشادة بمبادرة وانضيضا لشرح العلوم بالدارجة, إضافة إلى مبادرات "التويتوما" سواء بمدوناتهم بالدارجة أو بتغريداتهم. إذا حاولنا جميعا الكتاية حول مواضع مختلفة بدارجتنا سنحس بحلاوة أخرى و أترك لكم التجربة في انتظار منتوج وفير ربما. يأتي هنا طبعا موضوع مهم ألا و هو, هل هذه مبادرة ضد العربية؟ لا أبدا و الدليل أنني الآن أكتب بالعربية الفصحى, و لكن أليس لكل شعب هوية؟ من أبرز مكونات الهوية اللغة, و لما أكتب بالدارجة فأنا أصلا أعلم أنني أكتب للمغاربة نظرا لكونهم من يفهمها, و بالتالي يختلف طرح المواضيع, بل و تختلف المواضيع أنفسها. قد يأتي من يقول أنني بفعلي هذا أحرم القراء العرب من الفهم, و لكن أليس هذا ما أقوم به عندما أتكلم في الشارع؟ فلماذا لا يقول لي أحد تكلم معي الفصحى و يطرح الأمر كتابة فقط؟ فطبعا سأحدث عربيا ألتقيه بالعربية الفصحى, و لكن إذا كنت الآن أود أن أكتب عن مباراة كرة سلة في حيي, فهل سيكون جل القراء يا ترى من اليمن أو الكويت؟ فلنجرب بيينا و نحكم بعد ذلك. مسألة الهوية ضعيفة شيئا ما في المغرب و غالبا ما نتأثر بالمشرق أو المغرب, و ماهذه المبادرة اللغوية إلا فكرة لنستكشف أنفسنا, و لهجتنا الغنية بكلماتها ذات أغلب الأصول العربية/الإسبانية و قواعدها الأمازيغية الصرفة. • أخيرا و ليس أخيرا, وددت أن أذكر أنه علينا دائما التفريق بين الشخص و الفكرة. رجوعي لهاته النقطة مهم نظرا لأن الإنتقادت توجه لعيوش, الذي أنا أيضا لا أتفق معه, و لكن هل إذا قال عيوش أن الأرض كروية نقول لا مخطئ فقط لأن من قالها عيوش؟ تفريقنا للشخص عن الفكرة يكون أول مرحلة لنقاش هادف, و غيرتنا على مغربنا و هويتنا الأصيلة محركنا في ذلك.